الدرس(3)استكمال كتاب الحج

رابط المقال

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد،،،

فقال المؤلف رحمه الله:

( نقلا عن حديث جابر أنه قال: «فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، فأهلوا بالحج، وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثمّ مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية.

فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس، وقال : إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث - كان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل - وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله.

فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني يوم القيامة، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال - بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: " اللهم اشهد، اللهم اشهد " - ثلاث مرات-

ثمّ أذن بلال، ثمّ أقام فصلى الظهر، ثمّ أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثمّ ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة بن زيد خلفه، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى: أيها الناس، السكينةَ، السكينةَ.

كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضجع حتى طلع الفجر، وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثمّ ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن العباس، حتى أتى بطن مُحَسِّر، فحرك قليلا، ثمّ سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى.

حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بيده، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببَضْعَة، فجُعلت في قدر وطبخت، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها، ثمّ ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب، فولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم  فناولوه دلوا فشرب منه»  (1)  . فأكمل ما يكون من الحج: الاقتداء فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولو اقتصر الحاج على الأركان الأربعة)

الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد،،،

هذا السياق الذي ذكره المصنف رحمه الله هو بقية حديث جابر في صفة حج النبي صلى الله عليه وعلى أله وسلم وهو من أجمع الأحاديث في ذكر ما قام به وما عمله صلى الله عليه وسلم في حجه، الحج ستة أيام، يبتدئ باليوم الثامن وينتهي باليوم الثالث عشر، ولكل يوم اسم، أول ذلك يوم التروية وهو الذي بدأ به مقطع درسنا في هذه الليلة حيث قال: «فلما كان يوم التروية».

يعني جاء يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، «توجهوا إلى منى». أي توجه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن كان معه من الحجاج إلى منى، والتوجه إلى منى في هذا اليوم الإجماع منعقد على أنه سنة وليس واجبًا، يصلون فيها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر من يوم عرفة.

قال: «فأهلوا بالحج». أي أهلوا بالحج وهم من كان قد تحلل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم الذين لم يسوقوا الهدي، «أهلوا بالحج». يعني لبوا به، قالوا لبيك اللهم حج، أو لبيك حجة، «وركب النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه». وظاهر الأمر أنهم لبوا بالحج من أماكنهم التي نزلوها لم يقصدوا الحل، ولم يرجعوا إلى الميقات.

فالحاج يحرم بالحج بعد التحلل من العمرة من مكانه الذي نزل فيه، ولو كان في منى، يقول: «وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر». أي صلى بمنى، هذه الصلوات، والمكث في منى عبادة، طاعة، قربة، يذكر فيها الله تعالى ببدنه وبإقامته في هذا المكان، وبلسانه، وبما يقوم به من العبادات والصلوات.

«ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس من يوم عرفة، وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار النبي صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعل الحرام». جريًا على ما كانوا عليه «كما كان قريش تصنع في الجاهلية». حيث كانوا لا يخرجون إلى عرفة، بل يجعلون الحجيج يمضون إلى عرفة وهم يمكثون في المزدلفة، ويقولون لا نعظم شيئا غير الحرم.

عرفه خارج حدود الحرم، هي المشعر الحلال وهي خارج حدود الحرم، فإذا أتوا إلى حدود الحرم من جهة مزدلفة مكثوا، فظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم واقف وليس بخارج، لكنه أخلف ما كانوا عليه، «فجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يجوز الناس، حتى أتى عرفة». عرفة هي المكان المعهود المعروف وهي محل فرض الحج الذي هو ركنه الأعظم حيث قال صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الرحمن بن عمرو قال: «الحج عرفة».

وذاك أن من أدرك عرفة فقد أدرك الحج، ومن فاتته عرفة فقد فاته الحج، «فوجد القبة قد ضربت له بنمرة». ونمرة قرية صغيرة خارج حدود عرفة من جهة الحرم، هي أقرب إلى الحرم، أي إلى حدود الحرم من عرفة، «فنزل بها». صلى الله عليه وسلم «حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء وهي ناقته التي كان قد حج عليها فرحلت له». أي أعدت وهيئت ليأتي المكان الذي يخطب فيه.

يقول: «فأتى بطن الوادي». وهو وادي عرنة وهو بين عرفة وبين مزدلفة، والمشاعر بينها يفصل بين كل واحد منها والآخر واد، «فأتى بطن الوادي فخطب الناس». وذكر المصنف رحمه الله خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت خطبة جامعة، ذكر فيها من قواعد الإسلام وأصوله وما جاء به من الهدى والنور في أمور صلاح المعاش والمعاد ما هو حري بالعناية والاهتمام.

بدأ ذلك بتحريم الدماء والأموال، ثم بعد ذلك ذكر تحريم المال بتحريم الربا وهو ربا الجاهلية، ثم ذكر حق النساء ثم بعد ذلك بين الأمر الجامع الذي ينبغي أن يستمسكوا به، وهو كتاب الله فقال: «وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي أبدا، إن اعتصمتم به كتاب الله». فهو العصمة من كل ضلالة، والهداية من كل غواية، والصراط الذي من سلكه وصل إلى الله آمنا مطمئنا، هو الصراط المستقيم.

قال: «وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون، قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة رفعها على السماء وينكتها عليهم "اللهم اشهد"». استشهد الله عليهم بما شهدوه له من البلاغ، بعد هذه الخطبة «أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر، ثم قام فصلى العصر، ولم يصلي بينهما شيئا».جمعا والسر في الجمع في هذا اليوم هو المبادرة إلى قضاء الفريضة اشتغالا بالطاعة.

لأن الحجاج يشتغلون بعدها بالطاعة، حيث يشتغلون بذكر الله ودعاءه وسؤاله في الموقف، ولذلك شرع لهم الجمع؛ ليتفرغوا للطاعة والدعاء والعبادة، ثم أذن بلال وقال: « ولم يصلي بينهما شيئا، ثم ركب حتى أتى الموقف». كل هذا الذي جرى قبل دخول عرفة، ولهذا السنة التي فعلها صلى الله عليه وسلم أنه لم يدخل عرفة إلا بعد الزوال.

وما يفعله الناس من الدخول قبل الزوال الآن إنما هو لحاجة أو للمصلحة، وإلا فالأصل السنة ألا يدخل إلا بعد الزوال كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لكن الناس يفعلون التقدم الذي نشاهده لحاجتهم إلى ذلك، وحذرا من الزحام واكتظاظ الناس في هذا الموقف، قال: «ثم ركب حتى أتى الموقف». يعني المكان الذي وقف فيه في عرفة.

«فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات». يعني جعل راحلته وجهها مستقبل القبلة إلى الصخرات، وهي الصخرات القريبة من الجبل المعروف في عرفة، وهو جبل إلال، اسمه جبل إلال، ويسمى جبل عرفة، ويسمى جبل الرحمة، كل هذه التسميات يسمى بها هذا الجبل.

«وجعل حبل المشاة بين يديه». يعني جعل الطريق الذي يمر به الناس بين يديه. قربًا منهم وقضاءً لحوائجهم وسدًا لما يكون من حاجة السائلين إلى السؤال وما أشبه ذلك، «واستقبل القبلة». صلى الله عليه وسلم وهذا فيه سنية استقبال القبلة في الوقوف، وأنه يقف على راحلته إذا تيسر له ذلك وكان أرفق به،فالنبي صلى الله عليه وسلم وقف على راحلته «فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس». يدعو الله تعالى ويذكره ويعظمه «وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص». أي سقطت الشمس وذهبت الصفرة قليلًا.

ثم انصرف صلى الله عليه وسلم ودفع من عرفة وبه يكون قد انتهى الوقف المسنون في الوقوف لمن جاء عرفة نهارًا، فإنه يقف حتى تغرب الشمس ثم ينصرف، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وانصرافه قبل غروب الشمس عامة العلماء يرون أنه ترك لواجب، وأن الواجب الاستمرار حتى تغرب الشمس.

حتى إن بعضهم يقول حتى إذا رجع وجب عليه دم، لو خرج ورجع، والذي يظهر أنه إذا رجع ليس عليه شيء، لكن لا ينصرف حتى تغرب الشمس، قال: «وأردف أسامة». أي أركبه خلفه، «وأردف أسامة بن زيد خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام». يعني ضيق عليها الزمام، شدد.

«حتى إن رأسها يصيب مورك رحله». لئلا تندفع في سيرها، «ويقول بيده». وذلك لاكتظاظ الناس وازدحامهم فكان جمعا عظيما، «أيها الناس السكينة السكينة». «كلما أتى حبلًا من الحبال أرخى لها قليلًا حتى تصعد». وهذا فيه رفق بالدابة حيث إنه يترك لها الحبل شيئا قليلا إذا أرادت الصعود إعانة لها على ما تقبل عليه من ارتفاع وعلو.

«حتى أتى المزدلفة». والمزدلفة هي ثالث المشاعر التي يقف فيها الحاج بعد وقوفه بمنى يوم الثامن وعرفة في نهار التاسع، يقف في عشية عرفة بعد غروب الشمس في ليلة النحر، يقف في مزدلفة، حتى إذا أتى المزدلفة وهي المشعر الحرام.

وسميت مزدلفة لأن بها يقرب الحاج إلى الحرم، وقيل لأنها محل قربة وازدلاف، وقيل غير ذلك من الأسباب التي سمي هذا المكان بها، وتسمى جمعًا، وتسمى المشعر الحرام، كل هذه مما تسمى به هذه البقعة.

«فصلى بها المغرب والعشاء». عملا بما أمره الله تعالى به حيث قال: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}  (2)  . المشعر الحرام هو مزدلفة، وأول الذكر الأذان مع الصلاة، ولذلك لم يبدأ بشيء قبل الأذان، أمر المؤذن فأذن وصلى امتثالا لأمر الله {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}  (3)  .

قال: «ولم يسبح بينهما شيئا». يعني لم يتنفل بنافلة بينهما، التسبيح هنا الصلاة، ثم اضطجع حتى طلع الفجر أي نام صلى الله عليه وسلم «وصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة». فصلى الفجر في أول وقته، وهذا هو السنة، ليشتغل ويغتنم الوقت في الذكر بعد الصلاة.

«ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام». والمشعر الحرام هو في موضع المسجد الآن، وإن كان ليس بما يطلق على كل مزدلفة، لكنه علم على هذه البقعة، وهو المكان الذي وقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم «حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا». أي حتى انتشر الضياء والنور «فدفع قبل أن تطلع الشمس». مخالفة للمشركين الذين كانوا لا يدفعون إلا بعد شروق الشمس.

«وأردف الفضل بن العباس حتى أتى بطن محسر». في انصرافه من عرفة إلى مزدلفة أردف أسامة بن زيد، وفي انصرافه من مزدلفة إلى منى أردف الفضل بن العباس، وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم، وحرصه على هؤلاء الشببه أن ينقلوا عنه العلم، وأن يأخذوا عنه الهدي النبوي، فكل ذلك مما يدل على تواضعه.

لم يردف عمر أو أبا بكر أو عثمان أو علي كبار الصحابة، إنما أردف الصغار تواضعًا وحرصًا على أن ينقلوا عنه صلى الله عليه وسلم «حتى أتى بطن محسر». وهو الوادي بين منى ومزدلفة «حرك قليل». أي في سيره، قال بعض أهل العلم أن التحريك هنا سببه أن هذا الموضع هو الموضع الذي عذب فيه أصحاب الفيل.

وقال آخرون بل التحريك هنا لطبيعة المسير، فإن الأودية هابطة وبالتالي يكون سير الدواب وسير الناس فيها سريعًا، وهذا المعنى لعله أقرب لأن الصواب في مكان عذاب أصحاب الفيل أنه خارج الحرم، أي أنهم لم يدخلوا الحرم، بل كانوا خارج الحرم إذا إنهم أهلكوا بطير أبابيل في المغمس وهو خارج حدود الحرم.

قال: «ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة». واليوم يأتي من حيث تيسر له، من أي طريق تيسر له الوصول إلى الجمرة تحقق المقصود لاختلاف المعالم وزوال الطرق والمسالك التي كانت في زمانه صلى الله عليه وسلم.

والمقصود الوصول إلى هذا المكان، فحيث ما تيسر له أتاه، «حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة». وهي جمرة العقبة «فرماها بسبع حصيات». وبهذا يحصل التحلل الأول في قول جماعة من أهل العلم لحديث عائشة «إذا رميتم وحلقتم، فقد حل لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء»  (4)  .

وقيل لابد مع الرمي من حلق أو طواف بمعنى أن يفعل اثنين من ثلاثة، والأمر في هذا قريب والأظهر أنه يحصل التحلل برمي جمرة العقبة، «فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف». هذا تصوير وتشبيه للحصى التي رمى بها صلى الله عليه وسلم.

«رمى من بطن الوادي ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين بيده». هذا العمل الثاني الذي فعله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم ابتدأ برمي جمرة العقبة بسبع حصيات، وبه يحصل التحلل الأول ثم نحر هديه صلى الله عليه وسلم، وقد نحر ثلاثًا وستين بيده، «ثم أعطى عليًا فنحر ما غبر وأشركه في هديه، وكان قد أهدى صلى الله عليه وسلم مائة من الإبل، ثم أمر من كل بدنه ببضعه». أي بقطعة، فجعلت في قدر وطبخت فأكل من لحمها وشرب من مرقها». فأكل من لحمها وشرب من مرقها لتحقيق ما أمر الله تعالى بقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}  (5)  . وفي الآية الأخرى {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}  (6)  .

«ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت». ولم يذكر الحلاق، وفي روايات أخرى أنه بعد أن نحر هديه حلق رأسه صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك ركب فأفاض أي إلى البيت لطواف الحج، وهذا الطواف ركن كما سيأتي.

«فصلى بمكة الظهر». وقيل صلى بمنى، والذي يظهر انه صلى بمكة وصلى بمنى لما عاد بأصحابه، «فأتى بني عبد المطلب يسقون من زمزم فقال: انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم، فناولوه دلوًا فشرب منه صلى الله عليه وسلم ».

هذا مجمل ما فعله صلى الله عليه وسلم في يوم التروية، وفي يوم عرفة، وفي يوم النحر، ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى منى وبقي فيها إلى زوال شمس يوم الثالث عشر رمى جمرة العقبة، رمى الجمار ابتداءً بالصغرى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة، ثم انصرف وصلى الظهر خارج منى.

يقول المصنف: (وكان يفعل المناسك). أي يفعل العبادات والطاعات، (ويقول للناس خذوا عني مناسككم). أي كان صلى الله عليه وسلم حريصا على تعليم الناس، وأن يتلقوا عنه كيف يحجون، فكان يقول: (خذوا عني مناسككم)  (7)  . يعني أعمال النسك.

المصنف يقول: (فأكمل ما يكون من الحج الاقتداء فيه بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم). يعني أكمل صفات الحج ما كان فيه الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فكلما اقترب المؤمن في عمله ونسكه من هدي النبي صلى الله عليه وسلم كان أقرب إلى السنة، وكان أقرب إلى تحقيق المطلوب في الحج، وكان أعظم أجرًا وثوابًا.

فإنه قد جعله الله تعالى أسوة حسنة، ومن ائتسى به فقد امتثل ما أمر الله به ورسوله، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ}  (8)  . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «خذوا عني مناسككم»  (9)  .

لكن ما الحد الأدنى الذي لا يجوز لأحد أن يخل به حتى يأتي بالحج على وجهٍ مجزئ؟، الحد الكامل هو تمام الائتساء والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قدمه، أما الحد الأدنى فهو الإتيان بالأركان والواجبات، ولذلك قال: (ولو اقتصر الحاج على الأركان الأربعة). وعدها (والواجبات التي هي). وعدها كان بذلك قد فعل ما يجزئ، ولهذا قال: (لأجزئه ذلك). أي لكفاه، وبرأت ذمته، وتحقق المطلوب، ولم يطالب بشيء.

ما هي الأركان؟، وما هي الواجبات؟

يقول رحمه الله: (ولو اقتصر الحاج على الأركان الأربعة، التي هي: الإحرام، والوقوف بعرفة، والطواف، والسعي. والواجبات التي هي: الإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى الغروب، والمبيت ليلة النحر بمزدلفة، وليالي أيام التشريق بمنى، ورمي الجمار، والحلق- أو التقصير- لأجزئه ذلك). هذا جواب الشرط في قوله: (ولو اقتصر الحاج على الأركان والواجبات لأجزئه ذلك). وعد الأركان وعد الواجبات.

بعد أن فرغ المصنف رحمه الله من ذكر صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم يستوعب كل شيء أشار إلى أن الأكمل في الحج ما كان وفق هديه صلى الله عليه وسلم، ذكر الحد الأدنى وهو الحد المجزئ في الحج، أقل ما ينبغي أن يأتي به الحاج هو ما ذكره المصنف في قوله: (ولو اقتصر الحاج على الأركان الأربعة). التي هي واحد الإحرام، اثنان الوقوف بعرفه، ثلاثة الطواف، أربعة السعي، هذه الأركان.

أما الإحرام فالاتفاق منعقد على أن الإحرام ركن من أركان الحج، قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}  (10)  . أي تلبس به وأحرم به، فالحج لابد فيه من إحرام، فالإحرام ركن من أركان الحج، لا يقوم الحج إلا بالإحرام.

ولما نقول ركن يعني هو أمر لا يمكن أن يحصل الفعل إلا بوجوده، فهو جزء منه، كأركان البناء، لا يقوم البناء إلا بها، وكأركان الإنسان، تطلق على اليدين والرجلين، لا تحصل مصالح البدن ولا تقوم إلا بها، فالأركان هي جزء الشيء الذي لابد منه لقيامه.

أول ذلك الإحرام، والإحرام هو الدخول في النسك بأن يعزم بقلبه أنه داخلٌ في النسك ملتزم لأحكامه، الثاني الوقوف بعرفة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة»  (11)  . الثالث الطواف، لقوله تعالى ثم: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}  (12)  . في حكمة النداء قال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}  (13)  . ثم قال: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}  (14)  ..

فجعل الطواف بالبيت العتيق من مقاصد المجيء ولذلك العلماء مجمعون على أن الطواف ركن من أركان الحج؛ لأنه المقصود هو زيارة هذا البيت، وتعظيم هذا البيت، وذاك بالطواف به، والإتيان إليه {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}  (15)  .

أما السعي فعده المؤلف ركنًا، وهذا الذي ذهب إليه الإمام أحمد وجماعة من أهل العلم، وهو قول الجمهور، وذهب طائفة إلى أن السعي واجب من واجبات الحج وليس ركنًا، وقال آخرون بل السعي سنة، الأقرب والله تعالى أعلم أن السعي واجبٌ من واجبات الحج، فليس فيه نصٌ بين واضح في ركنيته، كقول: «الحج عرفة»  (16)  . وكقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}  (17)  . وما أشبه ذلك، فهو واجب من واجبات الحج على الصحيح من قول العلماء.

قال: (والواجبات التي هي). بعد أن عد الأركان انتقل إلى ذكر الواجبات، طبعا التصنيف لهذه بالواجبات، والتصنيف لما قبلها بالأركان هو مبني على النصوص ودلالتها على الأمر من حيث مكانته وقيام العمل به، فما لا يقوم العمل إلا به فهو ركن، وما يقوم به مع نقص له بدل أو يجبر فهو واجب، وما يقوم مع نقصه دون بدل ولا عوض ولا مؤاخذه فهو سنة.

قال: (والواجبات التي هي: الإحرام من الميقات). لتوقيت النبي صلى الله عليه وسلم، ولقوله: « هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة »  (18)  . (والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس). لفعله صلى الله عليه وسلم وقوله: «خذوا عني مناسككم»  (19)  . ولم يثبت أن النبي رخص فيه لأحد، وقد قال الإمام أحمد: "لم أر أحدًا يخفف فيه، كلهم يشدد فيه ". فتشديد السلف في النفرة من عرفة قبل غروب الشمس يدل على أن ذلك من الواجبات، فهو إجماع كما حكاه الإمام أحمد رحمه الله.

الواجب الثالث من واجبات المبيت (ليلة النحر بمزدلفة). وذلك لقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}  (20)  . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للضعفاء والترخيص يدل على الوجوب، وقد قيل بركنية المبيت بمزدلفة، وقيل بسنيته والصواب أنه واجب من الواجبات كما ذكر المصنف رحمه الله وهو قول الجمهور.

الواجب الرابع (المبيت ليالي أيام التشريق بمنى). لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص فيه لرعاء الإبل وهذا لا يكون إلا لواجب، الرخصة لا تكون إلا في مقابل العزيمة، وهذا قول الجمهور، وقال بعض أهل العلم بل المبيت بمنى سنة، وينبغي أن يعلم أن المبيت بمنى واجب على الصحيح من القولين، لكنه واجب مقيد بالاستطاعة، فمن لم يكن له مكان أو عجز عن إيجاد محل فإنه لا يجب عليه.

الخامس من الواجبات (رمي الجمار). والمقصود بالجمار أيام التشريق، وكذلك يوم النحر، فرمي الجمار من واجبات الحج، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لزمها وفعلها وأمر بها في قوله: «بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين  (21)  . وقوله: «إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»  (22)  . في حديث عائشة في السنن، وفي إسناده بعض المقال.

السادس من الواجبات (الحلق أو التقصير). قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ}  (23)  . وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عند التحلل بالحلاق كما في الحديبية، المقصود أن الحلاق والتقصير من واجبات الحج كما دلت على ذلك أحاديث عديدة، وهو محل اتفاق.

ثم قال: (لأجزئه ذلك). أي لأغناه وبرئت ذمته بهذا العمل الذي اجتمعت فيه هذه الأعمال، الإحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعي، وهي أركان على ما ذكر المصنف، (والإحرام من الميقات، والوقوف بعرفة إلى غروب الشمس، والمبيت ليلة النحر بالمزدلفة، وليالي التشريق بمنى، ورمي الجمار، والحلاقة والتقصير).

بهذا يكون قد حقق الحج المجزئ وهو أقل درجاته.

ثم قال: (والفرق بين ترك الركن في الحج وترك الواجب). هذا نجعله مبدأ درسنا غدا إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.