الدرس(20) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية

رابط المقال

الدرس(20) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية

(ثم كثيراً ما يذكر بعض الشيوخ أنّه يُحتج على قول القائل :الله، بقوله:﴿قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ  (1)  ويظن أن الله أمر نبيه بأن يقول الاسم المفرد،وهذا غلط باتفاق أهل العلم، فإن قوله:﴿قُلِ اللهمعناه: الله الذي أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى،وهو جواب لقوله:﴿قُلْ مَنْ أَنـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِتَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْأَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ (2)  أي: الله الذي أنـزل الكتاب الذي جاء به موسى، رد ّبذلك قول من قال: ﴿مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾، فقال: ﴿مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى﴾ ثم قال: قل الله أنزله، ثم ذر هؤلاء المكذبين في خوضهم يلعبون).

ما زال الشيخ –رحمه الله- يتكلم في مسألة ذكر الله -جل وعلا- بالاسم المفرد، هل يشرع ذكر الله –عز وجل- بالاسم المفرد أو لا؟ الجواب: أنه غير مشروع، بل هو بدعة، فإن الله –سبحانه ـ وتعالى ـ- لم يأمرنا في ذكرٍ من الأذكار إلا بذكر فيه فائدة، أي إنه يفيد معنى، أما الاسم المفرد فلا فائدة منه، فهو لا يفيد نفياً ولا إثباتاً ولا إيماناً ولا كفراً، ولو قال إنسان: الله، الله ، الله إلى أن يموت دون أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله فإنه لا يعدّ بذلك مسلماً.

يقول: (ثم كثيراً ما يذكر بعض الشيوخ أنه يُحتج على قول القائل: الله) يعني الذكر بالاسم المفرد (بقوله:﴿قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾)  أي في قوله ـ تعالى ـ:﴿قُلْ مَنْ أَنـزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِتَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْأَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُواضح لكل من يفهم اللغة أن هذا جواب سؤال، وليس قولاً مفرداً مأموراً به على وجه الاستقلال، ويؤكد هذا يذكره الشيخ -رحمه الله- مما نقلـه عن أئمة اللغة.

ومما يبين ما تقدم ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلاماً، ولا يحكون به ما كان قولاً، فالقول لا يحكى به إلا كلام تام أو جملة اسمية أو جملة فعلية، ولهذا يكسرون إن إذا جاءت بعد القول، فالقول لا يحكى به اسم، والله تعالى لا يأمر أحداً بذكر اسم مفرد، ولا شرع للمسلمين اسماً مفرداً).

هذا واضح يقول -رَحِمَهُ اللهُ-:(ومما يبين ما تقدم ما ذكره سيبويه وغيره من أئمة النحو أن العرب يحكون بالقول ما كان كلاماً) يعني يحكون بعد القول ما كان كلاماً، والكلام هو ما أفاد ؛ لأنه لا يطلق في كلام العرب الكلام إلا على ما يفيد، كما سيبين الشيخ –رحمه الله- (لا يحكون به ما كان قولا) يعني: ما كان لا فائدة فيه من الكلام أو من القول، فإنه لا يحكى به ما لا فائدة فيه.

ومعلوم أنه إذا قال:﴿قُل ِاللهوالمقصود الاسم مفرداً مقطوعاً عن السؤال المتقدم وأنه ليس جواباً للسؤال فإنه لا يفيد .

ما معنى قوله:﴿قُلِ الله؟  ما معنى (الله) مجرداً عن إثبات أو نفي فإنه لا يفيد معنى؟ يقول:(فالقول لا يحكى به إلا كلام تام) يعني: كلام تام يحصل به معنى مفيد(أو جملة اسمية أو جملة فعلية) الظاهر أن (أو) هذه إما زائدة(لا يحكى به إلا كلام تام جملة اسمية أوجملة فعلية) نعم. (ولهذا يكسرون إن إذا جاءت بعد القول، فالقول لا يحكى به اسم) كما يقول هؤلاء في ﴿قُلِ الله﴾. (والله ـ تعالى ـ لا يأمر أحداً بذكر اسم مفرد)، ولا شرع للمسلمين ذلك نعم.

ثم يقول في الوجه الثاني أو في ذكر أوجه رد هذا الأمر وهذه البدعة، وهي ذكر الله-عز وجل-بالاسم المفرد يقول:

(والاسم المجرد لا يفيد شيئاً منالإيمان باتفاق أهل الإسلام، ولا يؤمر به في شيء من العبادات ولا في شيء من المخاطبات).

(الاسم المفرد المجرّد لا يفيد شيئاً من الإيمان) يعني لا يثبت به إيمان ولا اعتقاد؛ لأنه مجرد عن نفي أو إثبات، فلا فائدة من الذكر بالاسم المجرد يقول: (باتفاق أهل الإسلام). قال:(ولا يؤمر به في شيء من العبادات) أمر إيجاب ولا أمر استحباب، ما قال الله -جل وعلا-لنا في عبادة من العبادات: قولوا: الله هكذا مجردة (ولا في شيء من المخاطبات) يعني: سواء في خطابك لغيرك، أو كتابتك، أو ما إلى ذلك يقول:

(ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر أن بعض الأعراب مر بمؤذن يقول:أشهد أن محمداً رسول َالله بالنصب فقالماذا يقول هذا؟ هذا الاسم فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام؟).

نعم، فالذي يقول: أشهد أن محمداً رسولَ الله. ما أفاد معنى؛ لأن (رسولَ) ستكون صفة لمحمد وهو اسم لم يأت خبره ؛ ولذلك قال هذا الذي سمع هذا القول: أين الخبر؟ يقول:(ماذا يقول هذا؟ هذا الاسم فأين الخبر عنه الذي يتم به الكلام؟). ولذلك من أذن بهذا الأذان فإن أذانه لا يصح، يعني إذا قال المؤذن: أشهد أن محمداً رسولَ الله ما صح أذانه؛ لأنه لم يأت بما أمر به من الشهادة للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالرسالة، ولا يأتي ذلك إلا بالرفع أن يقول: أشهد أن محمداً رسولُ الله حتى يتم الجملة، ويتم الكلام، ويُعطي كلاماً مفيداً نعم.

وما في القرآن من قولـه: ‏﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا(8) (3)  وقولـه:﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى‏﴾  (4)  وقولـه:‏﴿قد أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)‏‏  (5)  وقولـه:‏﴿‏فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)‏﴾‏  (6)  ونحو ذلك لا يقتضي ذكره مفرداً.

بل في السنن أنه لما نـزل قولـه: ‏﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)‏﴾‏ قال:«اجعلوها في ركوعكم» ولما نـزل قولـه:‏﴿سبح ‏اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾‏ قال: «اجعلوها في سجودكم»  (7)  فشرع لهم أن يقولوا في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى.

وفي الصحيح أنه كان يقول في ركوعه:«سبحان ربي العظيم»، وفي سجوده: «سبحان ربي الأعلى»  (8)  وهذا هو معنى قولـه: اجعلوها في ركوعكم وسجودكم باتفاق المسلمين.

فتسبيح اسم ربه الأعلى وذكر اسم ربه ونحو ذلك هو بالكلام التام المفيد، كما في الصحيح عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال:«أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهُنّ من القرآن:سبحان الله،والحمد لله، ولا إلـه إلا الله، والله أكبر»  (9) 

وفي الصحيح عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أنه قال:«كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن:سبحان الله وبحمده،سبحان الله العظيم»  (10) 

وفي الصحيحين عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أنه قال:«من قال في يومه مائة مرة:لا إلـه إلا الله وحده لا شريك له،لـه الملك ولـه الحمد،وهو على كل شيء قدير.كتب الله لـه حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل قال مثل ما قال أو زاد عليه.ومن قال في يومه مائة مرة:سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.حُطَّت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر»  (11) 

وفي الموطأ وغيره عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أنه قال:«أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي:لا إلـه إلا الله وحده لا شريك له،لـه الملك ولـه الحمد،وهو على كل شيء قدير»  (12) 

وفي سنن ابن ماجه وغيره عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:«أفضل الذكر لا إلـه إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله»  (13) 

ومثل هذه الأحاديث كثيرة في أنواع ما يقال من الذكر والدعاء).

كل هذه الأحاديث الكلام فيها مفيد؛ أي إن الذكر فيها ليس ذكراً باسم مفرد مجرد، بل ذكر بما لـه فائدة.

فقول القائل: (سبحان الله) أي: أنـزِّه الله، وتنـزيه الله -جل وعلا- عن العيب وعن النقص في صفاته وعن مماثلة المخلوقين، هذا كلـه مما يدخل في قول: سبحان الله.

(والحمد للههذا فيه إثبات صفات الكمال للرب -جل وعلا-، فيه إثبات الأفعال الجليلة والأسماء الحسنة والصفات العليا لـه -جل وعلا-(لا إلـه إلا الله)فيه إثبات الإلهية.

(الله أكبرفيه إثبات الكبرياء لـه -جل وعلا- وأنه أكبر من كل شيء.

كل هذا كلام مفيد يحيا به القلب، ويورث إيماناً وبصيرةً وعلماً نافعاً، بخلاف الذكر بالاسم المفرد.

هذا مقصود الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- من ذكر هذه الأذكار.

ثم هذه الفضائل المذكورة في هذه الأحاديث، لابد أن نستحضر قاعدة مهمة في كل ما رُتِّب عليه فضل من الأقوال والأعمال: أن الفضل في هذا متفاوت بين الناس تفاوتاً عظيماً، فالأقوال والعبادات الفعلية قد تتفق في الصورة إلا أنها تتفاوت تفاوتاً عظيماً بما يقوم بقلوب العباد، فإنه فرق بين من قال ذلك معظماً مستحضراً ما في هذه الأذكار من المعاني العظيمة الجليلة مؤمناً بها، وبين من قالها لاهياً غافلاً عنها، فالاتفاق في الصورة لا يلزم منه الاتفاق في الأجر والثواب، بل بينهما كما بين السماء والأرض من الفضل والرجحان، وهذا يشحذ الهمم إلى أي شيء؟إلى التدبر، وإلى التمعن في هذه الأقوال التي تقال والأذكار التي تذكر، وأن لا يقتصر الإنسان، وأن لا يكون همه فقط في الإتيان بها لفظاً مع تخلف القلب عن الإيمان بمقتضياتها، وما تضمنته من المعاني. أعاننا الله وإياكم على ذلك.

يقول -رحمه الله-:

(وكذلك ما في القرآن من قولـه ـ تعالى ـ:﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ (14)  وقولـه:﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ (15)  إنما هو قول:باسم الله).

كما جاء ذلك في السنة، فلو أن الذابح قال عند الذبح: الله. هل تحل ذبيحته؟ الجواب:لا؛ لأنه لم يذكر الذكر المشروع، وهو الذي تحصل به إباحة المذبوح من بهيمة الأنعام وغيره أن يقول: باسم الله. فإذا قال: الله. مجرداً عن الاسم لم يستفد إباحةً ولا حلاًّ، ولم يتحقق فيه الأمر الذي أمر الله به في قولـه: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِهذا في الصيد، وفي قولـه:﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ  (16)  في الذبائح.

يقول -رحمه الله-: (وهذا جملة تامة، إما اسمية على أظهر قولي النحاة أو فعلية).

المشار إليه قول:(باسم الله)،باسم الله جملة تامة حيث ما وردت، إما جملة اسمية وهو الذي استظهره الشيخ -رحمه الله-أو فعلية، يعني إما أن تكون جملة اسمية فيقدر فيها اسم، أو فعلية فيقدر فيها فعل.

(والتقدير:ذبحي باسم الله).

هذا إذا كانت جملة اسمية ؛ لأن (ذبح) مصدر ،(أو أذبح باسم الله)هذا إذا كانت فعلية.

وظاهر كلام الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- أنه لا يرى ما يذكره كثير من المتكلمين في البسملة من أن التقدير لفعل مؤخر، بل لا بأس بتقديمه؛ لأن الذين يقدرون الجملة في المتعلق بالبسملة يقولون: الجار والمجرور متعلق بفعل أو باسم مقدر مناسب مؤخر، فالظاهر من فعل الشيخ في التقدير أنه لا يقدره مؤخراً؛ لأن لعدم تقديره مؤخراً شواهد في القرآن كما سيأتي نعم.

(وكذلك قول القارئ:بسم الله الرحمن الرحيم، فتقديره: قراءتي "باسم الله"أو: "أقرأ باسم الله". ومن الناس من يُضمر في مثل هذا: "ابتدائي باسم الله"أو: "ابتدأت باسم الله" والأول أحسن

يعني: ما يقدر فعلاً مناسباً إنما يطلق التقدير بالبداءة، وهذا خلاف ما ينبغي؛ لأن التقدير بالفعل المناسب أولى، ولذلك قال الشيخ ــ رحمه الله ـ:(والأول أحسن). ووجه ذلك قال:

(لأن الفعل كلـه مفعول باسم الله، ليس مجرد ابتدائه).

يعني: أول الفعل وآخره، معلوم أن الفعل لـه أول وآخر، فإذا كانت القراءة فإذا قلت: ابتدائي باسم الله. يعني: بقية القراءة ليست باسم الله. والفعل كلـه باسم الله، وكذلك الذبح، وكذلك الكتابة فيما إذا كان الإنسان يكتب، وكذلك التأليف كلـه باسم الله.

(كما أظهر المضمر في قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)  (17)  )

وهذا يبين أنه لا بأس أن يقدر أن يكون المتعلق مقدماً، بفعل مقدم ؛ لأنه قال:﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)﴾).

(وفي قولـه: ﴿بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا (18)  )هنا متأخر وهو اسم: ﴿مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾.

(وفي قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «من كان ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح فليذبح باسم الله»  (19)  ومن هذا الباب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-في الحديث الصحيح لربيبه عمر بن أبي سلمة: «يا غلامسم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»  (20)  فالمراد أن يقول:باسم الله، ليس المراد أن يذكر الاسم مجرداً.

وكذلك قولـه في الحديث الصحيح لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل»  (21) 

وكذلك قولـه -صلى الله عليه وسلم-: «إذا دخل الرجل منـزلـه فذكر اسم الله عند دخولـه وعند خروجه وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء»  (22)  وأمثال ذلك كثير.

وكذلك ما شرع للمسلمين في صلاتهم وأذانهم وحجهم وأعيادهم من ذكر الله تعالى إنما هو بالجملة التامة.

كقول المؤذن:الله أكبر الله أكبر،أشهد أن لا إلـه إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله.

وقول المصلي: الله أكبر،سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى،سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، التحيات لله.

وقول الملبي: لبيك اللهم لبيك.وأمثال ذلك.

فجميع ما شرعه الله من الذكر إنما هو كلام تام، لا اسم مفرد لا مُظهر ولا مضمر.

وهذا هو الذي يسمى في اللغة كلمة، كقولـه: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده،سبحان الله العظيم»  (23)  وقولـه: «أفضل كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: لا كل شيء ما خلا الله باطل»  (24)  ومنه قولـه ـ تعالى ـ: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ (25)  وقولـه:﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً (26) 

وأمثال ذلك مما استعمل فيه لفظ الكلمة في الكتاب والسنة، بل وسائر كلام العرب، فإنما يراد به الجملة التامة، كما كانوا يستعملون الحرف في الاسم، فيقولون: هذا حرف غريب، أي لفظ الاسم غريب.

وقسم سيبويه الكلام إلى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، وكل من هذه الأقسام يسمى حرفاً، لكن خاصة الثالث أنه حرف جاء بمعنى ليس باسم ولا فعل، وسمى حروف الهجاء باسم الحرف وهي أسماء، ولفظ الحرف يتناول هذه الأسماء وغيرها، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:«من قرأ القرآن فأعربه فلـه بكل حرف عشر حسنات»  (27)  «أما إني لا أقول: ﴿المحرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف»  (28) 

وقد سأل الخليل أصحابه عن النطق بحرف الزاي من زيد، فقالوا: زاي. فقال: جئتم بالاسم، وإنما الحرف زَ.

ثم إن النحاة اصطلحوا على أن هذا المسمى في اللغة بالحرف يسمى كلمة، وأن لفظ الحرف يخص لما جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، كحروف الجر ونحوها.

وأما ألفاظ حروف الهجاء فيعبر تارة بالحرف عن نفس الحرف من اللفظ، وتارة باسم ذلك الحرف.

ولما غلب هذا الاصطلاح صار يتوهم من اعتاده أنه هكذا في لغة العرب).

المهم الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- استطرد في مسألة دلالة الحرف على الاسم، وأنه الأصل في استعمال العرب، وأن تخصيص الحرف بما لا يفيد معنىً بذاته وليس باسم ولا فعل، أنه اصطلاح حادث، ولا يحكم بالاصطلاح الحادث على الاستعمال السابق.

بل قد ذكر شيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ- في غير ما موضع أن من أسباب عدم فهم النصوص تنـزيل معاني ألفاظ النصوص على الاصطلاحات الحادثة، فمثلاً قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ-: «لا أقول: ﴿الم﴾ حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف». بعض الناس يفهم أن الأجر في قراءة القرآن مجزأ على الحروف الهجائية، يعني مثلاً قول: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1) (29)  يعد القاف حرفاً، واللام حرفاً، ويقول: إن القاف فيها عشر حسنات، واللام فيها عشر حسنات، وليس هذا المراد، مراد النبي أن كلمة ﴿قُلْ﴾هي عشر حسنات، ولذلك :((لا أقول: ﴿الم﴾ حرف، إنما ألف حرف ولام حرف وميم حرف))؛ لأن هذه لا تقرأ أَلَمْ ،تقرأ: (ألف لام ميم)، عندنا ثلاث كلمات وليس كلمة واحدة، ولو كانت كلمة واحدة لقرأناها أَلَمْ، فالحرف في لغة العرب يطلق على الاسم، وليس على الحرف الهجائي وهو ما لا يفيد معنى في ذاته.

فتنـزيل النصوص على الاصطلاحات الحادثة يُرْبك في فهم المعنى والمراد.

مثّل الشيخ -رحمه الله- بالحرف استطراداً، وإلا فالأصل في استعمال الكلمة، يقول -رحمه الله-: (وأمثال ذلك مما استعمل فيه لفظ الكلمة) عاد الكلام إلى الأصل في كلام العرب أن الكلمة لا تطلق إلا على الكلام المفيد، لا تطلق على ما ليس مفيداً من الكلام.

حدث اصطلاح عند النحاة: إطلاق الكلمة على اللفظ المجرد الذي لا يفيد معنىً تامًّا، فهُم يطلقون الكلمة على الفعل، يطلقون الكلمة على الاسم، ويطلقون الكلمة على الحرف،وهذا خلاف ما في القرآن وما في استعمال العرب.