الدرس رقم (5) استكمال كتاب الحج

رابط المقال

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى في كتابه (منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين): (وتغطية رأسه إن كان رجلاً، والطيب رجلاً وامرأة، وكذا يحرم على المحرمقتل صيد البر الوحشي المأكول، والدلالة عليه، والإعانة على قتله .

وأعظم محظورات الإحرام: الجماع؛ لأنه مغلظ تحريمه، مفسد للنسك، موجب لفدية بدنة، وأما فدية الأذى: إذا غطى رأسه، أو لبس المخيط، أو غطت المرأة وجهها، أو لبست القفازين، أو استعمال الطيب، فيخير بين: صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة.

وإذا قتل الصيد خير بين: ذبح مثله، إن كان له مثل من النعم، وبين تقويم المثل بمحل الإتلاف، فيشتري به طعاماً فيطعمه، لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من غيره، أو يصوم عن إطعام كل مسكين يوماً).

الحمدلله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

يقول المصنف رحمه الله في سياق ما ذكره من محظورات الإحرام: (وتغطية رأسه إن كان رجلاً) وذلك للحديث السابق الذي تقدم: حديث ابن عمر رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لاَ يَلْبَسُ القُمُصَ، وَلاَ العَمَائِمَ، وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ، وَلاَ البَرَانِسَ))  (1)  قوله: العمائم والبرانس، قوله (إن كان رجلاً) يُخرج المرأة لأن المرأة مأمورة بالستر، ولا تُمنع من تغطية رأسها.

بعد ذلك قال رحمه الله: (والطيب رجلاً أو امرأة) أي ويُمنع من الطيب وقت الإحرام الرجال والنساء على حد سواء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ))  (2)  والزعفران والورس نوعان من الطيب، ويمكن أن يُستدل له بحديث ابن عباس رضي الله عنه: ((أَنَّ رَجُلًا وَقَصَهُ بَعِيرُهُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُحْرِمٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْنِ، وَلاَ تُمِسُّوهُ طِيبًا)) هذا نص في أن المحرم لا يتطيب بطيب لأنه محرم، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في تعليل هذا قال ((فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مُلَبِّيًا))  (3)  مما يدل على أن السبب في منعه من الطيب، ومن تخمير رأسه ومن نزع ثيابه للكفن المعهود: أنه يُبعث يوم القيامة ملبياً، أي على إحرامه، ويمكن أن يُستدل له بحديث عائشة رضي الله عنها وفيه قالت: ((كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ))  (4)  وهذا أعم من حديث ابن عمر في قوله: ((وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ))  (5)  لأن الزعفران والورس نوعان خاصان من الطيب، وقولها: ((كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ)) أي لأجل إحرامه قبل أن يحرم، ولأجل إحلاله قبل أن يطوف بالبيت، بهذا يكون قد ذكر ما يتعلق بالمحظورات فيما يتصل باللباس، وتزيد المرأة أو تختص المرأة عن الرجل فيما يتعلق بالمحظورات أنها ممنوعة من النقاب ولبس القفازين، ففي رواية البخاري لحديث ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وَلاَ تَنْتَقِبِ المَرْأَةُ المُحْرِمَةُ، وَلاَ تَلْبَسِ القُفَّازَيْنِ))  (6)  والنقاب هو خمار يُغطى به الوجه، مفصل فيه ثقب، ويشمل كل ما فُصل على الوجه مما فيه ثقب، سواء كان الثقب للعينين أو لعين واحدة، وسواء كان ثقباً واحداً أو ثقوباً متعددة، وكذلك يُحرم لبس القفازين للمرأة والرجل، والقفازان هما ما يستر بهما اليدان مما فصل لليد، سواء إن كانت للأصابع جميعاً أو لكل إصبع على وجه الانفراد، وسواء كان من قماش أو من جلد، أو من مصنوعات أخرى كالبلاستيك ونحوها.

قوله رحمه الله: (وكذا يحرم على المحرم قتل صيد البر الوحشي المأكول، والدلالة عليه، والإعانة على قتله) وهذا محل اتفاق، فالله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}  (7)  وكذلك في حديث الصعب بن جثامة: حديث أبي قتادة رضي الله عنه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم، منع المحرم من الصيد قتلاً ودلالة وإعانة، فإن أبا قتادة لما صاد وكان حلالاً، صاد صيداً وقدمه لأصحابه، قال صلى الله عليه وسلم: ((هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ؟))  (8)  فلما لم يكونوا كذلك أذن لهم صلى الله عليه وسلم في الأكل منه، وفي حديث الصعب بن جثامة لما أهدى، إلى النبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً، قد صاده له، رده عليه، فقال: ((إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حُرُمٌ))  (9)  يعني قد تلبسنا بالإحرام، فدل ذلك على ما ذكره المصنف رحمه الله، وهذا يستوي فيه الرجال والنساء.

قوله رحمه الله: (وأعظم محظورات الإحرام: الجماع) أعظم محظورات الإحرام يعني: أشدها وأغلظها: الجماع، ووجه كون الجماع أعظم محظورات الإحرام بينه المصنف في قوله: (لأنه مغلظ تحريمه، مفسد للنسك، موجب لفدية بدنة) فذكر ثلاثة أمور ميزت الجماع عن غيره من المحظورات، فجعلته أعظم المحظورات (مغلظ تحريمه) فتحريمه مشدد، وذلك لما يترتب عليه من فساد، ولأن الشريعة منعت مقدمات تتعلق به كالطيب، فإن من علل تحريم الطيب أنه يهيج على الجماع هكذا قالوا، وجعله مفسداً للنسك، والمرجع في ذلك إلى فتاوى الصحابة وأقوالهم، وكذلك أنه موجب للفدية، فجعله من أعظم المحظورات، لأجل هذه الأمور الثلاثة، أما تغليظ التحريم لم يرد في الجماع، شيء خاص سوى قول الله عز وجل: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}  (10)  لكن التقديم قد يشعر بشيء من التغليظ والأهمية، وإذا كان الرفث وهو ما دون الجماع، أو ما يندرج فيه مقدمات الجماع ممنوعة، فالجماع من باب أولى، وقوله (مفسد للنسك) ذكرت مستند ذلك أنه بفتاوى الصحابة، وذلك فيما إذا كان الجماع قبل التحلل الأول، وقوله (موجب لفدية بدنة) أي مثبت لفدية وبين الفدية بأنها بدنة، والفدية في الشرع هي ما شُرع جبراً للنسك بسبب فعل محظور أو ترك لواجب، هذا تعريف الفدية، فقوله (موجب للفدية) يعني موجب لما فرضه الشارع جبراً، للنسك بسبب فعل محرم في هذه الصورة، فعل محظور، والفدية سيأتي الإشارة إليها، وأنها نوعان: فدية أذى، وفدية تجب بقتل الصيد، أما فدية الأذى يبينها المؤلف رحمه الله بقوله (أما فدية الأذى) سيتكلم عن نوع من أنواع الفدية وهي فدية الأذى، وهي الفدية التي سميت فدية الأذى، لأن سببها في الأصل وأصل مشروعيتها في القرآن بسبب الأذى، قال الله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ}  (11)  أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ: فسميت فدية الأذى لأن الله تعالى جعلها فيما يصيب الرأس، من الأذى إذا احتاج إلى حلاقة، وإلا فهي فدية المحظور ألحق بها العلماء جميع المحظورات: من اللباس وتغطية الرأس ولبس القفازين بالنسبة للمرأة واستعمال الطيب.

يقول رحمه الله: (وأما فدية الأذى: إذا غطى رأسه، أو لبس المخيط، أو غطت المرأة وجهها) المقصود غطت المرأة وجهها بنقاب (أو لبست القفازين، أو استعمال الطيب، فيخير بين: صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة) هذا ما يتعلق بفدية الأذى، جاء بيانها في هذا الإيجاز أنه يخير بين: صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، أو ذبح شاة، وقوله رحمه الله: (فيخير) التخيير هنا تخيير تشهي، يفعل ما يشاء من هذه الخصال الثلاثة، ودليل ذلك حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، حيث أن الفدية نزلت في شأنه فإنه أصابه قمل، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في أن يأخذ من شعر رأسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَا كُنْتُ أُرَى الوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى -أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى- تَجِدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لاَ، فَقَالَ: فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ))  (12)  ففي الحديث أن من فعل محظوراً لحاجة، فإنه يجز له فعله لكن عليه فدية، وبدأ بالشاة قبل غيرها لأنها أفضل، وإلا فالله تعالى خير في الآية في قوله: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} في آية البقرة في قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}  (13)  .

أما النوع الثاني من الفدية: فهو الفدية في مقابل قتل الصيد، وهي تسمى فدية الصيد وهذه الأصل فيها قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}  (14)  فمن قتل صيداً عمداً فعليه جزاء وفدية، وهذا الجزاء وهذه الفدية بينها الله تعالى بقوله {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} والمقصود بالنعم: الإبل والبقر والغنم، فإذا قتل صيداً نظر إلى ما يشبهه من هذه الأنواع الثلاثة وهي النعم فيجب عليه مثله، يذبحه ويتصدق به، والاعتبار بالمماثلة ما ذكره الله تعالى فيه في قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي عدلان يعرفان الحكم وأوجه الشبه، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم، حيث قضوا أن في الحمامة شاة وأن في النعامة بدنة وأن في حمار الوحش بقرة، وأن في بقر الوحش على اختلاف أنواعه بقرة، كل هذا جاءت به الأقوال عن الصحابة، فالمرجع فيما فيه حكم إلى ما قاله الصحابة، ما لا حكم فيه يحكم به ذوا عدل ممن يرضون في الحكم ويعرفون الأشباه، وبهذا يتحقق ما ذكره الله تعالى في قوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} قوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أي أنه يوصل إلى الحرم، يكون ذبحه وتوزيعه على فقراء الحرم، {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} هذا الخيار الثاني في فدية قتل الصيد، كفارة ذلك الجزاء إطعام مساكين أن يجعل مقابل المثل من النعم طعام، يطعم المساكين، وقال كثير من العلماء: وكيف يكون المثل يقوم الجزاء، كم قيمة الجزاء من الإبل، من البقر، من الغنم؟ فيشتري بقيمته طعاماً، فيطعم كل مسكين مد بر أو نصف صاع، وأما قوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي عدل الطعام فيكون عن كل مسكين يوم، يعني يا إما عن مد بر أو نصف صاع من غيره عن كل مسكين يصوم يوماً، نقف على هذا.