الدرس(1) من شرح العقيدة الطحاوية

رابط المقال

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وبه نستعين، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. قَالَ الْعَلاَّمَةُ حُجَّةُ الإِسْلامِ أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ الطَّحَاوِيُّ -بِمِصْرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ: هٰذا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ). بسم الله الرحمـٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهٰذا الدرس هو قراءة في كتاب الطحاوية -عقيدة الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى-. ولا شك أيها الإخوان أن ما يتعلق بالاعتقاد من الدروس والمؤلفات والبحوث هو من أولى ما ينبغي لطالب العلم أن يهتم به، لا سيما مع كثرة الضلال في هٰذا الباب، واشتباه الحق بالباطل على كثيرٍ من الناس، وليس هٰذا خاصاً بالمبتدئين من طلاب العلم ولا حتى المتوسطين، بل هو عامٌ وقع فيه كثيرٌ من المحقّقين من أهل العلم. ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يعتنيَ بمسائل الاعتقاد، وأن يحرّر فيها القول، وأن يبني عَقْدَه وما يدين الله به على أرضٍ عزاز، على أرضٍ صُلبة، على حجة وبرهان من الكتاب والسنة. وهٰذا لا يتأتى إلا بالنظر فيما ذكره الله جل وعلا في كتابه من العقائد، وفيما ذكره رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سنته، وفيما كان عليه سلف الأمة في القرون المفضلة، فإنهم خير القرون، لا سيما ما كان عليه الصحابة، فإنهم أفضل الناس وخير الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم. فينبغي للمؤمن أن يتحرّى ما كانوا عليه، فإنهم على الحق والهدى، تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الاعتقاد والعمل، عملوا بما اعتقدوا، كانوا على معينٍ صافٍ، وعلى حجة بينة، وعلى هدى وبرهان، لم يختلط بما اختلط به حال من بعدهم من العقائد المختلفة والأقوال المبتدعة والآراء الناشئة عن عقائد وأقوال فاسدة. فينبغي لطالب العلم أن يحرر هٰذا القصد، ومن رحمة الله جل وعلا بهٰذه الأمة أن جعل كتابها محفوظاً، وقيّض لسنة النبي صلى الله عليه وسلم من يميز الحق فيها من الباطل، من يميز الصحيح من المنسوب، من غير الصحيح. وأيضاً يسّر الله جل وعلا من يدوّن عقائد السلف ويبين أقوالهم وما كانوا عليه، ويبين ضلال الضالين ويردّ على المنحرفين. ولذلك كانت كتب الردود في العقائد من أوائل ما أُلف في الاعتقاد؛ لأن الناس كانوا على صراط مستقيم، وعلى هدى وحجة وبرهان، لم يلتبس عليهم الحق، ولم يختلط عندهم الأمر، بل كانوا على محجة واضحة بيضاء نقية. ثم حصل الزيغ والانحراف واحتاج أهل العلم أن يردوا على المنحرفين، فردّ من رد في القرن الأول في الصدر الأول من التابعين، بل رد الصحابة رضي الله عنهم على ما ظهر من البدع في أوقاتهم، كما جرى من ابن عمر وابن عباس: ابن عمر مع القدرية وابن عباس مع الخوارج، وغيرهما من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا سار على هٰذا المنوال وعلى هٰذا الطريق الأئمة المهديون من بعدهم، الذين تلقوا عنهم وساروا على طريقهم، ردوا البدع ولم يكونوا بحاجة إلى أن يؤلفوا عقائد؛ لأن الناس يستقون عقائدهم من الكتاب والسنة، يتلقون من قال الله قال الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عندهم في ذلك شك ولا ريب. فلما حدثت البدع وتنوّعت الطرق، وتكاثرت الأقوال الفاسدة، احتاج العلماء أن يؤلفوا عقائد يميزون فيها صراط أهل السنة والجماعة، طريقَ الفرقة الناجية المنصورة عن غيرها من الطرق. فكان من أوائل المؤلفات ما ألفه حماد بن أبي سليمان في الفقه الأكبر. وكذلك ما كتبه أبو حنيفة رحمه الله في كتابه الفقه الأكبر، وهي ورقات معدودة زِيد فيها ما ليس منها. ثم بعد ذلك نقلت العقيدة عن الإمام أحمد من رواية بعض أصحابه. ونقل الاعتقاد المشهور عن الإمام الشافعي عن بعض أصحابه. وهكذا كانت العقائد تنقل عن الأئمة وتُدوّن. ثم جاء بعد ذلك من العلماء من ألّف وكتب في عقائد السلف في مطولات ومختصرات. من أوائل من أَلَّف في المختصرات أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في هٰذه العقيدة التي بين أيدينا وسندرسها -إن شاء الله تعالى- وهي عقيدة مشهورة ذائعة الصيت، تكلّم عنها العلماء المتقدمون واعتمدوها ونقلوا عنها، حتى إنهم ينقلون منها فصولاً طويلة ومقاطع طويلة في الاستدلال لعقيدة السلف. وممن فعل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه ذكر عقيدة الطحاوي، ونقل منها، وكذلك ابن القيم رحمه الله، وغيرهما من أهل العلم. فالعقائد كانت مؤلفة منذ وقت طويل وعرفتم سبب ذلك، وهو أن الناس حصل عندهم الاشتباه وحدثت الأقوال المنحرفة والآراء المبتدعة في دين الله عز وجل، فاحتاجوا إلى أن يميزوا الحق عن الباطل، احتاجوا أن يبينوا صراط أهل السنة والجماعة عن غيره. ولا يعني أن هٰذه العقائد ما تضمنته قد حوى جميع عقيدة أهل السنة والجماعة، ولا يعني أيضاً أن هٰذه العقائد اقتصرت فقط على ذكر ما يتعلق بالعقيدة دون غيره من المسائل، بل فيها من مسائل الفقه ما هو معروف مشهور وسيمر علينا بعضه في هٰذه الرسالة. ومنها ما اقتصر على أبواب من أبواب الاعتقاد وعلى جوانب من العقيدة ركز عليها للحاجة فيما يظهر للكاتب المؤلف إلى البيان والتوضيح في هٰذه الأبواب وهٰذه الجوانب. عقيدة الطحاوي رحمه الله عقيدةٌ مختصرة، تكلم فيها عن أصول الإيمان وعن ما يتعلق بأكثر أبواب الاعتقاد. إلا أنه رحمه الله كان في كلامه شيءٌ من التكرار، فإنّ هٰذه العقيدة وقع فيها تكرار في عدة مواضع، كرر فيها كلاماً في مسائل تقدم له تقريرها ولا حاجة إلى إعادة الكلام فيها، ولعل ذلك ناشئٌ عن نظر المؤلف إلى أهمية هٰذه المسائل، وإلى الحاجة إلى تكرارها وتأكيدها. كذلك مما يلاحظ على هٰذه العقيدة أنها لم تحرر عقيدة أهل السنة والجماعة، عقيدة السلف الصالح فيما يتعلق بباب الإيمان، بل وقع فيها خلطٌ واشتباه فيما يتعلق بالإيمان، حيث إن المؤلف رحمه الله سار على ما كان عليه مُرجئة الفقهاء في قولهم في مسائل الإيمان، وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى ونوضحه. هٰذه العقيدة شروحها كثيرة في القديم والحديث، فلها من الشروح ما هو على طريق أهل السنة والجماعة، ومنها ما هو على طريق المبتدعة الذين لووا أعناق النصوص وحرّفوا الكتاب والسنة فضلاً عن كلام البشر، فإنهم حرّفوا كلام الطحاوي وحملوه على ما يوافق العقائد المنحرفة من عقائد الأشاعرة والماتريدية وغيرهم من مثبتة الصفات الذين خالفوا أهل السنة والجماعة. أشهر هٰذه الشروح وأخلصها و أصفاها من الاشتباه ما كتبه ابن أبي العز رحمه الله، حيث إنه كتب شرحاً موسعاً ضمّنه بياناً واضحاً لكثير من مسائل الاعتقاد، وكثير من مواد هٰذا الكتاب ومحتوياته، يعني ومما فيه هو منقول ٌ عن شيخ الإسلام رحمه الله وعن تلميذه ابن القيم، يعرف هٰذا من عرف كلام الشيخين، بل هناك نصوصٌ منقولة –مقاطع طويلة- من كلام الشيخين، ولا ضير في ذلك، فإن المؤلف رحمه الله أراد بيان الكتاب بكلام مبتدأ منه وبكلام مستفادٍ من غيره. وأيضاً مما تميز به هٰذا الشرح أنه شرح محرر من حيث الاستدلال، فهو مليء بالأدلة النقلية من الكتاب والسنة، التي تقرر ما تضمنته هٰذه العقيدة من مسائل الاعتقاد على اختلاف أبوابها، فهٰذا الشرح من أوفى الشروح ومن أجمعها وأوسعها، إلا أنه في الحقيقة لا يناسب المبتدئين؛ لكثرة التشعبات التي فيه، ولكونه حوى مسائل في الحقيقة هي من فضول المسائل وليست من أصول مسائل الاعتقاد، كمسألة التسلسل على سبيل المثال، وكمسألة أيّهما أفضل الملائكة أم البشر؟ وما أشبه ذلك من المسائل الكلامية، هل الاسم غير المسمى؟ وما أشبه ذلك. فالكتاب في الجملة كتابٌ جيدٌ من أفضل شروح هٰذه العقيدة المباركة. في المتأخرين هناك عدد من الشروح وعدد من التعليقات، علق عليها شيخنا عبد العزيز بن باز رحمه الله تعليقات مفيدة في كتابه المختصر، وله شرحٌ وتعليق على شرح ابن أبي العز، تعليق مفيد جيد، قرئ عليه شرح الطحاوية وعلق عليه في مواضع عديدة تعليقات مفيدة جيدة لطالب العلم، إلا أن الصوت فيها رديء. وفي الجملة الذي يتقن سماع الشيخ رحمه الله لا يجد إشكالاً في فهم الكلام. هناك تعليقات للشيخ ناصر الدين الألباني رحمه الله في الشرح وفي الاستدراك وفي بيان هٰذه العقيدة، وهو شرح مختصر. قبل هذين هناك شرح لابن مانع، وهو من علماء هٰذه البلدة، وهو شرح مفيد جيد، قرر فيه عقيدة أهل السنة والجماعة، وبيّن فيه ما في هٰذه العقيدة من العقائد المباركة. هٰذا أبرز ما لهٰذه العقيدة من شروح المتأخرين. وهناك شرحٌ جديد للشيخ صالح الفوزان أثابه الله، وهو شرحٌ مفيدٌ مختصر لهٰذه العقيدة، لخص فيه الكلام على جمل هٰذه العقيدة، وهو شرحٌ مفيدٌ مختصر مناسب لطالب العلم المبتدئ. هٰذه العقيدة بين المؤلف رحمه الله في مقدمته ما الذي يريد تحقيقه وما الذي يريد الكتابة فيه. قال رحمه الله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين). فبدأ الرسالة بما جرى عليه أهل العلم رحمهم الله من البداءة بالبسملة تأسياً بكتاب الله عز وجل، واتباعاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسيراً على ما جرى عليه عمل أهل العلم رحمهم الله في مؤلفاتهم وكتاباتهم. والبداءة بالبسملة سنة جارية في الكتاب والسنة وفي عمل أهل العلم قديماً وحديثاً، والبسملة تقدم الكلام عليها، وأنها جملة تامة، جملة اسمية أو فعلية تامة مفيدة، المتعلق فيها إما أن يكون اسماً أو فعلاً مقدراً مؤخراً مناسباً. قال رحمه الله: (وبه نستعين) بعد أن بدأ باسم الله عز وجل، أعقب ذلك الاستعانة به، والاستعانة بالله جل وعلا من أعظم ما يحصل به الإنسان مقصوده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ومن يستعن بالله يعنه))( ). فإن الإنسان إذا استعان بالله عز وجل على تحصيل مطلوبه يسر الله عز وجل له مطالبه، أما إذا اعتمد على نفسه وجهده وكدّه وعمله في تحصيل أموره فإنه لا يوفق إلى تحصيل المطلوب، بل كثيراً ما يفوته غرضه ومقصوده. فينبغي للمؤمن أن يَكِلَ أمره إلى الله، وقد قال الله جل وعلا في السورة المتكررة التي يقرؤها أهل الإيمان في صلواتهم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} ( ). فجعل بعد إفراد الله بالعبادة إفراده بالاستعانة، وذلك أنه: فأول ما يجني عليه اجتهاده إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فينبغي للمؤمن ألا يعتز بقوته وحوله، بل لا حول ولا قوة إلا بالله، فيستعين بالله عز وجل على مطلوبه دقيقٍ أو جليلٍ، فإنّ الله جل وعلا إذا لم ييسر لك الأمر لم يتيسر، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو جل وعلا. فينبغي للمؤمن أن يعلق قلبه بالله عز وجل، مستعيناً في فهم العلم وفي نشره وفي بذله وفي إفادة الناس به، فإنه إذا أعان الله عبده على ذلك وفق إلى خير كثير. قال رحمه الله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). وهٰذا حمدُ الله جل وعلا. هٰذه المقدمة هل هي من المؤلف أو من النساخ؟ على كل حال الأصل أنها من كاتب هٰذه العقيدة ومؤلفها، وهو الطحاوي رحمه الله. بعد البسملة والاستعانة حمد الله، وهو أحق من حُمد جل وعلا، وحمده إثبات الكمال له، فإن الحمد ذكر المحمود بصفات الكمال محبةً وتعظيماً، هٰذا أحسن ما قيل في تعريف الحمد: ذكر المحمود بصفات الكمال محبةً وتعظيماً. ولابد من هذين القيدين الأخيرين: أنه ذكرٌ لصفات المحمود على وجه المحبة والتعظيم، فإذا لم يكن محبةٌ ولا تعظيمٌ فإنه لا يسمى حمداً. قال رحمه الله: (قَالَ الْعَلاَّمَةُ حُجَّةُ الإِسْلامِ أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ الطَّحَاوِيُّ -بِمِصْرَ-). وهو من علماء القرنين الثالث والرابع الهجري، توفي رحمه الله في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة (321هـ)، وله مؤلفات مشهورة نافعة في الحديث والفقه، وهو على مذهب الإمام أبي حنيفة، وإن كان في الأصل شافعياً، إلا أنه انتقل إلى مذهب الإمام أبي حنيفة، وسار عليه، وإن لم يكن متمذهباً به بالمعنى الضيق؛ لأنه له اجتهادات خالف فيها الحنفية، وإنما ارتضى سبيلهم وطريقهم في التفقه في الدين. يقول رحمه الله: (هٰذا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ). المشار إليه ما سيأتي تفصيله في هٰذه العقيدة، وقوله رحمه الله: (ذِكْرُ بَيَانِ) المقصود توضيح وتجلية عقيدة أهل السنة والجماعة، (ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ)، والعقيدة هي ما طوى الإنسان قلبه عليه، وأصلها من العقد والشد؛ لأن الإنسان يعقد على ما يعتقد ويربط قلبه عليه، فالعقيدة هي ما طوى الإنسان قلبه عليه مما يتعلق بالله عز وجل وما يتعلق بأصول الإيمان، هٰذا الذي يبينه الشيخ رحمه الله في هٰذه العقيدة. وقوله رحمه الله: (أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) ليخرج غيرهم، فـ (أَهْلِ السُّنَّةِ) أخرج به أهل البدعة، و(أَهْلِ الْجَمَاعَة) أخرج به أهل الفرقة. وهٰذان الوصفان متلازمان، فإنه لا يمكن أن يكون الإنسان من أهل السنة إلا إذا كان من أهل الجماعة، ولا يمكن أن يكون من أهل الجماعة إلا إذا كان من أهل السنة، فهما وصفان متلازمان، وإنما نصوا عليهما- مع أن أحد الوصفين يغني عن الآخر- لأن هذين الوصفين يميزان أهل السنة عن غيرهم، فهما أبرز أوصاف أهل السنة والجماعة. أبرز صفات هٰذه الفرقة أنهم أهل سنة: فهم بالسنة مستمسكون، وإليها راجعون، وعنها صادرون، لا يعدلون بها شيئاً، ولا يقدمون عليها شيئاً، بل هي الحاكم على أقوالهم وعقائدهم وأعمالهم وآرائهم، فما جاء في السنة أخذوا به، وما ردته السنة ردوه، وما خالف السنة ابتعدوا عنه؛ لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من أحدث في أمرنا هٰذا ما ليس منه فهو رد)).( ) وأما الجماعة: فهم أهل اجتماع، ليسوا أهل فرقة، وهٰذا وصف لا بد لأهل السنة أن يعتنوا به، فإن الله جل وعلا في كتابه ذم الافتراق والاختلاف، وحث على الائتلاف والاجتماع، نصوص ذلك كثيرة، بل هو من الشرع السابق الذي سار عليه النبيون: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ( ). {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} إقامته بالقيام به عقْداً وعملاً، {وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أي ولا يكن شأنكم فيه شأن المتفرقين، وهٰذا بيان أن الائتلاف والاجتماع هو دين النبيين، ليس خاصّاً بهٰذه الأمة، ولذلك كانوا أهل اجتماع ليسوا أهل افتراق، واجتماعهم ليس على هوى إنما اجتماعهم على الكتاب والسنة، على إقامة الدين الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال رحمه الله: (عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) إلى آخر ما قال. قال رحمه الله: (عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ) أي إن هٰذه العقيدة التي ألفها رحمه الله وكتبها مستقاة مستفادة من أقوال فقهاء المِلة، وذكر (فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ) وسبب ذلك أن من ذكرهم تميزوا بالفقه عن غيره من العلوم، فأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن اشتهروا بين أهل العلم في القديم والحديث بالعناية بالفقه والكتابة فيه والتأصيل فيه، ولذلك ذكرهم بأخص ما اتصفوا به، وليس هٰذا أنهم لا يُتقنون إلا الفقه، إنما أراد رحمه الله بيان أخص ما تميزوا به عن غيرهم من العلماء. وقوله: (الْمِلَّةِ) الملة هي الطريقة، والمقصود بالملة هنا ملة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي ما يدين به صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ما جاء به من ملة إبراهيم. ومن هٰذا نعلم أن أبرز ما يوصف به الإنسان أن يكون من علماء الملة؛ لأن العلماء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام كما قال شيخنا محمد رحمه الله: عالم مِلة. وعالم أمة. وعالم دولة. الذي ينبغي لطلبة العلم أن يسعوا إلى تحقيقه في أخلاقهم وأعمالهم أن يكونوا من علماء المِلة الذين ينظرون إلى النصوص ويحكّمونها في أقوالهم وعقائدهم وأعمالهم، ويدعون إليها، ويعملون بها. عالم الأمة هو الذي ينظر إلى ما يشتهيه الناس، وما يحبونه وما يميلون إليه فيفتيهم بما يريدون، وهٰذا مذموم؛ لأنه لا يدل الناس على الخير، إنما يدلهم ويجيبهم بما يحبون وما يشتهون. مثل هٰذا في السوء عالم الدولة الذي ينظر إلى ما يشتهي أهل السلطة، ويقول بقولهم. والواجب على أهل الإيمان أن يكونوا من علماء الملة الذين ينظرون إلى قول الله وقول رسوله ولا يقدمون عليهما لا شهوة الأمة ولا شهوة غيرهم، بل يعملون بكتاب الله وسنة رسوله. ذكر في هٰذه العقيدة ثلاثة علماء هم: أبو حنيفة رحمه الله: النعمان بن ثابت الكوفي. وأبو يوسف: يعقوب بن إبراهيم الأنصاري. وأبو عبد الله: محمد بن الحسن الشيباني. أما أبو حنيفة فهو الإمام المقدم في هٰذا المذهب والمسلك، وكانت وفاته عام خمسين ومائة (150هـ)، وهو من الفقهاء المحققين، إلا أن بضاعته في الحديث قليلة رحمه الله. تبعه صاحباه في كثير من أقواله، وخالفاه حتى إنهما اشتهرا وأصبح لهما قولٌ يعدل بقوله، وقد يكون المذهب ما قالاه لا ما قاله أبو حنيفة، وهما أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري وكانت وفاته عام ثلاثة وثمانين ومائة (183هـ)، وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني وكانت وفاته سنة تسع وثمانين ومائة (189هـ) رضوان الله عليهم أجمعين. فهٰذه العقيدة مستفادة من أقوال هؤلاء، وليست العقيدة مذهباً خاصّاً يُعمل به ويفرَّق الناس عليه؛ يعني ليست كالمذاهب الفقهية العملية، إنما العقيدة قولٌ لم تختلف الأمة في أصوله وفي كثير من فروعه وتفاصيله، فهم متفقون عليه، ولذلك لا يقال: هٰذا في العقيدة حنفي، أو هٰذا في العقيدة شافعي، فإن الشافعية والحنفية والحنابلة والمالكية وغيرهم من المذاهب الفقهية إنما هي مذاهب وأقوال في المسائل العملية، وأما مسائل الاعتقاد فإنها مبنية على أي شيء؟ على الكتاب والسنة، لا تفرق فيها، ولا يعني هٰذا أنه لا خلاف بين أهل السنة في مسائل الاعتقاد بالكلية، لا في الأصول ولا في الفروع، لكن الكلام على أن الخلاف محدود، وهو في الفروع لا في الأصول. ليس بين أهل السنة والجماعة خلافٌ في مسائل الاعتقاد، بخلاف مسائل العمل، فإن فيها خلافاً بيّناً واضحاً. قال رحمه الله: (وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ). (مَا يَعْتَقِدُونَ) أي ما يدينون وما هي عقيدتهم في أصول الدين، و(أُصُولِ الدِّينِ) المراد بها مسائل الاعتقاد. وهٰذا التقسيم، منذ زمن بعيد جرى تقسيم الدين إلى أصول وفروع: الأصول: هي ما يتعلق بالعقائد. والفروع: هي ما يتعلق بالأعمال. وإن كان هٰذا التقسيم غير مطّرد؛ لأنه في الحقيقة يجعل ما هو أصل فرعاً، فمثلاً الصلاة أصل: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)).( ) وعلى هٰذا التفصيل هي من مسائل الفروع، وهٰذا لا شك أنه نزول برتبتها، وهي عمود الدين. لكن هٰذا التقسيم جرى عليه العلماء، وليس المراد بتقسيم الأصول والفروع التقليل من شأن الفروع، إنما المراد هو بيان ما يتعلق بالاعتقاد مما يتعلق بالعمل، فلما كان غالب ما يتعلق بالعمل هو من الفروع سمي جميع ما يتعلق بالعمل فروعاً. وإن كان في مسائل الاعتقاد ما هو من الفروع، كمسألة: أيهما أفضل الملائكة أو البشر؟ فإن هٰذا لو مات الإنسان ولم يكن له فيه اعتقاد بين ما ضره ولا نقصه، بل لا يزيد الإيمان ولا ينقص بمعرفة الراجح في مثل هٰذه المسألة. فالتقسيم إلى أصول وفروع إنما هو لأجل تمييز مسائل الاعتقاد عن مسائل العمل. قال: (وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ). (يَدِينُونَ) أي يتعبدون، أصلها من: دان يدين، والمراد بذلك أن ما في هٰذه العقيدة مما يتعبد الله جل وعلا به، فقوله: (وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ) أي يتعبدون بها لله سبحانه وتعالى. ومن هٰذا نفهم أن العقيدة ليست أقوالاً جامدة، كما يقول بعض الناس، إنما هي عقدٌ يتعبد العبد به الله جل وعلا ويدين به ربه سبحانه وتعالى، يتقرب إلى الله بهٰذا الاعتقاد، فالعقيدة مما يتقرب به إلى الله جل وعلا، بل هي من أجلّ ما يتقرب به إلى الله عز وجل؛ لأن العقيدة من أعمال القلوب، ومعلوم أن جنس أعمال القلوب أعظم عند الله عز وجل من جنس أعمال الجوارح، فكانت العناية بالاعتقاد مما ينبغي لطالب العلم أن يهتم به تعبداً وعملاً. يقول رحمه الله بعد هٰذه المقدمة التي بين فيها منهجه في هٰذه العقيدة المختصرة المباركة، قال رحمه الله: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ-). (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ) وتوحيد الله هنا بمعناه العام، الذي يشمل توحيد الإلهية والربوبية والأسماء والصفات؛ لأن هٰذه العقيدة لم تختص فقط ببيان نوع من التوحيد، إنما قرّرت ما يتعلق بتوحيد الربوبية، ما يتعلق بتوحيد الإلهية، ما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، فهي عقيدة شاملة واسعة تناولت جميع هٰذه الأبواب، فليست خاصة بنوع من أنواع التوحيد. ككتاب التوحيد مثلاً للإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فإنه في الغالب يقرر توحيد الإلهية. والواسطية على سبيل المثال الغالب فيها تقرير ما يتعلق بالأسماء والصفات، كذلك الحموية الغالب، بل هي في تقرير توحيد الأسماء والصفات فقط، وهلم جرًّا. هٰذه العقيدة قررت ما يتعلق بالتوحيد على وجه العموم، والتوحيد في الأصل مأخوذ من وحد يوحد توحيداً، فهو مأخوذ من وحّد، وأصل هٰذا الفعل دائرٌ على معنى الإفراد أي أفرد. فالتوحيد هو التفريد، أو إفراد الله عز وجل، وبماذا يحصل إفراده؟ إفراده بما يختص به سبحانه وتعالى، في الإلهية وفي الربوبية وفي الأسماء والصفات. أهم ذلك ما يتعلق بتوحيد الإلهية؛ لأنه الأصل الذي جاءت الرسل بالدعوة إليه، وهو المقصود من النوعين الآخرين: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات. فإن المقصود من توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية تقرير الإلهية، ولذلك استدل الله جل وعلا في الكتاب على إلهيته بأسمائه وصفاته، وبمعاني ربوبيته جل وعلا وبما ذكره من معاني الربوبية في كتابه سبحانه وتعالى، وأنه ربُّ كل شيء. ولا يعني هٰذا أن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ليس ذا أهمية، بل إن توحيد الأسماء والصفات مما يزداد به الإيمان ويرسخ، و يتحقق توحيد الإلهية بقدر ما يتحقق في قلب الإنسان من توحيد الأسماء والصفات، فهي متلازمة يبني بعضها على بعض، لكن في بيان ما جاءت الرسل بالدعوة إليه وجرت الخصومة بينهم وبين أقوامهم إنما هو في توحيد الإلهية، وإن كان وقعت مخالفات في توحيد الربوبية ومخالفات في توحيد الإلهية، لكن الخلاف الأساسي والأصلي الذي جرى بين الرسل وأقوامهم هو في توحيد الإلهية. يقول رحمه الله: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ-) أي إن هٰذا الاعتقاد وهٰذا القول ليس من جهدنا ولا من كدّنا ولا من عملنا ولا من جودة أفكارنا وعقولنا، بل هو بتوفيق الله. وهٰذا فيه تفويض الأمر إلى الله جل وعلا؛ لينفي العبد عن نفسه العجب، فإن الإنسان إذا نظر إلى عمله على أنه كسبه ومن جهده وكده اغتر ووقع في العجب الذي يحبط العمل، لكنه إذا أوكل ذلك إلى فضل الله عز وجل، وأسند ما هو فيه من خير إلى نعمة الله ورحمته كان ذلك من أسباب زيادته في الخير وشكره لهٰذه النعمة وفرحه بها وعمله بها بتوفيق الله. ثم بين رحمه الله في أول ما ذكره في هٰذه العقيدة المباركة تقرير توحيد الإلهية، بل قرر رحمه الله في هٰذا الإلهية والربوبية والأسماء والصفات، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ). هٰذه أول جملة في هٰذه العقيدة المباركة (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ). واحدٌ في أسمائه وصفاته، واحدٌ في ربوبيته، واحدٌ في إلهيته، وهٰذا فيه غاية التوحيد في جميع أبوابه وأصنافه، في توحيد الربوبية، وفي توحيد الإلهية، وفي توحيد الأسماء والصفات. (لا شَرِيكَ لَهُ) هٰذا فيه تقرير أنه لا شريك له في إلهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته. ففي هٰذه الجملة إثبات التوحيد بأنواعه الثلاثة، وأن الله جل وعلا لا شريك له في أيٍّ من هٰذه الأنواع الثلاثة. وحقيقة توحيد الربوبية –اعتقاد أن الله واحد في ربوبيته- أن تعتقد بأنه هو: الخالق، الرازق، المالك، المدبر، المحيي، المميت. وحقيقة اعتقاد أن الله واحدٌ في صفاته أن تثبت له ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأنه ليس كمثله شيء في صفاته سبحانه وتعالى. ومما يتحقق به أن الله واحدٌ في إلهيته أن تفرده سبحانه وتعالى بالعبادة، فلا تشرك معه أحداً: لا ملكاً مقرباً ولا نبيّاً مرسلاً، بل جميع العبادات له وحده دون غيره. وبهٰذا يتحقق عقد (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ). وقد أحسن المؤلف رحمه الله حيث قدّم هٰذه العقيدة بهٰذا الاعتقاد، بهٰذه الجملة التي تضمنت إثبات الكمال بالتوحيد لله سبحانه وتعالى في الإلهية وفي الربوبية وفي الأسماء والصفات. طيب هل هناك أنواع أخرى من التوحيد تدخل في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ)؟ الجواب: لا، جميع أنواع التوحيد مندرجة في هٰذه الثلاثة. فمثلاً ما يتكلم عنه ابن القيم رحمه الله من توحيد المحبة، هٰذا من جملة توحيد الإلهية، توحيد القصد والتوكل، هٰذا من جملة توحيد الإلهية والربوبية. فجميع الأقسام التي تذكر على وجه الانفراد من أنواع التوحيد لا بد وأن تندرج تحت أصل من هٰذه الأصول الثلاثة: إما توحيد الإلهية، أو توحيد الربوبية، أو توحيد الأسماء والصفات. ولذلك جرى عمل العلماء -رحمهم الله- منذ زمن بعيد على الاقتصار في ذكر أقسام التوحيد على هٰذه الأقسام الثلاثة. ولا حاجة إلى مزيد تقسيمات؛ لأن كثرة التقسيمات يحصل بها التشويش، ومعلوم أن التقسيم مقصوده في الأصل التسهيل، فإذا أكثرنا التقسيم انفرط العقد، وأصبح للمحبة توحيد، وللخشية توحيد، وللخوف توحيد، وللحكم توحيد، وهلُّم جرًّا، مع أن هٰذه كلها يمكن أن تندرج في الأقسام التي جرى عليها كلام أهل العلم واستقر عليها الأئمة من تقسيم التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وتوحيد الأسماء والصفات، ولا حاجة إلى المزيد، بل كل من زاد نقول هٰذا القسم يندرج تحت هٰذا النوع وانتهى الأمر، لا حاجة إلى تشقيق أكثر من هٰذا. فجميع صور التوحيد وأنواعه تندرج في قوله رحمه الله: (إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لا شَرِيكَ لَهُ). والله تعالىٰ أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.