الدرس (3) معنى سدِّدوا وقاربوا

رابط المقال

وفي "المسند" عن بُريدة قَالَ: خرجتُ فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشي، فلحقته فإذا نحن بين (أيدينا برجلٍ) يصلّي يكثر الركوع والسجود.
قَالَ. "أتراه يرائي؟ "
قلت: الله ورسوله أعلم.
قَالَ: (فترك) يدي من يده ثم جمع بين يديه فجعل يصوّبهما ويرفعهما ويقول: "عليكم هديًا قاصدًا، عليكم هديًا قاصدًا، عليكم هديًا قاصدًا فإنَّه من يشادَّ هذا الدين يغلبه".
وقد رُوي من وجه آخر مرسلاً، وفيه أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: "إن هذا آخذ بالعسر ولم يأخذ باليسر" ثم دفع في صدره فخرج من المسجد ولم يُر فيه بعد ذلك.
وقد أنكر النبيّ صلّى الله عليه وسلم عَلَى من عزم عَلَى التبتل والاختصاء وقيام الليل، وصيام النهار، وقراءة القرآن كل ليلة، كعبد الله بن عمرو بن العاص وعثمان بن مظعون والمقداد وغيرهم، وقال: "ولكني أصومُ وأفطرُ، وأقومُ وأنامُ، وأتزوجُ النِّساءَ، فمن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس منِّي" .
وانتهى بعبد الله بن عمرو أن يقرأ القرآن في كل سبع، وفي رواية أنّه انتهى به إِلَى قراءته في كل ثلاث، وقال: "لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث"، وانتهى به في الصيام إِلَى صيام داود، وقال: "لا صيام أفضل من ذلك"، وفي القيام إِلَى قيام داود عليه السلام .
معنى سدِّدوا وقاربوا
فقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي هريرة وعائشة: "سدِّدوا وقاربوا" المراد بالتسديد: العمل بالسِّداد، وهو القصد، والتوسط في العبادة فلا يقصِّر فيما أُمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه.
قَالَ النضر بن شميل: السداد القصد في الدين والسبيل.
وكذلك المقاربة المرادُ بها التوسط بين التفريط والإِفراط فهما كلمتان بمعنى واحدٍ أو متقارب.
وهو المراد بقوله في الرواية الأخرى: "وعليكم هديًا قاصدًا".
قوله: "وأبشروا" يعني أن من مشى في طاعة الله عَلَى التسديد والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد في الأعمال.
فإن طريقَ الاقتصاد والمقاربة أفضلُ من غيرها، فمن سلكها فليبشر بالوصول فإنَّ الاقتصادَ في سنة خيرٌ من الاجتهاد في غيرها، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فمن سلك طريقه كان أقرب إِلَى الله من غيره.
وليست الفضائلُ بكثرة، الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصةً لله عز وجل، صوابًا عَلَى متابعة السنة. وبكثرة معارف القلوب وأعمالها.
فمن كان بالله أعرف وبدينه وأحكامه وشرائعه، وله أخوف وأحبَّ وأرجى فهو أفضلُ ممن ليس كذلك، وإن كان أكثر منه عملاً بالجوارح.
وإلى هذا المعنى الإِشارة في حديث عائشة رضي الله عنها بقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم: "سدِّدوا وقاربوا واعلموا أنّه لن يُدْخِل أحدًا منكم عملُه الجنةَ، وإن أَحَبَّ الأعمال إِلَى الله أدومها وإنْ قل" .
فأمر بالاقتصاد في العمل وأن يضم إِلَى ذلك العِلْم بأحبِّ الأعمال إِلَى الله، وبأن العمل وحده لا يدخل الجنة.
بيان ما تفوَّق به الصحابة
ولهذا قَالَ بعض السَّلف: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره.
وقال بعضهم: الَّذِي كان في صدر أبي بكر رضي الله عنه المحبة لله ورسوله والنصيحة لعباده.
وقال طائفة من العارفين: ما بلغ من بلغ بكثرة (صيام)  ولا صلاةٍ ولكن بسخاوة (الأنفس)  وسلامة الصدور والنصيحة للأمة.
زاد بعضهم: وبذم نفوسهم.
وقال آخر منهم: إِنَّمَا تفاوتوا بالإرادات ولم يتفاوتوا بكثرة الصيام والصلوات.
وذُكر لأبي سليمان طولُ أعمار بني إسرائيل وضدة اجتهادهم في الأعمال، وأنَّ من الناس من غبطهم بذلك.
فَقَالَ: إِنَّمَا يريد الله منكم صدق النية فيما عنده. أو كما قَالَ.
وقال ابن مسعود لأصحابه: أنتم أكثر صومًا وصلاةً من أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وهم كانوا خيرًا منكم.
قالوا: وبما ذاك؟
قَالَ: كانوا أزهد منكم في الدُّنْيَا وأرغب في الآخرة .
يُشير إِلَى أن الصحابة فاقوا من بعدهم بشدة تعلق قلوبهم بالآخرة ورغبتهم فيها وإعراضهم عن الدُّنْيَا بتحقيرها وتصغيرها، وإن كانت في أيديهم، فكانت قلوبُهُم منها فارغةً، وبالآخرة ممتلئةً.
وهذه الحال ورثوها من نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّهُ كان أشدَّ الخَلْقِ فراغًا بقلبه من الدُّنْيَا، وتعلقًا بالله وبالدار الآخرة مع ملابسته للخلق بظاهره، وقيامه بأعباء النبوة وسياسة الدين والدنيا.
وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده، وكذلك أعيان التابعين لهم بإحسان كالحسن وعمر بن عبد العزيز، وقد كان في زمانهم من هو أكثر منهم صومًا وصلاةً، ولكن لم يصل قلبُهُ إِلَى ما وصلت إِلَيْه قلوب هؤلاء من ارتحالها عن الدُّنْيَا وتوطُنها الآخرة.

قاعدة جليلة
فأفضل الناس من سلك طريق النَّبيّ صلّى الله عليه وسلم وخواص أصحابه في الاقتصاد في العبادة البدنية والاجتهاد في الأحوال القلبية، فإنَّ سفر الآخرة يقطع بسير القلوب لا بسير الأبدان.
جاء رجلٌ إِلَى بعض العارفين فَقَالَ له: قطعتُ إليك مسافةً،
فَقَالَ له: ليس هذا الأمر بقطع المسافات، فارِق نفسك بخطوةٍ وقد حصل لك مقصودك.
وقال أبو يزيد: رأيت ربَّ العزة في المنام فقلت له: يا ربِّ كيف الطريق إليك؟
قال: اترك نفسك وتعالَ.
ما أُعْطِيتْ أمَّة ما أعطيت هذه الأمة ببركة متابعة نبيها - صلى الله عليه وسلم - حيث كان أفضل الخلق، وهديه أكمل الهدي، مع ما يسر الله عَلَى يديه من دينه ووضع به من الآصار والأغلال عن أمته.
فمن أطاعه فقد أطاع الله، وأحبه الله واهتدى بهدى الله.

بيان جملة من التيسير في التشريع
فمن جملة ما حصل لأمته ببركته وتيسير شريعته أنَّ: "من صلّى منهم العشاء في جماعةٍ فكأنما قام نصف الليل، ومن صلّى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله" .
فيكتب له قيام ليلة وهو نائم عَلَى فراشه، لا سيما إن نام عَلَى طُهرٍ وذِكرٍ حتى تغلبه عيناه.
و"من صام منهم ثلاثة أيام من كل شهر فكأنما صام الشهر كله" ، فهو صائم   (1)     الشهر في مضاعفة الله، ومفطر له في رخصة الله، و"الطاعم الشاكرُ له أجرُ الصائِم الصَّابِر" .
ومن نوى أن يقومَ من الليل فغلبته عيناه فنام كُتبَ له ما نوى، وكان نومه عليه صدقةً.
وقال أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف يسبقون سهر الجاهلين وصيامهم .
ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "رُبَّ قائم حظُّه من قيامه السهر، وصائم حظه من صيامه الجوع والعطش"   (2)     .
وقال بعضهم: كم من مستغفر ممقوت وساكت مرحوم هذا مستغفر وقلبه فاجر، وهذا ساكت وقلبه ذاكر.
وقال بعضهم: ليس الشأنُ فيمن يقوم الليل، إنَّما الشأن فيمن ينام عَلَى فراشه ثم يصبح وقد سبق الركب.
وفي ذلك قيل:
من لي بمثل سيركَ المدللِ ... تمشي رويدًا وتجي في الأولِ
معنى الغدوة والروحة وأوقاتها وفضائلها
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اغدوا ورُوحوا وشيء من الدُّلجة"، كقوله في الرواية الأخرى: "استعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة".
يعني أن هذه الأوقات الثلاثة تكون أوقات السير إِلَى الله بالطاعات وهي آخر الليل وأول النهار وآخره.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الأوقات في قوله تعالى:
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}   (3)  .
وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}   (4)  .
وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}   (5)  .
وذكَرَ الله تعالى الذِّكر في طرفي النهار في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله تعالي: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}   (6)  . وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}   (7)  . وقال تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}   (8)  . وقال تعالى -في ذكر زكريا عليه
السلام: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}   (9)    وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}   (10)  .