الحلقة(11)تبارك الله رب العالمين

رابط المقال

الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو رب العالمين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بعثه الله رب العالمين بين يدي الساعة بالحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق الجهاد بالعلم والبيان، والسيف والسنان، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فأهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: فادعوه بها.

إننا في هذه الحلقة سنتناول اسماً من أسماء الله العظيمة الجليلة، وهو ثاني اسم ذكره الله ـ جل وعلا ـ في آيات سورة الفاتحة، يقول الله ـ جل وعلا ـ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (1)  .

إننا سنتكلم حول معنى هذا الاسم العظيم الجليل لله ـ عز وجل ـ: (الرب) رب العالمين، الذي له ما في السماوات وما في الأرض سبحانه وبحمده.

إن الاسم الكريم (رب العالمين) أو (الرب) جاء ذكره في كلام الله ـ عز وجل ـ في مواضع عديدة كثيرة تفوق الحصر والعد، ويتعب الإنسان في إحصائها، فقد جاءت في كثير من الآيات، وفي كثير من المواضع من كلام رب العالمين ـ سبحانه وبحمده ـ في القرآن العظيم.

كذلك: تكلم بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ما يتعب الإنسان في عده، وقد لا يتمكن من حصره.

هذا الاسم هو من أصول الأسماء الحسنى، إذ هو دال على ربوبية الله ـ جل وعلا ـ وقد عرَّف الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ربهم بهذا الاسم، وعرَّفوا الناس بربوبية الله ـ عز وجل ـ المستقرة في الفِطَر، لذلك هذا الاسم معناه حاضر في قلوب الناس، وحاضر في حياتهم، وفي كل مفاصل دنياهم وشئونهم، ولا ينفكون عن آثار هذا الاسم، وعن شواهده القائمة في حياتهم، لذلك لما سأل فرعون مستكبراً موسى ـ عليه السلام ـ قائلاً له: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ (2)  ، وانظر إلى عموم هذا الاسم وشموله لكل دقيقة وجليلة، وصغير وكبير، وقريب وبعيد، وفي البر والبحر، وفي السماء والأرض، ﴿رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ (3)  هكذا قال موسى ـ عليه السلام ـ في جواب أعتى الظالمين المستكبرين فرعون عليه من الله ما يستحق، فقد قال: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ (4)  تبارك الله رب العالمين ـ سبحانه وبحمده ـ لا نحيط بكماله ولا ندرِك شيئاً من أوصافه على الوجه الذي يليق به سبحانه وبحمده.

إن هذا الاسم (رب العالمين) من الأسماء الجليلة التي تدل على معانٍ عظيمة، فغالب أسماء الله ـ عز وجل ـ وصفاته ترجع وتتصل بمعنىً من معاني الربوبية، ولذلك تجد هذا الاسم حاضراً في غالب أسماء الله ـ عز وجل ـ قد يحتاج الإنسان إلى نوع من التأمل والتفكير حتى يربط بين الأسماء وبين دلالاتها؛ لأن الأسماء يدل بعضها على بعض، ويعرِّف بعضها بعضاً، لكنها من حيث شمولها منها ما هو واسع الدلالة كـ(الله) مثلاً، ومنه أيضاً (الرب) رب العالمين، واسع الدلالة بحيث يشمل أسماء كثيرة، وهذا الاسم لم يتسم به غير الله جل وعلا.

ولقائل أن قول: ما معنى رب العالمين؟ ما هو المعنى الذي يفيده الاسم من أسماء الله الجليلة الكريمة؟ ابتداءً كلمة (الرب) في اللغة تدل على التربية والعناية والحفظ والقيام على الشيء، ولذلك معنى (الرب) هو الذي يقوم على غيره مُلكاً ورزقاً وتدبيراً وحفظاً ورعاية، كل هذه المعاني مما تدل عليها هذه الكلمة من حيث دلالتها اللغوية، فدلالتها اللغوية دالة على التربية والحفظ والرعاية والقيام بالشيء، ولذلك قال موسى ـ عليه السلام ـ في تعريف رب العالمين: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (5)  ، فجعل الربوبية دائرة على هذين المعنيين، وهما في أكمل ما يكون في حق رب العالمين، بل لا منازِع له ـ جل وعلا ـ فيهما، لذلك هذا الاسم ينبغي أن يُعلَم أنه يدور على معانٍ في اللغة، وهي قائمة في معانيه التي استعملتها النصوص الشرعية لهذه الكلمة.

فإذا تأملت معنى (الرب) في اللغة، فإنك تجده بمعنى السيد، والمالك، والمدبر، والمربي، والرازق، والمنعِم، وكل هذه المعاني صحيحة في حق الله ـ جل وعلا ـ بل الله ـ تعالى ـ له من هذه المعاني أعلاها، وهذا الاسم المبارك يدل على صفة الربوبية لله ـ عز وجل ـ وجناب الربوبية لا يمكن أن يحيط به الإنسان بياناً وإيضاحاً، إنما نذكر شيئاً من ذلك، وما لا يعبِّر عنه المقال أو لا يدرِكه البيان، فهو شيء كثير وفوق كل ذي علم عليم.

إن هذا الاسم دلالته فيما يتعلق بأوصاف الله ـ جل وعلا ـ: هو أن الله ـ تعالى ـ الخالق، والرازق، والمالك، والمدبر، وهذا مما ركزه الله ـ تعالى ـ في فِطَر الناس، فالناس مقرّون بهذا على وجه الكمال، فإنه لا خالق لهم إلا الله ـ جل وعلا ـ ولا رازق لهم إلا الله، ولا يطلبون الرزق من سواه، ولا مالك لهم مدبر لشئونهم دقيقها وجليلها، صغيرها وكبيرها إلا الله ـ جل وعلا ـ هو المحيي المميت سبحانه وبحمده، كل هذه المعاني هي من معاني ربوبية الله ـ عز وجل ـ ويُفسَّر به هذا الاسم: رب العالمين.

إذاً: فعندما نقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (6)  فنحن نحمد الله ـ تعالى ـ على أنه الخالق، وأنه المالك، وأنه الرازق، وأنه المدبر، وأنه المحيي، وأنه المميت، وأنه الذي لا يكون شيء في الكون إلا بأمره ـ سبحانه وبحمده ـ أنه الذي هو رب كل شيء، ورب السماوات والأرض وما بينهما، وأنه الذي خلق كل شيء وهدى، وأنه القادر  والعليم، والمصور، البارئ، وكل الأسماء الحسنى تُفسَّر بها ربوبية الله جل في علاه.

ولأجل سعة هذا المعنى نفهم أن الربوبية تنقسم إلى قسمين في كلام العلماء، والربوبية التي في كلام الله ـ عز وجل ـ نوعان: ربوبية عامة تشمل كل أحد لا يخلو منها شيء، وهي التي قال فيها موسى ـ عليه السلام ـ في جواب فرعون: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ (7)  ، فهذه تشمل ربوبية كل شيء في السماوات وفي الأرض وما بينهما من مخلوقات الله ـ عز وجل ـ وهذه هي الربوبية العامة الشاملة لكل خلق الله دقيقهم وجليلهم، ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (8)  .

هذا هو معنى الربوبية العامة التي تشمل كل قيام بالخلق، فهو قائم بالخلق من كل وجه، يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وهو ـ جل وعلا ـ القائم على كل نفس بما كسبت، كما قال ـ جل وعلا ـ: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ (9)  ، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ (10)  ، فهو المتكفل بجميع الخلائق، كلهم إليه فقير، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (11)  ، هذا معنى ربوبية الله ـ تعالى ـ العامة التي لا يخلو منها أحد، بر وفاجر، ذكر وأنثى، صغير وكبير، إنس وجن، عاقل وغير عاقل، كلهم الله ربهم، الله رازقهم، الله مدبرهم، الله مالكهم، هم في فقر إليه، لا يستغنون عن عطائه جل في علاه.

النوع الثاني من الربوبية: الربوبية الخاصة، وهي ربوبية الله ـ تعالى ـ لبعض أوليائه، هذه الربوبية تقتضي عناية، تقتضي رحمة، تقتضي ولاية، تقتضي قياماً بهذا المربوب على وجه خاص، ولذلك ذكر الله ـ تعالى ـ ربوبيته العامة وذكر ربوبيته لبعض أوليائه على وجه الخصوص: ﴿رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (12)  ، هذه ربوبية خاصة ذكرها الله ـ تعالى ـ لهذين النبيين الكريمين.

﴿قُلْ إِي وَرَبِّي (13)  هذه ربوبية خاصة بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما أشبه ذلك من الآيات التي أضاف الله ـ تعالى ـ فيها ربوبيته إلى بعض خلقه على وجه منفرد، فهذه تسمى الربوبية الخاصة التي تقتضي تكميل العبد وصيانته ورعاية الله ـ تعالى ـ له، ومدافعته عنه، وقيامه بشئونه، وتبليغه أعلى ما يكون من الرحمة والبر والإحسان والعطاء، وكل المعاني التي تنتظمها ربوبية الله ـ تعالى ـ من النصر والتأييد وغير ذلك.

إذاً: الربوبية العامة هي ربوبية الله ـ تعالى ـ للجميع، لكل الخلق، عاقلهم وغير العاقل، ومؤمنهم وكافرهم، وإنسهم وجنهم، وجمادهم وحيهم.

وأما النوع الثاني من الربوبية: فهي ربوبيته ـ جل وعلا ـ لعباده الصالحين وأوليائه المتقين وحزبه المفلحين.

ما الفرق بين الربوبيتين؟ الربوبية الأولى العامة تقتضي ما ذكره الله ـ تعالى ـ: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (14)  ، فهذه تقتضي القيام بالشأن العام بما يصلح المخلوق على وجه العموم، ثم الربوبية الخاصة هي رعاية وصيانة وحفظ وتأييد ونصر.

نسأل الله أن نكون من أوفر الناس حظاً بربوبية الله ـ تعالى ـ الخاصة، اللهم اجعلنا من أوليائك وحزبك ومن عبادك المتقين وحزبك المفلحين وأوليائك المتقين.

وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: فادعوه بها، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.