(9) متى يكون العمل في سبيل الله

رابط المقال

 

عن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الرجل يقاتل شجاعةً، ويقاتل حميَّةً ، ويقاتل رياءً، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قاتل لتكون كلمةُ الله هي العليا، فهو في سبيل الله)).  (1) 

المقدِّمة:

الجهاد في قتال الكفار من أشقِّ العبادات وأعظم الطاعات خطراً، ولذا فهو مما تنفر منه النفوس، كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}  (2)  ، ولذا فإنّ تحقيق مقام الإخلاص في مثل هذا العمل، يُعدُّ كذلك من أشقّ الأمور، وفي هذا الحديث الشّريف، يُبيِّن الرّسول صلى الله عليه وسلم عظيمَ منزلة إخلاص العمل لله تعالى، فيما يتعلّق بالقتال، وذلك بأسلوبٍ جميل واضحٍ، إذ إنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم، سُئل عن ثلاثة أحوالٍ للمقاتلين، ثمّ قيل له: ((أيُّ ذلك في سبيل الله؟)) وذلك ليختار من بينها الحال التي يكون المقاتلُ فيها مخلصاً لله عزّ وجلّ، فأعرض الرّسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الأحوال وعمّا سواها، واكتفى ببيان معنىً واحدٍ، مَن حقّقه كان مقاتلاً في سبيل الله.

معنى الحديث:

* قول أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه: ((سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم)):

وقد ورد في روايات هذا الحديث، ما يدلّ على أنّ هذا السائل رجلٌ من الأعراب  (3)  ، وورد ما يدلّ على أنه في حال سؤاله كان قائماً، والرسول صلى الله عليه وسلم جالسٌ، وذلك كما ورد عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه وصفه لحال الرّسول صلى الله عليه وسلم، عند سماعه سؤال هذا الرجل: ((قال: فرفع رأسه إليه، وما رفع رأسه إليه إلا أنه كان قائماً))  (4)  ، فقال ابن بطال: (فيه: جواز سؤال العالم وهو واقف، كما ترجم، لعذر، أو لشغل، ولا يكون ذلك تركًا لتوقير العالم، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك عليه)  (5) 

* قول أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه: ((عن الرجل: يقاتل شجاعةً، ويقاتل حميَّةً ، ويقاتل رياءً)):

أي: إن الرسول صلى الله عليه وسلم، قد سُئل: عن حال الرجل الذي يُقاتل الكفارَ، وما يدفعُه إلى قتالهم إلا الشّجاعةُ، وهي الجُرأة والإقدام  (6)  ، والقوةُ والنشاط وثبات القلب.

وسُئل صلى الله عليه وسلم، عن حال الرجل الذي يُقاتل الكفار، ما يدفعه إلى قتالهم إلا الحميَّة وشدّة الرّغبة في الانتصار لفئته أو جماعته أو قبيلته، ويُقال  (7)  : (حميتُ على فلان، أي: غضبت عليه، قال تعالى: {حميَّة الجاهليَّة}  (8)  ، والإنسان الّذي يُقاتل حِميةً لا حِسبةً، هو (كالكلب يهِرُّ  (9)  عن أهله، ويذبُّ عنهم طبعاً)  (10)  ، أي بدافع الغريزة.

وسُئل صلى الله عليه وسلم، عن حال الرجل الذي يُقاتل الكفار، وما يدفعه إلى قتالهم إلا الرّياء، أي أن يُقاتل فقط من أجل أن يراه النَّاس مقاتلاً  (11)  ، مرتقباً منهم أن يمدحوه على ذلك.

* قول أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه: ((أيُّ ذلك في سبيل الله؟)):

أي: هذه الأحوال والمقاصد الثلاثة، التي من أجلها يُقاتل الناس -أي الشجاعة والحميّة والرّياء- أيّها يكون به هذا العمل -أي القتال في سبيل الله- خالصاً لله تعالى؟

وقد جاء في رواياتٍ أخرى للحديث، ذكر مقاصد أخرى كالمغنم والغضب والعصبيّة، فالحديث لم يستقصِ ذكر مقاصد النّاس  من وراء القتال في سبيل الله تعالى، وإنما ذكر أبرزها وأكثرها شيوعاً بين الناس.

* قول أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)):

فأسقط النبي صلى الله عليه وسلم كل المقاصد وكل المطالب وكل البواعث التي تحمل الناس على قتال الكفار -ويُقاس عليه كلُّ عملٍ صالح- سواءٌ المقاصد التي نصّ عليها الحديث، أو التي لم ينُصّ عليها، كلّها ساقطةٌ إلا ما كان مراداً به وجه الله عزّ وجلّ، ونصرة دينه جلّ جلاله، وأن تكون كلمته هي العليا، فالمقصود بكلمة الله دينه وشرعه وأمره وما جاءت به الرّسل.

إذن، فالمقصود الشّرعيّ من قتال الكفار، ليس مجردَ مقاتلتهم لكونهم كفاراً، بل إنما شُرع قتالهم، لإزالة كل ما يُعيق الناس ويصدُّهم عن سبيل الله تعالى، من الموانع التي تمنع الناس من الدخول في دين الله اختياراً وطوعاً، فليس المقصود من الجهاد حمل النّاس على الإيمان والطاعة كرهاً، فالله تعالى يقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ }  (12)   فلا يُكره أحدٌ على التحول من دينه إلى دين الإسلام، إنما مقصود الجهاد إزالة العوائق والموانع التي تحول بين النّاس وطريق الهداية، حتى يدخلوا في دين الله أفواجاً. فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو ((في سبيل الله)) أي: في طريقه وصراطه ،وفي المسار الذي يوصله إليه.

كل هذا يبين لنا أهمية الإخلاص، وأن كل عمل مهما عظم وكَبُرَ وشَقَّ على النّاس، فإنه لا ينتفع منه الإنسان إلا إذا كان خالصاً لله.

وقد يُقال: إنّ هذا الحكمَ بعدم قبول العمل، وعدمِ تحقُّق نيّة الإخلاص فيه، يكون إذا كان المقاتل لا يُريد إلا هذه المعاني والمقاصد أو بعضها، على سبيل الانفراد، فماذا عن المقاتل الّذي يريد كلمة الله، ويريد معها أيضاً تحقيق تلك المقاصد أو بعضها، فيريد أن يكون قتاله في سبيل الله، ويريد كذلك أن يذكره النّاس ويُثنوا عليه، مثلاً، فهل له من أجر؟

جاء في المسند والسنن من حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيتَ رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟)) ومعنى قول السَّائل ((يلتمسُ الأجرَ)) أي: يُريد إعلاءَ كلمةِ الله تعالى.

ومعنى قوله: ((والذّكر)) أي يلتمس أيضاً أن يراه النّاس مقاتلاً شجاعاً، فيذكرونه.

ومعنى قوله: ((فما له؟)) أي: هل يستحقّ أجراً على هاتين النّيّتين؟

((فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له! فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا شيء له، ثم قال: إنَّ الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً، وابتُغي به وجهه))  (13) 

وهذا الحديث يؤكد أنّ سلامة القصد وصحة النّيّة، هي روح العمل، وهي المعنى الذي به يدرك الإنسان الأجر العظيم من الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}  (14)    فعندما تشترك نية الإخلاص في العبادة بنية أخرى، فإنها لا بد أن تؤثر عليها إما إبطالاً وإما نقصاً، فما هي النّوايا التي تُبطل العملَ بالكلية، وما هي النوايا التي تنقص أجره؟ هناك جوابان:

الأول: يميز بين نيّة الرياء وغيرها، فيرى أنّ العمل إذا كان رياءً يبطل بالكلية، أما إذا قُصد منه شيء يترتب على العمل، مما أذنت به الشريعة فلا يبطله، وإن كان يُنقص أجره، كحال من يصل رحمه يريد الأجر من الله، ويريد طول العمر، وهو مذهب (طائفة من السلف منهم عبادة بن الصامت وأبو الدرداء والحسن وسعيد بن المسيب وغيرهم، وفي مراسيل القاسم بن مخيمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يقبل الله عملًا فيه مثقال حبة من خردل من رياء))، ولا نعرف عن السلف في هذا خلافًا، وإن كان فيه خلاف عن بعض المتأخرين).  (15) 

الثَّاني: لا يُميز بين نيّة الرياء وغيرها، ويرى أنّ المعوّل في ذلك، هو أصل القصد، وقد (رُوي عن عبد الله بن عمرٍو، قال : إذا أجمعَ أحدُكم على الغزوِ ، فعوَّضَه الله رزقاً ، فلا بأسَ بذلك ، وأمَّا إنْ أحَدُكُم إنْ أُعطي درهماً غزا ، وإنْ مُنع درهماً مكث ، فلا خيرَ في ذلك)، فمعيار أصالة القصد أن يكون هو الدافع الّذي لولاه لما شرع العامل في العمل، وفي سياق تقرير هذا القول، يقول ابن رجب: (وقد روي عن مجاهد أنه قال في حج الحمَّال وحجِّ الأجير وحجِّ التاجر: هو تامٌّ لا يَنقص من أجورهم شيءٌ، وهذا محمول على أنَّ قصدهم الأصليّ كان هو الحجَّ دون التكسب)، ثمّ قال: (وأما إن كان أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء فلا يضرُّه، فإن كان خاطراً ودفعه، فلا يضره بغير خلاف، فإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويُجازَى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد، وابن جرير الطبري، وأرجو أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يُجازى بنيته الأولى، وهو مرويٌّ عن الحسن البصري وغيره)، ثم قال ابن رجب: (وذكر ابنُ جريرٍ أنَّ هذا الاختلافَ إنَّما هو في عملٍ يرتَبطُ آخرُه بأوَّلِه، كالصَّلاةِ والصِّيام والحجِّ، فأمَّا ما لا ارتباطَ فيه كالقراءة والذِّكر وإنفاقِ المالِ ونشرِ العلم، فإنَّه ينقطعُ بنيَّةِ الرِّياءِ الطَّارئة عليه، ويحتاجُ إلى تجديدِ نيةٍ)  (16) 

من فوائد الحديث:

- أنّ القتال في سبيل الله عزّ وجلّ، من أشقِّ العبادات وأعظم الطاعات، ومع ذلك فإنَّ المقاتل في سبيل الله، لا يكون عمله خالصاً لله عزّ وجلّ، إلا إذا أراد به أن تكون كلمةُ الله هي العليا، وفي ذلك توكيد لأهمية الإخلاص.

- المقصود الشرعيّ من اشتراط أن تكون كلمةُ الله هي العليا، في جهاد الكفار وقتالهم، هو إزالة الموانع التي تحول بين النّاس وطريق الهداية إلى الله عز وجلّ، وليكون الناس أحراراً في اختيار ما يعتقدون.

- الحكم الشرعي في سائر ضروب العمل الصالح، من حيث وجوب الإخلاص فيها، هو كالحكم في قتال الكفار، فإنّها إذا لم يُقصد بها وجهُ الله جل وعلا، ولم يُرَد بها أن تكون كلمةُ الله هي العليا، فلا تكون مقبولةً عند الله تعالى، ولا موصلةً إلى سبيله ومرضاته.

- جميع ضروب العمل الصالح، إذا قُصد بها وجه الله عزّ وجلّ، واقترن بهذا القصد نوايا ودوافع أخرى، فإنّها تؤثر على هذا العمل فتبطله بالكلية، أو تُنقص من أجره، وذلك بحسب ما إذا كانت تلك النّية هي نيّة الرياء أو غيرها، وبحسب ما إذا كانت قد نشأت في ابتداء العمل، أو طرأت عليه فيما بعد.

- إذا قارن الرياءُ أصل العمل، فالنصوص الصحيحة تدلّ على بطلانه.