الدرس (1) حديث " لن ينجي أحدا منكم عمله".

رابط المقال

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
خرَّج البخاري -رحمه الله- في "صحيحه" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لن يُنَجِّيَ أحدًا منكم عملُه".
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قَالَ: "ولا أنا إلاَّ أن يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ برحمتِهِ، سَدِّدوا وقاربوا واغدوا ورُوحوا وشيءٌ من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا".
وخرَّجه أيضاً  في "موضع آخر"  في كتابه، ولفظه: "إن هذا الدِّين يُسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلاَّ غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة".
وخرج أيضاً  من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنّه قَالَ: "سدّدوا وقاربوا وأبشروا، فإنَّه (لا يُدخل الجنةَ أحدًا عملُه)  ". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قَالَ: "ولا أنا إلاَّ أن يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ برحمتِهِ".
وخرج أيضاً  من حديثها عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: "سدّدوا وقاربوا واعلموا أنّه لن يُدخل أحدَكم عملُه الجنة، وإنَّ أحبَّ الأعمال إِلَى الله أدومها وإنْ قلَّ".
اشتملت هذه الأحاديثُ الشريفةُ عَلَى أصلٍ عظيمٍ، وقاعدةٍ مهمةٍ. ويتفرع عليها مسائلُ شتَّى من مسائِل السير والسلوك إلى الله تعالى في طريقه الموصل إِلَيْهِ.
الأصل العظيم
أمَّا الأصلُ (فهو أنَّ عمل الإنسان لا يُنْجِيه)  من النَّار ولا يُدْخِله الجنَّة، وإنَّ ذلك كلَّه إِنَّمَا يحصل بمغفرة الله ورحمته.
وقد دلَّ القرآن العزيز عَلَى هذا المعنى في مواضع كثيرة كقوله تعالى: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}   (1)  . وقوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ}   (2)  ، وقوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ  يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}   (3)  .
فَقَرَن بين دخول الجنة والنجاة من النار وبينَ المغفرة والرحمة فدلَّ عَلَى أنّه لا يُنال شيء من ذلك بدون مغفرة الله ورحمته.
قَالَ بعض السَّلف: الآخرة إمَّا عفو الله أو النار، والدنيا إما عصمة الله أو الهلكة.
وكان محمد بن واسع يودع أصحابه عند موته ويقول: عليكم السلام إِلَى النار أو يعفو الله.
بيان معنى الباء في الآية والحديث
فأما قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}   (4)  ، وقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}   (5)  ، فقد اختلف العُلَمَاء في معنى ذلك عَلَى قولين:
أحدهما: أنَّ دخول الجنة (برحمته)، ولكن انقسام المنازل بحسب الأعمال.
قَالَ ابن عيينة: كانوا يرون النجاة من النار بعفو الله ودخول الجنة بفضله واقتسام المنازل بالأعمال.
والثاني: أنَّ الباء المثبتة، في قوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}، باء السببية، وقد جعل الله العمل سببًا لدخول الجنة.
والباء المنفية في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لن يَدخلَ أحدٌ الجنة بعمله"، باء المقابلة والمعاوضة، والتقديرُ لن يستحقَّ أحدُ دخول الجنة بعمل يعمله. فأزال بذلك توهم من يتوهم أنَّ الجنة ثمن الأعمال، وأنَّ صاحب العمل يستحق عَلَى الله دخول الجنة كما يستحق من دفع ثمن سلعة إِلَى صاحبها تسليم سلعته، فنفى بذلك هذا التوهم، وبيَّن أن العمل وإن كان سببًا لدخول الجنة، فإنما هو من فضل الله ورحمته.
فصار الدخول مضافًا إِلَى فضل الله ورحمته ومغفرته؛ لأنّه هو المتفضل بالسبب والمسيَّب المرتَّب عليه، ولم يبق الدخول مرتبًا عَلَى العمل نفسه.
في "الصحيح" عن النبى -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله تعالى يقول للجنة: أنتِ رحمتي أرحمُ بكَ مَنْ أشاء مِنْ عبادي".
ما للعباد عليه حقٌّ واجب ... كلا ولا (سعي) لديه ضائع
إن عُذِّبو فبعدلِهِ أو نُعِّمُوا ... فبفضله وهو الكريمُ الواسع
الحمد لله ثمن كل نعمة
فإن قيل: فقد روى حبيب بن الشهيد عن الحسن أنّه قَالَ: "الحمد لله ثمن كل نعمة، ولا إله إلاّ الله ثمن الجنة".
ورُوي هذا المعنى مرفوعًا من حديث أنس  وأبي ذر وغيرهما، وإن كان في (أسانيدها)  ضعف.
ويشهد لذلك قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}   (6)  . فجعل الجنة ثمنًا للنفوس والأموال.
فالجواب أنَّ الله سبحانه وتعالى بفضله ورحمته وكرمه، ومنِّه وطَوْله، خاطب عباده بما ندبهم إِلَيْه من طاعته عَلَى حسب ما يتعارفونه بينهم في تصرفاتهم المعهودة المألوفة لهم.
وجعل نفسه مشتريًا منهم ومستقرضًا وجعلهم بائعين له ومقرضين ليكون ذلك أدعى إِلَى (استجابتهم)  لدعوته ومبادرتهم إِلَى طاعته، وإلاَّ ففي الحقيقة الكلُّ له (ومِلْكه) ( ... ) ومن فضله وإحسانه ورحمته. فالنفوسُ والأموالُ كلُّها ملكٌ له، كما أمرنا عند المصائب أن نقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}   (7)  .
ومع هذا فقد مدح من بذل له نفسه وماله وجعله بائعًا له ومقرضًا، كالذي له ملكٌ يبيعه ويقرضه لغيره مِمَّن لا يملكه عليه كذلك الأعمالُ كلُّها من فضله ورحمته، وقد مدح عليها ونسبها إِلَى عاملها وجعلها شكرًا منهم لنعمه ومكافأة لها.
بيان معنى النعم وأنّ الحمد منها
وقد روى ابن ماجه  من حديث أنس مرفوعًا: "ما أنعم الله عَلَى عبدٍ نعمةً فَقَالَ: الحمد لله إلاَّ كان ما أُعْطِي أفضلَ مما أخذ".
وكذا قَالَ عمر بن عبد العزيز والحسن وغيرهما من السَّلف.
وأُشكل ذلك عَلَى كثير من العُلَمَاء قديمًا وحديثًا، وعلى ما قررناه معناه ظاهرٌ، فإنَّ المراد بالنعم: النعم الدنيوية، والحمد: من النعم الدينية.
والنعم الدينية أفضل من النعم الدنيوية، ولكن لما كان الحمد منسوبًا إِلَى العبد لفعله له، وقيامه به، جعله الله معطيًا لأعظم النعمتين، مكافئًا بها للنعمة الأخرى.
ولهذا جاء في الأثر "الحمد لله حمدًا يوافي نعمه ويدافع نقمه ويكافئ مزيده" .
فبهذا الاعتبار يكون الحمد ثمنًا للجنة.