لماذا كان النبي يكثر من صيام شعبان

رابط المقال

لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر من صيام شعبان؟

الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلِّي وأسلِّم على نبينا الكريم نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإدراك علل وأسرار الأحكام والأفعال الشرعية الدينية، سواءٌ كان ذلك في آيات الكتاب الحكيم أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، هو من غاية العلم ومن أكبر ما ينتفعُ به الإنسانُ، بعد علمه بكتاب الله وسنة رسوله؛ لأنه يحصل به من انشراح الصدور وإدراك حكمة الحكيم الخبير في أحكامه، وما يشرعه ما يُنشِّط النفوس على العمل.

فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يُكثر من الصيام في شعبان كما ثبت، حتى إنَّ عائشة رضي الله عنها -كما في الصَّحيحين- قالت: «وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ»  (1)  »، وفي بعض الروايات: «وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ»  (2)  ، وفي بعض الروايات: «كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ »  (3)  ، وهذا يدلُّ على عناية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بهذا الشهر الفضيل، صيامًا وإكثارًا من التَّقرُّب إلى الله تعالى بالصوم.

وقد تلمس العلماء السر والعلة في كثرة صيام النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل في ذلك جملة من الأقوال، منها ما يستند إلى أخبار ومنها ما يستند إلى تأملات وأفكار ونظرات في أسرار الأعمال.

أما بالنسبة لما يستند إلى الآثار: فقد جاء أن شعبان تُعرض فيه الأعمال على الله جلَّ وعلا، فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الصيام؛ لأنه كان يحب أن يُعرض عمله وهو صائم، كما جاء ذلك في مثل صيام الاثنين والخميس، إلا أن الحديث الوارد في هذا ليس بصحيح، بل إسناده ضعيف، وإن كان بعض أهل العلم قد قال بصحته، لكن النظر المحقِّق لإسناد الحديث لا يقوى على ثبوته؛ لأنه حديث لا يحتج به فيما يظهر والله أعلم، لكن هذا قال به بعض أهل العلم.

إذًا: العلة الأولى: أنه شهر تُعرض فيه الأعمال على الله تعالى، فلذلك كان يُكثر من الصيام لأنه يحبُّ أن يُعرَض عمله وهو صائم.

العلة الثانية التي ذكرها جماعة من أهل العلم: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يشغله سفره وجهاده واشتغاله بمصالح الناس، عن أن يصوم المسنونات في كل شهر، فكان يمر عليه شهر وقد لا يصوم شيئًا منه مع ندبه صلى الله عليه وسلم على الصيام، وقد كانت عائشة رضي الله عنها تقول: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم»  (4)  ، فقالوا: كان يُعوِّض ما فاته من صيام التطوع، في الأشهر التي لم يصمها، أو الأيام التي لم يصمها في شعبان.

العلة الثَّالثة التي ذكرها بعضُ أهل العلم، في سبب صيام شعبان: أنه كالسُّنَّة التي بين يدي الفرض، فإن صيام شعبان هو تهيئة للنفس وترويض لها وتقوية للبدن، حتى إذا جاء الفرض فإنَّ النفس قد قويت وقد تهيأت ودربت على صيام الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فكان هذا من التَّهيئة وتدريب النفس قبل مجيء الفرض، وهذا ثابت في الصلاة، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ »  (5)  ، وكان صلى الله عليه وسلم يحرص على صلاة قبل الفجر وصلاة راتبة قبل الظهر، فثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي قبل الفريضة تهيئةً للنفس.

ولهذا وسَّع بعضُ أهل العلم بناءً على هذا الاهتمام فقالوا: أيضًا هو شهرٌ يهتم فيه بالقرآن؛ لأنَّ القرآن هو محل الاشتغال في رمضان، فشهر القرآن هو شهر رمضان، فكانوا يقرءون القرآن في شعبانَ أكثر مما يقرءونه في غيره، كما ذكر ذلك ابن رجب رحمه الله في لطائف المعارف.

فهذه الأقوال، هي مجمل ما ذكره العلماء رحمهم الله في علَّة صيام شعبان، وأقربُ ذلك هو القول الأخير وهو أنه تهيئة للنفس وتعويدٌ لها على أن تشتغل بالصيام، حتى إذا جاء الفرضُ كانت النفسُ قد تهيأت واستعدَّت لهذه الفريضة، والله أعلم.