خطبة الكسوف 29/ 10 /1441 هـ

رابط المقال

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَى اَلْبَشِيرِ اَلنَّذِيرِ اَلسِّرَاجِ اَلْمُنِيرِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

أمَّا بَعد..
فَاَللَّهُ -جَلَّ فِي عُلَاهُ- يَجْرِي فِي أَحْكَامِ كَوْنِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدْرِهِ مَا يَكُونُ خَيْرًا لِعِبَادِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَوْنًا لَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يُجْرِيهِ اَللَّهُ تَعَالَى مِنْ اَلنُّذُرِ وَالْآيَاتِ اَلَّتِي يُنَبِّهُ اَللَّهُ تَعَالَى بِهَا اَلنَّاسَ مِنِ اَلْغَفْلَةِ، وَيَرُدَّهُمْ فِيهَا وَبِهَا إِلَى اَلْهُدَى وَالصِّرَاطِ اَلْمُسْتَقِيمِ، فَإِنَّ اَللَّهَ -جَلَّ فِي عُلَاهُ- قَالَ فِي مُحْكَمِ كِتَابَهِ: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ  (1)  .
وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ اَلْآيَاتُ اَلْكَوْنِيَّةُ اَلَّتِي يُجْرِيهَا اَللَّهُ تَعَالَى وَيَقْضِيهَا وَيُقَدِّرُهَا لِيَشْهَدهَا اَلنَّاسُ، فَيَعْلَمُوا عَظِيمَ قُدْرَةِ رَبِّهِمْ -جَلَّ فِي عُلَاهُ- وَعَظِيمَ فَقْرِهِمْ إِلَيْهِ، وَضَعْفِهِمْ وَافْتِقَارِهِمْ إِلَيْهِ –سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ-، وَبِالتَّالِي كَانَ اَلْمُؤَمِنُ إِذَا رَأَى مِثْلَ هَذِهِ اَلْآيَاتِ لَا يَجِدُ مَلْجَأَ وَلَا مَفْزَعًا إِلَّا اَللُّجْأَ إِلَى اَللَّهِ –جَلَّ وَعَلَا- فَإِنَّهُ إِذَا رَأَى شَيْئًا مِنْ اَلْآيَاتِ اَلْمُذَكِّرَةِ اِتَّعَظَ وَاعْتَبَرَ، وَأَمَّا اَلْغَافِلُ فَإِنَّهُ يَرَى مِنْ اَلْآيَاتِ فِي اَلسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا يُذَكِّرَهُ لَكِنَّهُ مُعرِضٌ كَمَا قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ  (2)  .
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ مِنِ اَلْآيَاتِ اَلْعَظِيمَةِ اَلَّتِي أَجْرَىَ اَللَّهُ تَعَالَىَ بِهَا عَلَىَ اَلنَّاسِ ذِكْرًا وَعِبْرَةً، وَقَدْ ذَكَرَ اَللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ هَاتَيْنِ اَلْآيَتَيْنِ، وَأَقْسَمَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ اَلْحَكِيمِ؛ وَذَلِكَ لِلَفْتِ اَلْأَنْظَارِ إِلَى عَظِيمِ اَلْخَلْقِ، وَهَذَا اَلخَلْقُ جَارٍ بِأَمْرِ اَلرَّبِّ -جَلَّ فِي عُلَاهُ-، فَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اَللَّهِ كَمَا قَالَ اَلنَّبِيُّ – صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -  (3)  ، وَمَا يَجْرِي فِيهِمَا وَعَلَيْهِمَا إِنَّمَا هُوَ بِأَمْرِهِ، فَهُمَا مِلْكُهُ، جَارِيَانِ عَلَى تَقْدِيرِهِ قَالَ اَللَّهُ –جَلَّ وَعَلَا- فِي مُحْكَمِ كِتَابَهِ: ﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ  (4)  .

فَكُلُّ ذَلِكَ فِي جَرَيَانِهِ بِحُسْبَانٍ دَقِيقٍ، فَمَا يُجْرِيهُ اَللَّهُ تَعَالَى عَلَىَ اَلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مِنِ اَلْكُسُوفِ عِبْرَةً وَعِظَةً، وَقَدْ جَرَى ذَلِكَ فِي زَمَنِ اَلنَّبِيِّ –صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي اَلسَّنَةِ اَلْعَاشِرَةِ مِنْ اَلْهِجْرَةِ فِي مِثْلِ هَذَا اَلْيَوْمِ، فِي اَلتَّاسِعِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَوَّالِ مَاتَ اِبنَهُ إِبْرَاهِيم صَلَوَاتُ اَللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.

فَقَالَ بَعْضُ اَلنَّاسِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ اَلْجَاهِلِيَّةِ: كُسِفَتِ اَلشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ اَلنَّبِيُّ –صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ كُسُوفِ اَلشَّمْسِ وَصِلَاتِهِ صَلَاةً طَوِيلَةً قُدِّرَتْ بِأَرْبَعِ سَاعَاتٍ، قَرَأَ فِيهَا فِي اَلْقِرَاءَةِ اَلْأُولَى نَحْوًا مِنْ سُورَةِ اَلْبَقَرَةِ، ثُمَّ هَكَذَا فِي اَلْقِرَاءَةِ اَلثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ خَطَبَ اَلنَّاسَ – صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقال:َ إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتان من آياتِ اللهِ لا يَنْكَسِفانِ لموْتِ أَحَدٍ وَلا لحِياتِهِ، يُخوِّفُ اللهُ بِهما عِبادَهُ، فإذا رِأِيْتُموهما -أيْ رَأَيْتُمْ كُسُوفَ الشَّمْسِ أَوِ القَمَرِ- فادْعوُا وَصَلُّوا حَتَّى يَنْكَشِفَ»  (5) 

أَيْ أَدِيمُوا اَلدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ إِلَى اَللَّهِ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَالتَّوْبَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَيْهِ وَالْأَوْبَةِ وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُنَاجَاتِهِ حَتَّى تَنْجَلِي.

أَيْ حَتَّى يَزُولَ مَا بِكُمْ مِنْ كُسُوفٍ أَوْ خُسُوفٍ فِي اَلشَّمْسِ أَوْ اَلْقَمَرِ.
وَلِهَذَا كَانَ مِنْ اَلْمَشْرُوعِ لِأَهْلِ اَلْإِيمَانِ إِذَا جَرَىَ مَا يُجْرِيهِ عَلَى هَذَيْنِ اَلْقَمَرَيْنِ مِنْ اَلْآيَاتِ مِنَ اَلْكُسُوفِ أَنْ يَفْزَعُوا إِلَى اَللَّهِ بِالصَّلَاةِ وَالذِّكَرِ وَالدُّعَاءِ، وَأَنْ يَلْجَئُوا إِلَيْهِ مُسْتَغْفِرِينَ، فَإِنَّهُ –جَلَّ وَعَلَا- قَدْ قَالَ: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ  (6)  ، وَلَا رَيْب أَنَّ هَذَا اَلتَّغَيُّرَ فِي اَلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ هُوَ مِمَّا يُجْرِيهِ اَللَّهُ تَعَالَى وَفْقَ مُقَدِّمَاتٍ طَبِيعِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْفَيَ عِنْدَ أَهْلِ اَلْإِيمَانِ مَا فِي هَذِهِ اَلْآيَةِ مِنْ اَلحِكَمِ وَلَا يُزِيلُ مَا فِيهَا مِنْ اَلْعِبَرِ، فَقَدْ جَعَلَ اَللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، وَلِذَلِكَ عَلِمَ اَلنَّاسُ بِمَوَاعِيدِ اَلْكُسُوفِ اِبْتِدَاءً، وَاكْتِمَالاً، وَانْجِلَاءً، لَا يُزِيلُ عِنْدَ أَهْلِ اَلْإِيمَانِ مَا فِي هَذِهِ اَلْآيَةِ مِنْ اَلْعِبْرَةِ وَالْعِظَةِ، فَإِنَّهَا آيَةٌ عَظِيمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى قُدْرَةِ اَللَّهِ –عَزَّ وَجَلَّ-.  

كَمَا أَنَّ اَلنَّاسَ لَا يَأْمَنُونَ وَإِنْ عَلِمُوا اِبْتِدَاءَ اَلْكُسُوفِ، لَا يَعْلَمُونَ مَا قَدْ يُجْرِيهِ اَللَّهُ تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ اَلْكُسُوفِ مِنْ اَلْوَقَائِعِ وَالْأَحْدَاثِ، فَقَدْ قَالَ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَهْلِ اَلْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ –صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «يُخوِّفُ اللهُ بهِ عِبادَه» يَدُلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا اَلزَّمَنَ زَمَنُ كُسُوفِ اَلشَّمْسِ أَوْ اَلْقَمَرِ جَدِيرٌ أَوْ هُوَ مَحَلٌّ لِنُزُولِ آيَاتٍ وَمَصَائِبَ تَنْزِلُ بِالنَّاسِ يسْتَدَفِعُونَهَا بِالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ وَالذِّكَرِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَجَّهَ إِلَيْهِ اَلنَّبِيُّ –صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

فَعِلْمُ اَلنَّاسِ بِابْتِدَاءِ اَلْكُسُوفِ وَانْتِهَائِهِ وَاكْتِمَالِهِ وَانْجِلَائِه، لَا يُزِيلُ مَا فِي هَذِهِ اَلْآيَةِ مِنْ عِبْرَةٍ وَعِظَةٍ، فَالْمُؤْمِنُ اَلْمُصَدِّقُ بِقَوْلِ اَللَّه، بِقَوْلِ رَسُولِهِ يَعْتَبِرُونَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ اَلْآيَةِ إِلَّا أَنَّهَا نَمُوذَجٌ لِمَا سَيَشْهَدُهُ اَلنَّاسُ عَنْ قِيَامِ اَلسَّاعَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي اَلِاعْتِبَارِ وَالِاتِّعَاظِ ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ* أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ* بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ* يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ  (7)  .
ثُمَّ ذَكَرَ اَللَّهُ تَعَالَى حَوَادِثَهَ وَوَقَائِعَهُ فِي ذَلِكَ اَلْيَوْمِ ﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ* وَخَسَفَ الْقَمَرُ* وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ*يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾[القيامة:- 7- 10]

مَا أَضْعَفَ اَلْإِنْسَانَ وَأَعْجَزَهُ وَأَطْغَاهُ! عِنْدِ اِسْتِغْنَائِهِ عَنْ رَبِّهِ أَوْ ظَنِّهِ بِالْغِنَى، فَجَدِيرٌ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهَذِهِ اَلْآيَاتِ وَأَنْ يَتَّعِظَ، وَأَنْ يُقْبِلَ عَلَى اَللَّهِ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ فِي خَاصّةِ نَفْسِهِ، فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَأَنْ يُصْلِحَ اَلْعَمَلَ، وَأَنْ يَتَفَقَّدَ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَمَنْ حَوْلَهُ مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهِمْ وِلَايَةٌ بِالنُّصْحِ وَالْإِرْشَادِ.


أَسْأَلُ اَللَّهَ اَلْعَظِيمَ رَبَّ اَلْعَرْشِ اَلْكَرِيمِ أَنْ يَدْفَعَ عَنَّا وَعَنْكُمْ كُلَّ سُوءٍ وَبَلَاءٍ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عِبَادِهِ اَلْمُتَّقِينَ، وَحِزْبهِ اَلْمُفْلِحِينَ، وَأَوْلِيَائِهِ اَلصَّالِحِينَ، أَقُولُ هَذَا اَلْقَوْلَ وَأَسْتَغْفِرُ اَللَّهَ اَلْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ فَاسْتَغْفَرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ.