بادر بالتوبة والاستغفار قبل موت قلبك

رابط المقال

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه واتبع سنته بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد.

استمعنا في هذه الصلاة التي أسأل الله تعالى أن يقبلها منَّا ومنكم لقراءة إمامنا في صلاة العشاء لسورة "البروج"، وذكر الله جلَّ وعلا فيها قصة أصحاب الأخدود، وهي قصةٌ شهيرةٌ معروفة لقومٌ من أهل الإيمان امتحنهم وتصلت عليهم أعداء الرحمن بالقتل والحرق؛ ليصدوهم عن سبيل.

﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (9) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾  (1)  ، ثم قال: وهنا موطن التعليق﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾  (2)  .

تندهش القلوب، ويصيبها نوعٌ من الانبهار لعظيم رحمة العزيز الغفار فإن الله جلَّ في علاه قصَّ في صدر السورة ما فعله هؤلاء بأهل طاعته بأوليائه، وأهل الإيمان به من النكال والعذاب الشديد حيث خدوا الأخاديد واضرموها نارًا ثم قذفوا فيها كل من أمن بالله، ومع ذلك يخبر الله تعالى عن عقوبتهم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾  (3)  ؛ أي صرفوهم عن الطاعة والإحسان بما فعلوه من التحريق، والأذى البالغ ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾  (4)  أثبت لهم عذاب جهنم، وعذابًا من جنس ما عذبوا به أوليائه وهو عذاب الحريق لكنَّه قيد ذلك بقيد وهو أنهم لم يتوبوا ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾  (5)  ، ﴿ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا﴾ أصروا على كفرهموطغيانهم، وأذاهم لعباد الله وأوليائه هؤلاء مهددون بهذه العقوبة فإذا تابوا فهل هم مهددون بهذه العقوبة؟

الجواب: إذا تابوا تاب الله عليهم. مع عظيم ما اقترفوه من جرم، وكبير ما تورطوا به من خطأ، وخطير ما وقعوا فيه من ذنب لكنَّ رحمة الله وسعت ذلك، وتلاشى أمامها كل ذلك الذنب إذا تابوا إليه وأبوا ورجعوا. وهذا مصداق قول الله عزَّ وجل: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾  (6)  فمهما عظم ذنبك، ومهما جلَّ في عيرك، ومهما كبر في نفسك فاعلم أن رحمة الله ومغفرته أعظم من ذلك فلا تتردد في التوبة مهما عظم الذنب وجلَّ وفحش وكبر فإن رحمة الله وعفوه للتائبين يتلاشى أمامها، ويتبدد كل سيئٍ من العمل ذاك فضله حتى ولو كان مما يتعلق بحقوق عباده؛ لأن هذا الجرم الذي عرض الله تعالى فيه التوبة على الفاعلين ليس ذنبًا خاصًا فيما بينهم وبين الله بل يتعلق بإيصال أعظم الضرر للناس وهو الضرر عليهم في دينهم بصدهم عن سبيل الله، وفتنتهم عن الإيمان، وصرفهم عن الطاعة والإحسان مع ذلك يعرض الله تعالى عليهم التوبة، و"التوبة":هي الرجوع إلى الله بالندم، هي الرجوع إلى الله عزَّ وجلّ بالإقلاع عن الذنب، هي الرجوع إلى الله –عزَّ وجل بالعزم على عدم العود إلى سيئ العمل ذاك فضله جلَّ في علاه، ذاك منَّه وإحسانه وهو العزيز الغفار سبحانه وبحمده. فجديرٌ بالمؤمن أن يبادر إلى التوبة من كل ذنبٍ وخطيئة فما منَّا إلا وله خطأ«كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاء وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»فليبادر المؤمن والمؤمنة إلى التوبة الصادقة رجاء أن يعفو الله تعالى عن الذنب، وأن يتجاوز عن الخطأ، وأن يمحو السيئ بل فضله أنه يبدل السيئات حسنات قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾  (7)  ؛ أي يتورط في هذه الأعمال ﴿يَلْقَ أَثَامًايُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا﴾  (8)  ثم قال:﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾  (9)  . أي فضلٌ وإنعام أجزل وأعظم وأكرم من هذا العطاء الرباني الإلهي للتعذيب إنه لو لم يكن في فضل التوبة إلا أن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين لكان ذلك كافيًا فكيف وهذه المحبة تفتح لهم أبواب العطاء، ولا يقل أحد أن لا احتاج للتوبة ما منا إلا وهو محتاجٌ إلى أن يقول: أستغفر الله.

الله –عزَّ وجل يقول لرسوله في محكم كتابه:﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ﴾  (10)  فأمره بالاستغفار بعد هذا العمر المديد في الطاعة والإحسان، بعد هذا العمر المديد في الدعوة والصبر على أذى الكفار مع ذلك يأمره بالاستغفار لما يمكن أن يكون من قصور أو يمكن أن يكون من تقصير«فكُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاء» وما أحوجنا إلى دوام الاستغفار، ودوام التوبة فإنه من لم يتب فإنه يجني على نفسه قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾  (11)  .

فكن من السالمين من الظلم بالتوبة والاستغفار، وأبشر فإن الله تعالى يفتح لك بالتوبة أبوابًا من الخير والبر، والإحسان والفضل، والعطاء والإعانة، والتوفيق والتسديد ما ليس لك على بال فالله لا يمكن أن يخذل من عاب إلي ورجع، لا يمكن أن يخذل من أخبر أنه يفرح بتوبته أشد الفرح وهو الغني الحميد جلَّ في علاه. فبادر عمرك ولحظاتك قبل فوات الأوان بكثرة التوبة والاستغفار من كل ذنبٍ وخطيئة، ولا يعظم في نفسك ذنبٌ أن الله لا يغفره فإن الله يغفر الذنوب جميعًا حتى الشرك وهو الظلم العظيم فإنه يغفره الله تعالى إذا تاب العبد منه. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾  (12)  ؛ يعني إذا كان الإنسان مصرًا ولم يتب أما إذا تاب فليس ثمة ذنبٌ لا يغفر الله قال الله تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا﴾  (13)  ؛ أي عن كفرهم ﴿يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾  (14)  ؛ كل ما سلف من خطيئة أو ذنب إذا تاب العبد منها تاب الله عليه.

جاء في المسند بإسنادٍ لا بأس به من سند ابن ماجة من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» يعني في معاملة الله له، وفي مغرفته له، وفي ولايته له، وفي إعانته له، وفي محبته كما لو لم يكن منه ذنب ذاك فضلٌ وإحسان فلنتعرض لفضله وإحسانه بتجديد التوبة ليس بين فترةٍ وأخرى بل في كل صباح نقول: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأن عبدك، وأنا على عهدووعدك ما استطعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي؛ (أي أقر بذنبي) فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" هذا سيد الاستغفار الذي يقال غدوةً وعشية، بكرةً وأصيلة، صباحًا ومساءً إعلان بأنك مفتقر على التوبة مع تردد نفسك في كل لحظاتك أنت محتاجٌ إلى أن تتوب إلى الله تأمل حالك في تقصيرك في حق ربك تجد شيئًا يسيرًا لا يغتر الإنسان بصلح ظاهره وثناء الناس عليه، وان ذنوبه لم يعرفها الناس ستر الله لو انكشف لنفضحنا؛ ولذلك يقول بعض السلف: لو أن للذنوب رائحة لما جلسني أحد وهو من الصالحين أهل السير العطرة؛ وإنما قالوا ذلك لعظيم معرفتهم بحق الله –عزَّ وجل في حين أن من الناس من يأتي الكبيرة تلوى الكبيرة والخطيئة تلوى الخطيئة، ويقرن السيئة بالسيئة ولا يجد في نفسه ألمًا، ولا يجد أنه قصر السبب موت قلبه

وما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ

 

إذا جئت لشخص ميت وجرحته وقطعته، وأصبته بما تصيب من الأذى. أيحس؟

لا؛ لأنه ميت. كذلك القلب إذا توالت عليه الذنوب وعلته طبقة الران التي هي ثمرة تعاقب النكت التي تنكت في القلب حتى يعود «أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا»هكذا وصفه النبي صلى الله عليه وسلم من حيث السواد والظلمة، والانغلاق وعدم الانتفاع بالذكر والذكرى.

"كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا": يعني كالكوب مقلوبًا يدخل ماء إإتي بكوب وصب فيه ماءًا هل يصله شيء هذا القلب إذا توالت عليه المعاصي كالكوب مقلوبًا لا يصل إليه وعظ ولا ينتفع بذكرى ، ولا يتعظ بعظة بل ينطنس ولا ينتفع بشيء من ذلك جدير بالمؤمن أن يجلو قلبه، أن يطهر قلبه، أن ينظف قلبه وأعظم ما تنظف به القلوب التوبة، والرجوع إلى العزيز الغفار جلَّ في علاه، وكثرة الاستغفار، وإحداث العمل الصالح، والعزم على الرشد كل ما يكون سببًا لترك السيئة أحرص عليه فإنه يقربك إلى الله ويبعدك عن السوء به يطيب قلبك، وإذا طاب قبلك انشرح واطمأن، وسعد وابتهج والتزم. طاب معاشك وسيطيب معادك إذا طابت حياتك الله تعالى وعد أولياءه بفضلٍ عظيم وأجرٍ جزيء معجل بطمأنينة القلوب والحياة الطيبة ، وبالفوز يوم العرض عليه.

فلنبادر أيها الإخوة نبادر أعمارنا بالتوبة ما ندري متى نرحل؟ هو نفس يخرج ولا يعود أو يدخل ولا يخرج مهيش صعب المغادرة، المغادرة ما أقربها لكل واحدٍ منَّا لكن الشيطان يمدنا بآمال ويسوف لنا الخيرات، ويؤخر عنَّا الصالحات حتى تمضي أعمارنا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ»، «بَادِرُوا بِها هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا؟» ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ».

فينبغي للمؤمن أن يبادر بالتوبة والاستغفار، وأن يكثر من صالح العمل رجاء الفوز والله كريمٌ منَّان من صدقهُ صدقه، ومن أقبل عليه لا يرده هذه مطرده الذي يقبل على الله سيجد من الله عونًا، والذي يعرض فإنه لم يجد من الله إلا خزلالاً.

فأقبل على الله بصدق بقلبك وسيتبعه بدنك؛ لأن القلب إذا أقبل لابد أن تنقاد الجوارح لهذا القبل لكن عندما يكون القلب مدبرًا فهما كان الشكل والصورة مقبلة ستتخلف يومًا من الأيام.

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتوب علينا ويغفر لنا السر والعلن. اللهم أغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلَّها، صغيرها وكبيرها، علانيتها وسرها. اللهم أغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أعلنا وما أسرنا وما أسرفنا، وما أنت أعلم به منَّا.

اللهم اجعل أعمالنا فيما يرضيك واصرف عنَّا كل ما يغضبك. اللهم إنَّا نسألك أن تستعملنا في طاعتك، وأن تصرف عنَّا معصيتك، وأن ترزقنا التوبة الصالحة، وأن تثبتنا على الحق والهدى، وأن تحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعلى إيماننا وعلى شمائلنا.

ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننا من الخاسرين. ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، احفظنا واحفظ بلادنا، وولاتنا، والمسلمين من كل سوءٍ وشر وصلى الله وسلم على نبينا محمد".