الحلقة (237) خصائص شهر الله المحرم

رابط المقال

المقدم:نحييكم تحية طيبة مباركة من إذاعة "نداء الإسلام" من المملكة العربية السعودية ويسرنا أن نقدم إلى حضارتكم حلقة هذا الأسبوع من برنامجكم الأسبوعي "الدين والحياة".

أيها الأحبة! يسرنا أنا عبد الله سعد بن عزة أن أكون معكم، ويشاركني في التنفيذ والإخراج من الهندسة الإذاعية الزميل علي الصايغ، يسرنا جميعًا أيها الأحبة أن نرحب بضيف برنامجنا هذا الدائم سعادة الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، والذي هو في صحبتنا في هذه اللحظات. دكتور خالد! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بك.

الشيخ:وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياكم الله، مرحبا بك وبالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، حياكم الله.

المقدم: أهلا وسهلا بك دكتور خالد، حياكم الله أنتم أيها الإخوة والأخوات أينما كنتم، يا من تستمعون إلينا في هذه اللحظات.

أيها الأحبة! الله –سبحانه وتعالى-خالق الخلق ومدبرهم، له الخلق والأمر سبحانه، يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من المخلوقات البشر، واختار من البشر المؤمنين، واختار الأنبياء والرسل من المؤمنين.

الله –سبحانه وتعالى-فضَّل بعض الأيام والليالي والشهور على بعض، فخير الأيام عند الله كما تعملون أيها الأحبة يوم النحر، ويوم الحج الأكبر، وأفضل الليالي ليلة القدر، وأفضل الشهور شهر رمضانـ واختار الله –عز وجل-أيضًا من الأشهر أيها الأحبة شهر الله المحرم، يأتي له أفضلية كما ثبت ذلك في حديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم-.

دكتور خالد! حدثنا عن قيمة الاصطفاء التي يريدها الله –سبحانه وتعالى-، فهو يصطفي ويختار من خلقه ما يشاء، ما هو مفهوم الاصطفاء والاختيار الإلهي، وما هي أنواعه أيضًا؟ وما الحكمة من هذا الاصطفاء الذي يريده الله –سبحانه وتعالى-من خلقه ومن كافة المخلوقات، سواء كانت من البشر أو من غير البشر؟ تفضل.  

الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية طيبة لك أخي عبد الله وللإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من المباركين، ومن المصطفين الأخيار.

أيها الإخوة والأخوات! الله –عز وجل-خلق الخلق وهو بهم عليم ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (1)  جل في علاه، فقد أحاط –سبحانه وتعالى-علمًا بخلقه في السماء والأرض، ما من حركة ولا سكون، ولا خلق في سماء أو أرض إلا والله تعالى به عليم، وهو عليه شهيد، وبه محيط، وعليه قدير، لا يخفى عليه من شأنه خافية –سبحانه وبحمده-.

وقد أخبرنا في كتابه –جل وعلا-عن خلقه للخلق، وأنه اختار من خلقه شيئًا من المخلوقات اصطفاها –جل وعلا-واختارها من بين خلقه، وله في ذلك الحكمة البالغة، قال الله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (2)  ، فيخبر الله تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يخلق ما يشاء، فكل الخلق خلقه، وكل ما في الكون بإيجاده ومشيئته وقدرته –سبحانه وبحمده-، فما من شيء خارج عن خلق الله تعالى، الله خالق كل شيء، ثم هو –جل وعلا-اصطفى من هذا الخلق واختار لحكمة، ولم يجعل الاختيار لغيره، ولذلك قال: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (3)  ، يعني ليس للخلق الاختيار فيما يجري من اصطفاء واختصاص وسائر ما يكون من الوقائع والأحداث، ليس لهم اختيار فيما يعطى ويمنع، فيما يبسط ويقبض، فيما يعطي وينزع، فذاك شأنه –جل وعلا-، وهو –سبحانه وبحمده-العليم القدير، الذي تجري كلُّ الوقائع والأحداث بأمره –سبحانه وبحمده-، ولذلك قال: ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ (4)  ، ثم نزه نفسه عن أن يكون له شريك في ذلك الاختيار، أو في ذلك الخلق، قال: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (5)  ، أي حيث يسَوُّون غيره به –جل وعلا-، يسوون غير الله –سبحانه وبحمده-بالله، فيجعلون له اختيارًا، وله خلقًا، أو له حقًّا في العبادة، أو ما إلى ذلك من أوجه التسوية التي أشارت إليها الآية الكريمة، والتي تورط فيها من تورَّط من أهل الشرك والكفر، وإذا نظرنا إلى كلام الله –عز وجل-في محكم التنزيل وجدنا أن الله –سبحانه وبحمده-أخبر عن اختيارات متعددة اختارها –سبحانه وبحمده-جملة وتفصيلًا، ففي الاختيار المجمل قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ (6)  ، فيخبر الله تعالى هنا عن اختياره واصطفائه من صنفين من أصناف خلقه وهم الملائكة والإنس، وهم من أشرف مَن خَلَق الله –عز وجل-، ومن أعلى ما خصه الله تعالى بالفضل من مخلوقاته، ومع هذا التخصيص لهذين الصنفين بالفضل والتميز، إلا أن الله تعالى خص بعض هؤلاء بخصائص واصطفاء زائد على سائر الخلق، فاصطفى –جل وعلا-جملة من الملائكة وجملة من الخلق، فجعل من بني آدم من الناس فجعل لهم من المزايا والاختصاصات ما ميزهم به، فعلى سبيل المثال ذكر الله تعالى اصطفاء آل عمران وآل إبراهيم وآدم ونوح، فقال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ (7)  ، بما خصه به من الخصائص، ﴿ونوحًا﴾ الذي جعله الله تعالى أول رسول لأهل الأرض ﴿وآل إبراهيم﴾ والاصطفاء في إبراهيم وفي آله وهم أهله وذريته ﴿وآل عمران﴾ وهؤلاء من ذرية إبراهيم لكن خصوا أيضًا بخاصية دون سائر ذرية إبراهيم على العالمين، أي: ميزهم واختارهم على العالمين واختياره –جل وعلا-بعلم وحكمة، هنا انظر التخصيص الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية لبني آدم، اصطفاء أفراد واصطفاء جماعات، فاصطفى آدم فردًا، ونوحًا فردًا، وآل إبراهيم وآل عمران جماعة، اصطافهم الله تعالى على العالمين.

والاصطفاء أيضًا جاء للرسل صلوات الله وسلامه عليهم، واصطفاء غير الرسل، فالاصطفاء لا يختص بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم، بل ذكر الله تعالى أنواعًا من الاصطفاء لبعض من ليس من رسل الله –عز وجل-، مثال ذلك مريم -عليها السلام- ليست نبيه، ولا هي من الرسل، والله تعالى يقول: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (8)  ، فاصطفاها –جل وعلا-وخصها بما خصها به من المزايا والهبات والعطايا، وأن جعلها الله تعالى آية للعالمين، فحملت من غير زوج، فجاءت بنبي من أولي العزم من الرسل وهو عيسى عليه السلام.

أيضًا ذكر الله تعالى اصطفاء لغير الأنبياء من الرجال في قصة طالوت، قال موسى لقومه: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (9)  ، هذا أيضًا اصطفاء من بني آدم، هذا الاصطفاء كله في الذوات والأشخاص، سواء كانوا من الملائكة أو كانوا من بني آدم، سواء كانوا أفرادًا أو جماعات، ثم إن الله تعالى أخبر أيضًا فيما يتعلق بالأمم باصطفاء هذه الأمة وهي أمة محمد –صلى الله عليه وسلم-من بين سائر الأمم، فاصطفاها وخصها بميزة وفضائل لم تثبت لأمة من الأمم السابقة، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا (10)  ، وهم أمة محمد –صلى الله عليه وسلم-إذ إن الله –عز وجل-خاطب نبيه محمد –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-فقال: ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (11)  ، ثم قال: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ (12)  ، وهو الذي جاء به النبي –صلى الله عليه وسلم-القرآن ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا (13)  ، وهي هذه الأمة أمة محمد –صلى الله عليه وسلم-، وبين أنها ليست على درجة واحدة من جهة منازلها ومراتبها، لكنها تجتمع في أنها أمة مصطفاة على تفاوت مراتب أفرادها، إذ إن الله تعالى قسمهم إلى ثلاثة أقسام فقال: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (14)  ، نعم إي والله أنه لفضل كبير أن يكون الإنسان من هذه الأمة التي آمنت بالنبي محمد –صلى الله عليه وسلم-وصدقته، وآمنت به –صلى الله عليه وسلم-، ورضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد –صلى الله عليه وسلم-نبيًّا.

 ثم القرآن أيضًا أخبرنا عن اصطفاء آخر وهو اصطفاء يتعلق بالديانة، وما جاءت به الرسل من الهدايات، فالله تعالى يقول في محكم كتابه في وصية إبراهيم لبنيه ويعقوب، قال: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ (15)  ، أي اختاره فاختار لكم أحسن الأديان وأكملها ﴿فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (16)  ، وفي عموم خطابه للأمة قال: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا (17)  هذا من حق إبراهيم ﴿وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (18)  ، فالله تعالى اصطفى به الإسلام من بين الأديان، وجعله موضوع الرسالات، فكل رسول جاء إلى قومه جاء يدعوهم إلى عبادة الله وحده، فدينهم جميعًا الإسلام ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ (19)  ، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (20)  ، واختلفت الشرائع، وتنوعت الفرائض، وتعددت السبل في تلك الشرائع وتلك الملل الموصلة إلى الله –عز وجل-،كان أكملها وأوفاها وأعلاها كمالًا هذا الدين الذي ختم الله تعالى به الرسالات، كما قال الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا (21)  .

أيضًا هناك اصطفاء آخر لله –عز وجل-وهو ما يتعلق بالمكان، فإن الله اصطفى أمكنة خصها بفضائل دون سائر البقاع والأماكن، وله في ذلك الحكمة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (22)  ، هاتان الآيتان ذكر الله تعالى فيها أنواع من الاصطفاء والتخصيص والاختيار لهذه البقعة التي جعلها بهذه المنزلة، حيث خصها قَدَرًا وشرعًا، فخصها قدرًا بأن كانت أول موضع يعبد فيه الله –عز وجل-، وأن فيها ما ذكر الله تعالى من المزايا ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا (23)  ، كل هذه خصائص وشرائع، منها ما هو قَدَريٌّ ثم جاءت الخاصية الشرعية التي أكد عليها المعنى، فقال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا (24)  ، فجعل قصد هذا المكان هذه البقعة دون سائر أرجاء الدنيا فرضا على المستطيع من أهل الإسلام.

إذًا هناك اختصاص مكاني، هذا المكان الذي خصه الله تعالى بهذه الفضائل واختاره، وهناك اختصاص لا يتعلق بموضع معين، إنما يتعلق بوصف وهي المواضع التي تتخذ مساجد ويعبد فيها الله –عز وجل-، فإن أحب البلاد إلى الله مساجده، وهذا يدل على تخصيص هذه البقاع التي تبنى وتخصص لعبادة الله وحده، وإقام الصلاة، وذكر الله –عز وجل-، كما قال: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ  * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (25)  .

ثم أيضًا هناك اختصاص زمانيٌّ، والاختصاص الزماني بيَّنه الله تعالى في قوله –جل وعلا-: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا

 جميعها مستوية في أن الله قضاها وقدرها وكتبها، ولذلك كل التقاويم الدنيوية التي يجري عليها البشر باختلاف طرائق حسابهم وأساليب عدِّهم إلا أنهم يتفقون في أن الأيام سبعة، وفي أن شهور السنة شهور العام اثنا عشر شهرًا، لا يختلفون في هذا، وهذا مما يدل على أن هذا ليس مما اقترحه فئة دون فئة، بل هذا مما أجرى الله تعالى عليه سنن الكون، فالبشرية جميعًا متفقة على هذا العد وإن اختلفت طريقة الحساب.

المقصود أن الله تعالى أخبر عن هذه الأشهر وعن عدتها التي قضاها وكتبها في سابق تقديره وحكمه –جل وعلا-، ثم قال: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ (26)  ، هذا تخصيص، هذا اصطفاء وتخصيص واختيار لهذه الأربعة، ولذلك بعد أن ذكر الاصطفاء والاختيار ذكر ما تميزت به فقال: ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ (27)  ، الضمير للعلماء فيه قولان:

 منهم من يقول: إنه يعود على كل الأشهر وهذا معنى صحيح، ومنهم من يقول: أنه يعود إلى أقرب مذكور وهو الأربعة الحرم التي ذكرها، فيكون الظلم فيها مغلَّظًا، وإلا فالظلم محرم في كل حال، وفي كل زمان، وعلى كل أحد، لا يختص ذلك بزمان دون زمان، ولا حال دون حال، فهذا النوع من الاصطفاء لهذه الأشهر الحرم بأن جعل لها حرمة ومكانة تصان وتحفظ هو نوع من الاصطفاء الزماني الذي خص الله تعالى به بعض الزمان، ليلة القدر مثلا هي من الليالي الشريفة العظيمة التي أشاد الله تعالى بفضلها ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (28)  ، ثم بين شيئًا من فضائلها فقال: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (29)  ، هذا تخصيص لهذه الليلة بهذه الفضائل أن جعلها الله محلًّا لخصلة قدرية، وهي إنزال القرآن في هذه الليلة المباركة، ثم ذكر خاصية شرعية تتعلق بهذه الليلة أنها خير من ألف شهر، أي العبادة فيها والطاعة والتقرب إلى الله خير من ألف شهر، وجاء بيان ذلك في السُّنة المطهرة حيث قال –صلى الله عليه وسلم-: «من قامَ لَيلةَ القَدرِ إيمانًا واحتِسابًا، غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ مِن ذنبِهِ»  (30)  ، هذا نوع من أنواع الاختصاص التي خص الله تعالى به الزمان، وشهر رمضان أيضًا هو من الأشهر التي خصها الله بفضيلة وهي أنه جعله محلًّا لفرض من فرائض الإسلام وركن من أركانه وهو الصيام، فجعل صيام شهر رمضان من فرائض الإسلام ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (31)  .

إذًا هذه خصائص واختيارات وفئات إلهية للزمان توجب للمرء أن يعرف فضل هذه الأماكن.

 وهنا ننتقل لنقطة أخرى فيما يتعلق بالاصطفاء أن هذا الاصطفاء ليس اصطفاء لا يترتب عليه شيء، بل يترتب عليه حقوق تختلف باختلاف المصطَفَين من الأشخاص والأعياد والأماكن وغير ذلك مما يصطفيه الله –عز وجل-، المعنى المشترك في كل هذه الأمور التي اصطفاها الله تعالى واختارها أنها من شعائر الله التي ينبغي أن تُعظَّم وتصان، ومن حرماته التي يجب أن تحفظ، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ (32)  ، ويقول في الآية الأخرى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (33)  ، كل هذا يبين أن هذا الاصطفاء الإلهي والاختيار يوجب لمن اصطفاه الله أن يعظَّم، وأن يحترم، وأن تحفظ حدود الله تعالى فيه صيانة لاختيار الله تعالى واصطفائه، وتعظيمًا لما عظمه الله تعالى وجعل له من الخاصية والميزة ما ينبغي أن تحفظ وتصان فهذا من تقوى القلوب، ومن الخير الذي يدرك به الإنسان صلاح معاشه وميعاده، ولذلك قال: ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ (34)  .

المقدم: هنا يتبادر دكتور خالد سؤال ربما يعني يطرح في أذهان الكثيرين حينما نستمع إلى مثل هذه الاصطفاءات التي اصطفاها الله –سبحانه وتعالى-للأفراد والأماكن والأزمنة، قد يقول قائل أن اصطفاء الله –سبحانه وتعالى- للأفراد والأماكن والأزمنة ربما يكون مفهومًا بشكل كامل، وهذا الاصطفاء مستمر منذ أن اصطفى الله –سبحانه وتعالى- هؤلاء الأفراد كالأنبياء والأماكن كمكة، والأزمنة كالأشهر الحرم ورمضان مستمر إلى يوم القيامة، الإشكال الذي قد يرِد أن الله اصطفى الأمم، واصطفى من الأمم بعضها كما ورد في الحديث عن النبي –صلى الله عليه وسلم- «إن اللهَ اصطفى كنانةَ من ولدِ إسماعيلَ، واصطفى قريشًا من كنانةَ، واصطفى من قريشٍ بني هاشمٍ، واصطفاني من بني هاشمٍ»  (35)  قريش دكتور خالد كثير، منهم كان مشركًا فكيف يدخلون في هذا الاصطفاء؟ أو أن الاصطفاء هنا له مفهوم آخر؟

الشيخ: المقصود في هذا الاصطفاء العام، لا لكل الأفراد الله تعالى يقول: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ (36)  ، وليسوا على مرتبة واحدة في الاصطفاء، قد يشتركون في معنى الاصطفاء العام لكن يتميزون في هذا الاصطفاء، اصطفاء الله تعالى لقريش ولكنانة هو اصطفاء عام، لا يعني أن كل فرد من هؤلاء مصطفى مرضيٌّ عنه، وقد ذكرت قبل قليل فيما يتعلق باصطفاء هذه الأمة أن هذا الاصطفاء لم يلغ منازل وتفاوت درجات هؤلاء المصطفَين، قال الله –عز وجل-: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ (37)  هو مصطفى مع كونه ظالمًا لنفسه.

والاصطفاء هنا أنه ورث الكتاب، قريش اصطفاها الله من بين القبائل فجعل منها بني هاشم، اصطفى بني هاشم مع أن منهم أبو لهب، لكن هذا لا يعني أن كل من كان من بني هاشم فإنه اصطفاء عام ولا تلزم ثبوت الفضيلة لكل فرد من هؤلاء إذا خرج عما يقتضيه الاصطفاء، وإنما المراد هنا التدرج في الاصطفاء، الاختيار للنبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-فهو خيار من خيار، ولا يلزم من هذا الاصطفاء أن يكونوا على درجة واحدة في الفضل الذي يثبت بهذا الاصطفاء، بل هم قد يكونون متفاوتون كما مثَّلتُ فيما يتعلق باصطفاء هذه الأمة، وكما هو واضح فيما يتعلق باصطفاء بني هاشم واصطفاء قريش وما إلى ذلك.

المقدم: هذا الاصطفاء الذي أراده الله –سبحانه وتعالى-وخص به كثيرًا من خلقه من البشر، وأيضًا من مخلوقاته الأخرى من الأماكن والأزمنة وما إلى ذلك، لا شك أن له آثارًا تعود على هذا المختار أو هذا المصطفي، ما هي هذه الآثار التي تترتب على اختيار الله –سبحانه وتعالى-واصطفائه للأمم والأفراد والأماكن والأزمنة أيضًا؟

الشيخ:أولًا: ما ينبغي أن نستحضره عند ذكر الاصطفاء وهو مما يترتب عليه إثبات الفضيلة لمن أثبتها الله تعالى، فالاصطفاء اختيار، فكل من أثبت له الله تعالى اصطفاء فقد فضله، إما تفضيل أعيان أو تفضيلًا في الجملة ليثبت ما أثبته الله تعالى لهذه الأمور المصطفاة من الفضائل، سواء كانت اصطفاء زمانيًّا أو مكانيًّا، أو شخص أو حال أو عمل، فالاصطفاء يكون على أوجه متعددة، فأول ما يثبت هو إثبات ما أثبته الله تعالى من الاصطفاء.

ثانيًا: هذا الاصطفاء يقتضي إثبات معنى عام، وهو تعظيم ما عظمه الله –عز وجل-، فما اصطفاه الله تعالى فقد عظمه وخصه بخصائص، فينبغي أن يُعرفَ فضله، ويقرَّ بفضله، ويعظم على النحو الذي جاءت به الشريعة ما اختاره الله –عز وجل-، فإن ذلك من شعائره ومن حرماته.

الثالث: قد يقتضي الاصطفاء أحكامًا خاصة في الشيء فعلى سبيل المثال الاصطفاء المتعلق بالنبي –صلى الله عليه وسلم- فهو صفوته من الخلق، النبي –صلى الله عليه وسلم-هو صفوة الله –عز وجل-من خلقه كما ذكر ذلك عمر رضي الله تعالى عنه بين يدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم-وأقرَّه عليه، قال: أهكذا، وأنت رسول الله وصفوته من خلقه أي الذي اختارك من سائر الخلق، فهو أفضل الخلق –صلى الله عليه وسلم-ما الذي يوجبه؟ الإقرار بفضله، وأنه خير الخلق صلوات الله وسلامه عليه.

 وثمة أمور خاصة تتعلق بهذا الاصطفاء، وهو الإيمان به، واتباع سنته، كل هذه المعاني مما يتعلق بالأحكام التي رتبها الله تعالى على هذا الاصطفاء، فمن الاصطفاء ما رتب الله تعالى عليه أحكامًا يجب الإتيان بها حتى يتحقق للإنسان تعظيم ما عظمه الله تعالى، وحفظ حرمات الله –عز وجل-.

من الاصطفاء المكاني مثلا: مكة، اصطفاها الله تعالى من بين سائر بقاع الدنيا، فجعلها مصطفاةً مختارة، بأن جعلها أول موضع عُبد الله تعالى فيه على هذه الأرض، ثم إن الله تعالى جعل هذا الموضع مباركًا، وجعل فيه من هدايات الخلق ما عمت هدايته للعالمين، وجعله آمنًا قَدَرًا قبل البعثة، وشرعًا بعد بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم-، فنهى عن تنفير الصيد وحمل السلاح وما إلى ذلك مما يتعلق بالأحكام المترتبة على هذا الاصطفاء.

 ثم مما يتعلق باصطفاء هذا المكان، جعله موضعًا للحج الذي فرضه الله تعالى على الناس المستطيعين منهم، ثم من ثمار هذا الاصطفاء أيضًا أن جعل الله تعالى البيت الحرام قِبلة للناس يتوجه إليها المسلمون من كل مكان، كل هذا من آثار الاصطفاء الذي بيَّنَته الشريعة، فقد رتب الله تعالى جملة من الأحكام على هذه الأمور المصطفاة، يجب إثباتها، ويجب العمل بها، ولا يجوز الإخلاة بشيء مما جعله الله تعالى من الحقوق الواجبة لهذه الأمور المصطفاة، سواء كانت أعيانًا أشخاصًا، أفرادًا، جماعات، أماكن، أزمنة، أعمالًا، أحوالًا، كل ذلك مما ينبغي أن يحفظ فيه حق الله تعالى فيما اصطفاه من هذه الأمور التي أخبر بها في كتابه وذكر فيها جملة من الأحكام.

ليس لأحد أن يخترع حقوقًا من قِبَل رأسه، ومن قبل ما تشتهيه نفسه فيما يتعلق بما اصطفاه الله –عز وجل-.

فعندما يخترع الإنسان شيئًا يدخل في دائرة التشريع بشيء لم يأذن به الله، كما قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ (38)  ، ويخرج عن قبول عمله لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «من عمِل عمَلًا ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ»  (39)  ،ويمكن أن نشير إلى هذا تطبيقًا فيما يتصل بشهر الله المحرم.

المقدم: لعلنا دكتور خالد ربما يكون هو آخر فقرة في حلقة برنامجنا لهذا اليوم ما يتعلق بشهر الله المحرم، نحن الآن كما تعلم في بداية شهر الله المحرم، وشهر المحرم هو في المرتبة الأولى بين الأشهر الهجرية، وأول الأشهر الهجرية للعام الهجري دائمًا نبدأ به، وهو أحد الأشهر الحرم المباركة التي ذكرها الله –سبحانه وتعالى-في كتابه الكريم في الآية التي ذكرتها أنت قبل قليل ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِيَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ  (40)  ، نود أن نتعرف على خصائص شهر الله المحرم، لماذا هذا الشهر، يعني لماذا فضله الله –سبحانه وتعالى-وأضافه إلى نفسه، قال: شهر الله المحرم في الحديث الذي ورد كما تعلم دكتور خالد أن أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، لماذا هذا التفضيل لهذا الشهر؟ ما هي الخصائص التي خص الله –سبحانه وتعالى-بها هذا الشهر حتى يكون له الأفضلية من بين الشهور؟

الشيخ: فيما يتعلق بالجواب على سؤال لماذا خص الله تعالى هذا الشهر، أو لماذا خص الله هذا الأمر بالاصطفاء أو هذا الشيء بالاصطفاء؟

الجواب: على هذا السؤال هناك ما جاء بيانه في الكتاب والسنة لسبب التخصيص، فعند ذلك يرجع إلى ما جاء في الكتاب والسنة من أسباب التخصيص، على سبيل المثال الله تعالى خص مكة البلد الحرام بفرض الحج، فجعل الحج إلى بيته فرضًا على كل مسلم، هذا التخصيص بين الله تعالى شيئًا من أسبابه، فقال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا (41)  ، أول تفضيل: الأولية، ثم الثاني: ﴿مُبَارَكٗا وَهُدٗى لِّلۡعَٰلَمِينَ ٩٦ (42)  ، الثالث: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ (43)  ، هذا الرابع من أسباب الاختصاص ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا (44)  ، هذا الخامس، ثم قال: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ (45)  ، فكأن هذا إجابة على سؤال، لماذا خصت مكة بفرض الحج؟ لماذا لم يجعل الحج في غيرها؟ ذكر الله تعالى بين يدي فرض الحج الأمور التي أوجبت هذا التخصيص لهذه الفريضة، فالتخصيص لشيء من الأشياء بفضل، أو منزلة، أو مكانة قد يأتي بيان سببه، فعند ذلك يرجع إلى ما جاء في الشريعة لبيان السبب، وقد لا يتبين السبب ولكننا نوقن أنه ما من شيء اختاره الله تعالى واصطفاه إلا وثمة حكمة، وثمة علة وسبب لهذا الاختيار، قد خفي علينا، قد نعلمه، وقد لا نعلمه، والمؤمن في مثل هذا المقام ليس له إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا، وينقاد لما اختاره الله واصطفاه ﴿مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ  (46)  ، وهذا يقطع كلَّ اعتراض على شيء من اختيارات الله –عز وجل-واصطفاءاته، ليس لك الاختيار، ولا لك الاصطفاء، ولا لك أن تثبت أو تنفي، بل عليك الاتباع والقبول والسمع والطاعة لما جاء عن الله –عز وجل-، وجاء عن رسوله.

المقدم: لأن الاختيار مِن الذي يعلم السر في السماوات والأرض.

الشيخ: نعم ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (47)  ، وانظر هنا إلى الآية الكريمة ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾،هذا استفهام إنكاري، يعني كيف لا يعلم من خلق؟ ثم يشير إلى أمر مهم وهو أنه –جل وعلا-يعلم الخفايا وهو اللطيف ﴿أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (48)  ، واللطيف هو: من يصل إلى الشيء بخفاء ومن غير ظهور، فهو –جل وعلا-العالم بالخفايا، والخبير: الذي يعلم بواطنَ الأمور.

ثمة أمور قد لا يقدَّر للإنسان الحكمة والغاية والسبب في هذا الاصطفاء، لكن المؤمن يمتلئ قلبه يقينًا بأنه ليس فوق اختيار الله اختيار، ولا فوق اصطفائه فهو الحكيم الخبير -جل في علاه-، وبالتالي السؤال عن شهر الله المحرم خصَّه الله –عز وجل- بكونه شهرًا من أشهر الله الحرم، وقيل: إنه أفضلها، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه من الأشهر التي فيها فضل، لكن أفضلها ذو الحجة؛ لما فيه من الفضائل، ففيه العشر الأول التي هي خير أيام الزمان، فيه يوم عرفه، وهو أكثر يوم يعتق فيه الله عبدًا من النار، فيه يوم النحر، وهو من أفضل الأيام عند الله –عز وجل-، فيه يوم القرِّ وهو الحادي عشر.

المقصود أن شهر الله المحرم فضيلته من جهة قد اختص بها، اختص شهر الله المحرم بخصائص، ولما نقول خصائص يعني تميز بها عن غيره، والتميز لا يستلزم أن يكون الأفضل على غيره من كل وجه، إنما هو أفضل من جهة ما خصه الله تعالى به من الأمور المشتركة بين هذا الشهر وسائر أشهر الله أنه شهر محرم، كشهر ذي القعدة، وشهر ذي الحجة، وشهر رجب في أنه من الأشهر الحرم، لأن الأشهر الحرم أربعة: ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وشهر فرد وهو رجب بين جمادي وشعبان.

هذه الأشهر الحرم، فالمحرم من الأشهر الحرم التي حرم الله تعالى نداء القتال، وجعلها محلًّا للتعظيم والتوقير.

الأمر الثاني الذي اختص به هذا الشهر هو: أنه أضافه الله تعالى إليه، والله تعالى عندما يضيف شيئًا إليه فهو يلفت الأنظار إلى عظم ذلك الشيء، وكبير منزلته، وشريف محله عند الله –عز وجل-، فالله تعالى لا يضيف إليه إلا على نوعين:

 إما إضافة خلق، وهذه تعمُّ جميع ما خلقه الله - عز وجل-، وإما إضافة تشريف هذا فيما يتعلق بإضافة الخلق إلى الله، إما إضافة خلق، وإما إضافة تشريف وتخصيص بالمنزلة والمكانة، وهذا جاء في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-عندما قال: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ ...»  (49)  ، يعني أكيد النفوس تتشوف إلى هذا الشهر، ما هو الشهر الذي أضافه الله تعالى إليه؟ والله قد خلق الزمان كله، فهو خلق –جل وعلا-سائر الأزمنة وسائر الشهور، كما قال: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ (50)  لكن لماذا خص هذا الشهر؟

خصه الله تفضيلًا وتمييزًا، فليس ثمة شهر من أشهر السنة يضاف إلى الله إلا هذا الشهر أي ينسب إليه –جل وعلا-، وهذه الإضافة إضافة تشريف، وإضافة إكرام لهذا الزمان على سائر الأزمنة.

من خصائص هذا الشهر الله المحرم: أنه محلٌّ للتقرب إلى الله تعالى بالصوم الذي هو من أجلِّ العبادات وأشرفها، فقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان» وهذا صوم فرض، وصوم واجب  «شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ»، فهو أفضل الأشهر من جهة التقرب إلى الله تعالى بالصيام، وفضيلة ذلك تتحقق بصيام ما يسَّر الله تعالى للإنسان منه، سواء صامه كلَّه، على أن هدي النبي –صلى الله عليه وسلم-لم يثبت عنه أنه استكمل صيام شهر غير شهر رمضان، لكن من شاء أن يصومه فشأنه، ولكن الفضيلة تتحقق بصيام ما يسَّر الله تعالى منه، والناس في هذا مُستقِلٌّ ومُستكثِر، وتدرك هذه الفضيلة بصيام يوم واحد به إذا شق على الإنسان فإنه يدرك بذلك فضيلة ما أشار إليه النبي –صلى الله عليه وسلم-في قوله: «أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم».  (51) 

ومن فضائل هذا الشهر أن الله تعالى أجرى فيه آية عظمى، وهي نصر موسى على فرعون، فإنه في هذا الشهر في اليوم العاشر منه، ولذلك كان من هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يصوم عاشوراء ابتهاجًا وسرورًا وشكرًا لله –عز وجل-على ما أجراه لنبيه موسى عليه السلام، فقد جاء في الصحيح أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قَدِم المدينةَ فرأى اليهود تصوم يومَ عاشوراء، فقال ما هذا؟ فقالوا:« هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» ، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ»  (52)  صلوات الله وسلامه عليه، على هذا يصوم العاشر من شهر المحرم صلوات الله وسلامه عليه.

ورتب عليه فضيلة خاصة من حيث الأجر، فسئل عنه؟ فقال:«صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ»  (53)  ، صيام عاشوراء من فضائله أنه يكفر السنة التي قبله، وهي فضيلة تتعلق باليوم ذاته، أي بصيام اليوم العاشر، وإن أضاف إليه يوم التاسع فإن ذلك من السُّنة، لما جاء عنه –صلى الله عليه وسلم-أنه قال: «لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع»  (54)  ، يعني مع العاشر، فكانت فضيلة إدراك صيام عاشوراء تتحقق بصوم اليوم العاشر، فإن أضاف إليه يوم آخر كان أكمل لإدراك السنة للنبي –صلى الله عليه وسلم-، ولمخالفة اليهود لعزم النبي –صلى الله عليه وسلم-أن يصومه حيث قال: «لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع»، أي مع العاشر، فينبغي للإنسان أن يحرص على أدنى ما يكون من صيام الشهر، وإن كان في هذا اليوم الذي فيه هذه الفضيلة العظيمة وهي أن الله تعالى يحط عنه سيئات عام واحد عن العام الذي قبله، فضل كبير وأجر عظيم، وللإنسان أن يحسب خطاياه في اليوم كم هي؟ يجد شيئًا كثيرًا.

 أسأل الله أن يعفو عني وعنكم، وأن يتجاوز عن قصورنا وتقصيرنا وخطئنا وذنوبنا، وكم من الخطايا أتاها الإنسان وهو قد غفل عنها، كما قال الله تعالى: ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ (55)  .

فينبغي للإنسان أن يستكثر من موجبات المغفرة وأسباب حط السيئات، ولا يبخس نفسه في مواسم البر والطاعة والإحسان التي تحط الخطايا والسيئات، ومن ذلك هذا اليوم المبارك اليوم العاشر.

 هذه جملة من خصائص هذا الشهر.

 ومن خصائصه: أنه أول الشهور في السنة الهجرية، شهر الله المحرم هو أول الأشهر فيما يتعلق بالسنة الهجرية.

 لقائل أن يقول: هل هذا بشيء عن الله أو عن رسوله؟

الجواب: لا، ليس ثمة نص، إنما هو اجتهاد الصحابة وإجماعهم على الجري على هذا، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (56)  ، فكان عملهم واجتماعهم على هذا دليلًا على توفيق الله لهم في اصطفاء هذا الشهر، ففي زمن عمر أرادوا أن يؤرخوا فاختلف مع الصحابة، واختلفوا في مبدأ التأريخ، فقيل: مبدأ التأريخ من بعثة النبي –صلى الله عليه وسلم-، وقيل من هجرته، ثم استقر الأمر على أن يكون من هجرته صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك تنوعت أقوالهم في البداية، فكان أن وقع الاختيار على المحرم، فكانت السنة مفتَتَحة بشهر حرام، وهو شهر الله المحرم، ومختتمة بشهر حرام وهو شهر ذي الحجة. هذه جملة مما اختص به هذا الشهر الكريم من بين الأشهر، والله تعالى أعلم.

المقدم: لعلنا قبل أن نختم بقي معنا دقائق معدودة دكتور خالد، أيضًا ما يتعلق بالصيام من الأشهر، النبي –صلى الله عليه وسلم-ذكر أن أفضل الصيام في هذا الشهر، هل ذلك لأنه فيه يوم عاشوراء يصام، أو في سائر الشهر، صيام في سائر الشهر؟

الشيخ:لا، الفضيلة تتعلق بالصيام في الشهر كله، ومنه يوم عاشوراء؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ المحرم»  (57)  ، وهذا يدل على أن الفضيلة تتعلق بالشهر كله بغض النظر عن كونه فيه هذا اليوم، أو لأجل هذا اليوم، فهي فضيلة تتعلق بالشهر كله، وليس في يوم من الأيام، ولهذا قال ابن رجب –رحمه الله-وهذا الحديث (حديث أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم) هذا الحديث صريح في أن أفضل ما تطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم  (58)  ، فهي فضيلة تتعلق بالشهر كله، فمن تيسر له صيام عاشوراء، صيام الأيام البيض، صيام اثنين وخميس منه كان ذلك مدركًا لشيء من فضائل هذا الشهر بالصيام فيه، ومن قصرت همته وضعف عن أن يصوم فلا يفوِّتن عاشوراء، وعاشوراء هذا العام كما أعلنت الجهة المختصة المحكمة العليا أنه يوم الخميس -إن شاء الله تعالى-، فمن صامه أدرك فضيلة عدة فضائل:

 أنه عاشوراء، وأنه يوم الخميس، وصيام يوم الخميس محلُّ فضيلة بإجماع العلماء، وأنه من محرم فيدرك هذه الفضائل جميعًا، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم ذكره وشكره وحسن عبادته.

المقدم:آمين، آمين اللهم لا تحرمنا ولا تحرم الإخوة والأخوات الذين يستمعون إلينا وجميع المسلمين والمسلمات ما في هذا الشهر المبارك من هذا الفضل العظيم الذي استمعتم واستمعنا إليه أيها الأحبة من ضيفنا العزيز.

 شكرًا لك دكتور خالد على ما قدمت، ونسأل الله –سبحانه وتعالى-أن يجزينا خير الجزاء، وأن يجعل دائمًا وأبدًا ما تقدمه لإخوانك وأخواتك المستمعين من هذا الحديث الجميل في مختلف الموضوعات التي نتناولها في برنامجنا هذا، نسأل الله –سبحانه وتعالى-أن يجعل ما تقدمه في ميزان حسناتك، وأن يجزيك خير الجزاء، ونرجوه –عز وجل-أن نلتقي بك في حلقة الأسبوع القادم وأنت بصحة وخير وعافية.

الشيخ: آمين، وإياك، وأسأل الله تعالى أن يعاملنا بعفوه، أن يعيننا على ذكره وشكره، وأن يجعل هذا العام عامًا مباركًا، يهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة، ويوفقنا إلى صالح الأعمال، وأن يوفق ولاة أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده إلى ما يحب ويرضى، وأن يدفع عنا وعن المسلمين كل سوء وشر، وأن يعجل بصلاح الأحوال ورفع الوباء عن العباد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.