كلمات في التداوي

رابط المقال

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فالأمراض والأسقام بلاءٌ يبتلي الله به العباد، فيه من الفوائد والعِبَر، وله من الأسرار والحِكَم ما يدركه الإنسان بالتأمل وحُسن النظر، وقد قيل:

*ورُبَّما صحَّت الأجسادُ بالعِلَلِ*

 وإن من أبرز حِكم ابتلاء العباد بالأسقام أن يلجؤوا إلى ربهم ومولاهم، فتتعلق قلوبهم بربهم دون ما سِواه، فبِيَدِه الشفاء؛ كما قال الخليل إبراهيم في التعريف بربه الذي يعبده: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}  (1)  ، فيدعوه المبتلى مخلصًا له الدين أن يكشف ما حلَّ به من الأدواء والأمراض.

ولا غرو، فإن الله ـ جل في علاه ـ يستخرج الدعاءَ بالبلاء، والشكرَ بالعطاء؛ يقول وهب بن منبِّه: «ينزل البلاء ليستخرج به الدعاء»، فالإنسان كما وصفه الله: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}  (2)  .

وفي سِيَر الأنبياء الذين أمرنا الله بالاهتداء بهديهم خبر أيوب الذي ابتلاه الله تعالى بمرضٍ طال فيه بلاؤه، واشتد فيه كربُه، ففزع إلى ربه فناداه، كما قال ـ تعالى ـ: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}  (3)  ، فأجابه الكريم المنان: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ}  (4)    . فالدعاء أعظم الوسائل لإدراك المطالب، فكم من مريضٍ طال عناؤه، وامتدَّ بلاؤه، رفع شكواه لربِّه، فجاءه الفرج، وتنزلتْ عليه الرحمة.

قُل للمريض نجا وعُوفِيَ بعدما *** عجزتْ فُنونُ الطبِّ: من عافاكَا؟

والعجب أن من الناس من يقلب القضية، فإذا نزلت بهم الأمراض أو أصابتهم الأسقام تعلَّقت قلوبهم بالأسباب الحسية، وغفلوا عن الله الشافي الذي لا شفاء إلا شفاؤه؛ فتجد فريقًا ممن أُصيبوا بالأمراض علَّقوا قلوبهم بالأطباء أو الأدوية ورجوا منهم الشفاء وزوال الداء، فجعلوا الأسباب في منزلة ربِّ الأرباب، فكان ما أُصيبوا به من هلاك قلوبهم وفسادها أعظم مما نزل بهم من الأسقام والأدواء.

قُل للطبيب تخطَّفتْه يدُ الردَى *** يا شافيَ الأمراضِ: مَن أرداكَا؟

ومنهم فريقٌ جاب الفيافي والقِفار، وقطع الصحاري والبحار، وشرَّق وغرَّب في الأمصار، يلاحق السحَرة والمشعوذين، يرجو منهم رفْع البلاء، وكشْف الضرَّاء، فخرَّبوا قلوبهم لإصلاح أبدانهم، ففسدت قلوبهم ووهنت أبدانهم؛ {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}  (5)    فإن مَن أتى عرَّافًا أو ساحرًا أو كاهنًا فسأله فصدَّقه فقد كفر بما أُنزِل على محمد صلى الله عليه وسلم.

وهؤلاء وأولئك غفلوا عن الله، فوُكِلوا إلى أنفسهم وما علَّقوا قلوبهم به، ولو أحسنوا الفكر وأمعنوا النظر لعرفوا أن الأمر بيد الله، وأنه {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}  (6)  ، وأنه {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}  (7)   أي: كافي مَن يثق به في نوائبه ومهمَّاته، يكفيه ما أهمَّه وأقلقه.

فوصيتي لكل مبتلًى، مريضًا كان أو غيره، بأن يُنْزل حاجته بالله الذي ينادي كل ليلة فيقول: «مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟»  (8)  .

توكَّلْ على الرحمن في كلِّ حاجةٍ *** أردْتَ فإنَّ الله يقضي ويَقْدِرُ

كما أوصيهم بالصبر، وانتظار الفرج، وحسن الظن بالله، فكم من مبتلًى البلاءُ خيرٌ له من العافية في معاشه ومعاده؛ روى البخاري  (9)   ومسلم  (10)   من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: «إنَّ امرأةً سوداء أتت النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إني أُصْرَعُ، وإنِّي أتكشَّفُ، فادعُ اللهَ لي. فقال: "إِنْ شِئْتِ صَبَرْتِ وَلَكِ الْجَنَّةُ، وَإِنْ شِئْتِ دَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ". فقالت: أصبرُ. فقالت: إنِّي أتكشَّفُ، فادعُ اللهَ لي ألَّا أتكشَّف. فدعا لها». فلما كان البلاء مع الصبر خيرًا لها خيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم.

فنسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة.