الحلقة(10) من برنامج(فادعوه بها2) الله الصمد الثاني

رابط المقال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد...

فأهلًا وسهلًا ومرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم [فادعوه بها]. كنا قد تكلمنا عن قول الله تعالى:﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾، وها نحن أيضًا في هذه الحلقة نتفيأ بعض معاني هذا الاسم الجليل من أسماء رب العالمين [الصمد]، ذاك الاسم الذي يدل على منتهى الكمال في حق رب العالمين، وأنه لا كمال فوق كماله، ولا ندَّ له، ولا نظير، ولا مثيل فهو الصمد الذي كمل في كل شرف، كما قال ابن عباس: "العظيم الذي كمل في عظمته، والحليم الذي كمل في حلمه، العليم الذي كمل في علمه، الجبار الذي قد كمل في جبروته، والذي انتهى إليه كل شرف وسؤدد، ولا يكون ذلك إلا لله وحده لا شريك له سبحانه وبحمده".

الله الصمد قال جماعة من أهل العلم: "الذي لا يطعَم" بمعنى أنه -جل في علاه- مستغنٍ عن الطعام، وهكذا جاء في قراءة قوله -جل وعلا-: "وهو يُطعِم ولا يَطعم" في قراءة، والقراءة المشهورة: ﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ (1)  ، فهو المنزَّه -جل في علاه- عن كل حاجة، هو الغني عن كل أحد سبحانه وبحمده، وهذا معنى ما ذكره بعض السلف من أنه لا جوف له، فهو مستغنٍ عن كل شيء سبحانه وبحمده.

المقصود أن معنى الصمد الذي يجب أن يقِرَّ في القلوب، وتتفهمه العقول أنه الذي كمل في شرفه وسؤدده وكامل صفات كماله سبحانه وبحمده.

 ومن معانيه أيضًا: أنه الذي يُقصد في قضاء الحوائج، فتقصده الطيور في السماء، وتقصده الديدان في الأرض، ويقصده الحوت في البحر، ويقصده العاقل وغير العاقل، يقصده الإنس والجن بقضاء حوائجهم وهو الذي يقضي حاجة كل محتاج جل في علاه سبحانه وبحمده، يعلم مثاقيل الذر، وعدد القطر، لا يخفى عليه من شأن عباده خافية، يرزقهم جميعًا في لحظة واحدة سبحانه وبحمده، لا يحصي عباده ثناء عليه، وما قدروا الله حق قدره سبحانه جل في علاه.

إن الصمد الذي هو من أسماء الله عز وجل يدل على الانفراد في الكمال، وأنه لا كفؤ له ولا ندَّ، ولا نظير ولا مثيل، فهو -جل وعلا- المنفرد بكل كمال لذلك افتتح الله هذه السورة بإثبات أُحاديَّته، وختمها بنفي أن يكون له نظير: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [1] اللَّهُ الصَّمَدُ[2] لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ[3] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (2)  ، وهذا مما فسر به معنى الصمد أنه لم يلد ولم يولد، فليس له أصل تفرع منه، ولا له فرع تفرع عنه جل في علاه، فهو الغني عن الأصول وعن الفروع، هو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم سبحانه وبحمده.

إن من الأمور التي ينبغي أن يُعلم وأن تُدرك في معنى الصمد أنه -جل في علاه- غني عن عباده، وهم إليه فقراء، وهم إليه في حاجة وضرورة، وقد ذكر الله في هذه السورة "سورة الإخلاص" التي هي صفة الرحمن ذكر الصمد مع اسم آخر من أسمائه وهو الأحد، وهما قرينان مستويان في أنهما لم يذكرا إلا في هذه السورة، فالصمد والأحد لم يذكرا في سورة أخرى من سور القرآن، إنما ذكرا في هذه السورة فقط، ولذلك في اقترانهما فائدة، وهنا يأتي الفهم لمعاني كلام الله عز وجل، ومعاني أسمائه في حال انفرادها، وفي حال اقترانها.

يقول الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ أمر الله رسوله أن يقول هذه المقولة: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [1] اللَّهُ الصَّمَدُ (3)  فهو يخبر -جل وعلا- في أنه أحد، ويخبر -جل وعلا- بأنه صمد سبحانه وبحمده، فما السر في اقتران هذين الخبرين؟

الخبر بأحديته، والخبر بصمديته جل وعلا، إن السر في ذلك هو أن هذين الاسمين الكريمين بهما يُثبت كل كمال، وينتفي كل شركة، وقد تكلمنا عن الأحد وأنه الذي يفيد انفراد الله تعالى بكل ما له من الكمالات، الصمد أيضًا ليس فقط انفراد بل بلوغ الغاية، والمنتهى في تلك الصفات؛ لأنه قد ينفرد الشيء بوصف لكنه لا يكون قد بلغ فيه المنتهى والغاية والنهاية، لكن ما أخبر الله تعالى به من أحديته فهو دال على انفراده بصفات الكمال، وأنه لا مثل له، ولا نظير، ولا كفؤ، ولا ند له -جل في علاه- في شيء من صفاته، لكنه أيضًا أفاد لما ذكر الصمد أنه الذي انتهى في تلك الصفات إلى أعلاها.

فمثلًا -ولله المثل الأعلى- لو أن شخصًا في بلد ما يوصف بأنه كريم، وليس في البلد مثله أحد، فهو الكريم الوحيد الذي في هذه البلد، الآن هو منفرد بهذه الصفة لكن إلى أي حد بلغ في الكرم؟ هل بلغ إلى نهاية الحد ومنتهى ما يوصف به الكرماء؟ أو أنه كثر في ذلك؟

لما يكون هناك منفرد بصفة الكرم لا يعني أن كرمه قد فاق غيره، لا يعني أنه قد بلغ النهاية في الكرم، إنما يكون ذلك إذا ثبت أنه الأكرم وأنه لا كريم في البلد غيره، هذا مثال أقرب به معنى قرن هذين الاسمين، فالله تعالى ذكر في هذه السورة الكريمة التي هي صفة الرحمن، والتي مَن أحبَّها أحبه الرحمن ذكر أنه الأحد، وهذا يدل على ماذا يا إخواني وأخواتي؟

يدل على انفراد الله تعالى بكل كمال في أسمائه، في صفاته، في أفعاله جل في علاه سبحانه وبحمده، في كل ما له من الكمالات هو المنفرد لا شريك له، ولا ندَّ، ولا نظير، ولا مثل، ولا سميَّ له جل في علاه لم يكن له كفوًا أحد، لكن لما جاء معنى الصمد أضاف إضافة أخرى وهي أنه مع هذا الانفراد بتلك الصفات إلا أنه ليس فوق وصفه وصف، فله المثل الأعلى جل في علاه الذي لا أعلى منه، وله الأسماء الحسنى التي لا أحسن منها، وبالتالي بلغ الغاية والمنتهى في إثبات كمالات الرب جل في علاه من خلال هذين الاسمين، من خلال هذين الخبرين المقترنين اللذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغهما الأمة في سورة الإخلاص: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[1] اللَّهُ الصَّمَدُ[2] (4)  الله أكبر.

ما أعظم هذه المعاني إذا عقلها العبد، وتفهما وأدرك الأسرار التي فيها فإنه يمتلأ قلبه محبة لربه، وتعظيمًا له، وإجلالًا له، ويعلم أنه مهما قام من العبادات ومهما فعل من الطاعات فحق الله أعظم، وما له أجل، وما يجب لإدراك ما يستحقه شيء لا يطيقه الناس، قال الله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (5)  .

ولذلك كان العارفون من عباد الله -عز وجل- يعلمون أنه مهما كان من أعمالهم فإنهم لن يبلغوا حق الله تعالى، ولن يقدروه قدره، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «سَدِّدُوا وقارِبُوا، وأَبْشِرُوا، فإنَّه لَنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ أحَدًا عَمَلُهُ قالوا: ولا أنْتَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ منه برَحْمَةٍ، واعْلَمُوا أنَّ أحَبَّ العَمَلِ إلى اللهِ أدْوَمُهُ وإنْ قَلَّ»  (6)  ، وبالتالي لا تستكثر شيئًا على الله عز وجل، كما قال ربك: ﴿وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (7)  ، فإن فضل الله تعالى عليك عظيم، وإجلاله جل وعلا وإحسانه لا يبلغ العباد إدراكه، ولا يعرفون حده، فقد بلغ في ذلك شيئًا لا تدركه عقولهم، ولا تطيقه أذهانهم فهو الجليل الكريم سبحانه وبحمده.

حقه علينا أن نمجده، وأن نقدسه، وأن نعرفه له ما له من الكمالات، وأن نقرَّ بعجزنا عن أن نبلغ قدره، أو أن نجزيَه حق ما يستحق من عبادة، وما قدروا الله حق قدره جل في علاه.

 إن الأحدية أثبتت لله -عز وجل- الانفراد في كل كمال، والصمدية أثبتت له -جل وعلا- أنه الذي قد بلغ الغاية والمنتهى في كل صفة من تلك الصفات.

إن المؤمن يتأمل بهذا كيف كانت هذه الأسماء مبلغًا عظيمًا أن وصفها بعض أهل العلم بأنها الاسم الأعظم، الصمد والأحد قال بعض أهل العلم أنهم الاسم الأعظم بناء على ما اشتمل عليه من كمال المعاني، وأنت إذا تأملت كلام العلماء في معرفة الاسم الأعظم وجدت أنهم يقولون في ذلك عدة أقوال، فمنهم من يقول: "إنه الله"، ومنهم من يقول: "إنه الحي القيوم"، ومنهم من يقول: "أنه الصمد"، ومنهم من يقول: "أنه الأحد"، ويقال غير ذلك من الأقوال.

وهذا يدل على أن التوصل إلى معرفة الاسم الأعظم محلّ اجتهاد، وليس أمرًا محسومًا، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في وصف الاسم الأعظم عدة أحاديث فجاء أنه: «قال عليه الصلاة والسلام لما سمِع رجلًا يقولُ: اللهمَّ إني أسألُك بأني أشهدُ أنك أنت اللهُ لا إلهَ إلا أنت الأحدُ الصمدُ الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يكنْ له كفوًا أحدٌ، قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: لقد سأل اللهَ باسمِه الذي إذا سئل به أعطى وإذا دُعِي به أجاب».  (8) 

وجاء أن الاسم الأعظم في ثلاثة سور: في البقرة، وفي آل عمران، وفي طه، وذلك إذا تُتبع وجد أنه الحي القيوم فهو المذكور في هذه السور.

 إذًا هذا التنوع يدل على أن الاسم الأعظم لا ينحصر في اسم محدد بل الاسم الأعظم يصدق على كل اسم بلغ في وصف الله عز وجل مبلغًا استوعب كل كمال، إما على وجه الانفراد كما هو في اسم الله، وإما على وجه الاقتران كما هو في الحي القيوم فإن صفات الذات تعود إلى الحي، وصفات الفعل تعود إلى القيوم.

وكما هو في (الأحد الصمد)، فإن الأحد يرجع إليه انفراد الله تعالى بكل كمال، والصمد يرجع إليه أنه -جل في علاه- الذي بلغ في تلك الصفات المنتهى والغاية، فليس فوق صفاته كمال، ولا وراء ما أخبر به عن نفسه مبتغى لزيادة في فضل أو شرف أو سؤدد. ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[1] اللَّهُ الصَّمَدُ[2]لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ[3] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (9)  ، هذه الآيات الكريمات بينت الصمد بسابقها ولاحقها، وبيانها فإنه قد ذكر بعد الصمد ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ وهذا من معاني الصمد، فإنه الذي استغنى عن أن يكون له ولد، واستغنى أن يكون له والد فهو الغني جل في علاه سبحانه وبحمده، الذي كل الخلق إليه فقراء وهم عنهم غني سبحانه وبحمده.

ينبغي للمؤمن عندما يقرأ مثل هذه الآيات، ويقرأ هذه السور أن يستحضر هذه المعاني، أنا أجزم أن هناك فرقًا بين أن أقرأ  ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[1] اللَّهُ الصَّمَدُ[2]لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ[3] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (10)  ، قراءة لسان دون عقل ذهن وفهم قلب، لكن الذي يقرأ هذه الآيات وهو مستحضر هذه المعاني بالتأكيد أنه سيجد في قلبه من اللذة، سيجد في قلبه من الحياة، سيجد في قلبه من زيادة الإيمان ما لا يجده في غيره، ولا يجده أيضًا في قراءة اللفظ التي يتجرد فيها عن فهو المعاني، لهذا ينبغي لنا أن نحرص وأن نبذل الجهد يا إخواني وأخواتي في تفهم كلام الله عز وجل، عندما نقرأ لاسيما ما أخبر الله تعالى به عن نفسه من الصفات، أن نبذل جهدنا في فهم تلك الصفات فإنها مفاتيح العلم بها يدرك الإنسان عظيم قدر الرب، ويؤدي بعض حقه من تحقيق العبودية له.

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا فهم كلامه، وأن يرزقنا الفقه في أسمائه وصفاته، وأن يرزقنا العمل بالصالحات، وإلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم [فادعوه بها]، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.