تباعد المصلين في الصفوف هل يؤثر على صحة الصلاة

رابط الفتوى

السؤال

مَا رأيكمْ فِي التباعدِ بينَ المصلينَ؛ وقايةً مِنِ انتقالِ المرضِ والعدوَى بالفيروساتِ فِي زمنِ الوباءِ؟هلْ يؤثرُ عَلى صحةِ الصلاةِ

الاجابة

الحمدُ للهِ وحدَهُ، والصلاةُ والسلامُ علَى مَنْ لَا نبيَّ بعدَهُ؛ نبيِّنَا محمدٍ وعلَى آلِهِ وصحبِهِ.
أمَّا بعدُ:
فقدْ أجمعَ أهلُ العلمِ علَى أنَّ النبيَّ - صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - نَدَبَ إلَى تسويةِ الصفوفِ فِي صلاةِ الجماعةِ وإلَى التراصِّ فيهَا؛ سواءً كانتِ الصلاةُ مفروضةً أمْ نافلةً. وقدْ جاءَ فِي ذلكَ أحاديثُ كثيرةٌ؛ منهَا مَا جاءَ فِي الصحيحينِ منْ حديثِ أنسٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنَّ النبيَّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ - قال: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ؛ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ»  (1)  . وكذلكَ مَا رواهُ البخاريُّ منْ طريقِ أنسٍ قالَ: أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي»  (2)  . وقدْ حمَلَ عامةُ أهلُ العلمِ أَمْرَ النبيِّ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ – بالتراصِّ بينَ المصلينَ علَّى الاستحبابِ  (3)  ، وحُكِي الإجماعُ علَى ذلكَ  (4)  . وقيلَ: بلْ تجبُ التسويةُ والتراصُّ فِي الصفِّ  (5)  .
ومهمَا يكنْ مِنْ أمرٍ؛ فإنَّهُ لَا خلافَ بينَ أهلِ العلمِ فِي أنَّ التباعدَ بينَ المصلينَ فِي الصفِّ بتركِ فُرَجٍ بينَهُمْ وعدمِ التراصِّ - لَا يُبطلُ الصلاةَ بلِ الصلاةُ صحيحةٌ  (6)  ، ولوْ زادَ الفصلُ بينَ المصلينَ علَى مقامِ ثلاثةِ رجالٍ  (7)  . وهذَا التقريرُ فيمَا إذَا كانَ التباعدُ لغيرِ حاجةٍ.
أمَّا إذَا دعتْ حاجةٌ إلَى التباعدِ بينَ المصلينَ وعدمِ تراصِّهِمْ فتزولُ الكراهةُ؛ وممَّا يندرجُ فِي ذلكَ مَا قدْ تقتضيهِ التدابيرُ الاحترازيةُ للوقايةِ مِنَ العدوَى وانتقالِ الأمراضِ والفيروساتِ الوبائيةِ؛ فإنَّهُ لَا كراهةَ حينئذٍ سواءً أكانَ التباعدُ بينَ المصلينَ وتركُ التراصِّ لحاجةٍ خاصةٍ؛ كمَا لَوْ تَرَكَ ضعيفُ المناعةِ فُرْجةً فِي الصفِّ توقيًا للعدوَى؛ أمْ كانَ التباعدُ بينَ المصلينَ وتركُ التراصِّ لحاجةٍ عامةٍ كمَا فِي أزمنةِ انتشارِ الأوبئةِ وخشيةِ انتقالِ الفيروساتِ؛ فالقاعدةُ أنَّ الحاجاتِ تبيحُ المكروهاتِ  (8)  ، وهذَا ظاهرٌ علَى القولِ باستحبابِ التراصِّ بينَ المصلينَ.
أمَّا علَى القولِ بوجوبِ التراصِّ بينَ المصلينَ وتحريمِ التباعدِ بينَهُمْ؛ فإنَّ الوجوبَ والتحريمَ يزولانِ فِي أزمنةِ انتشارِ الأوبئةِ المعديةِ؛ وذلكَ أنَّ التباعدَ بينَ المصلينَ وعدمَ التراصِّ حاجةٌ عامةٌ لوقايةِ الناسِ مِنِ انتقالِ الأوبئةِ وعدوَى الفيروساتِ؛ والحاجةُ العامةُ تُنَزَّلُ منزلةَ الضرورةِ، والضروراتُ تبيحُ المحظوراتِ. وبالتالِي لَا حَرَجَ علَى المصلِّينَ فِي أنْ يكونَ بينَهُمْ تباعدٌ وفُرَجٌ بالقدرِ الذِي يحصلُ بِهِ توقِّي انتقالِ الأوبئةِ والفيروساتِ؛ ويتحققُ بِهِ مَا يُؤمَّلُ مِنِ الاجتماعِ فِي الصلاةِ. وممَّا يؤيدُ ذلكَ أنَّ الشريعةَ راعتِ الظروفَ الطارئةَ والأحوالَ العارضةَ التِي تقتضِي التيسيرَ ورفعَ الجناحِ، فأرخصَ اللهُ فيهَا بِمَا يناسبُهَا سواءٌ فِي صلاةِ الفردِ أوِ الجماعةِ؛ مِنْ ذلكَ أنَّ اللهَ أَذِنَ للمصلِّي حالَ الخوفِ أنْ يأتيَ بِمَا يقدرُ عليهِ مِنْ أركانِ الصلاةِ وواجباتِها، وتركِ مَا يعجزُ عَنْهُ كَمَا فِي قولِهِ تعالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}  (9)  ، ومِنْ ذلكَ أيضًا أنَّ اللهَ أرخصَ لرسولِهِ وللمؤمنينَ مَعَهُ فِي صلاةِ الخوفِ مِنَ التقدُّمِ والتأخُّرِ والحركاتِ وغيرِ ذلكَ ممَّا يتحققُ بِهِ لَهُمْ إقامةُ الصلاةِ حَسَبَ الوسعِ وأخْذِ الحذرِ مِنَ العدوِّ. عَجَّلَ اللهُ بالفرجِ لعبادِهِ، وأتمَّ للجميعِ العفوَ والعافيةَ والصحةَ والسلامةَ مِنْ كلِّ داءٍ ووباءٍ. وصلَّى اللهُ علَى نبيِّنَا محمدٍ وآلِهِ وصحبِهِ وسَلَّمَ.

أخوكم
أ.د خالد بن عبدالله المصلح
5/9/1441هـ
28/4/2020م