الحلقة (15) والذين هم في صلاتهم خاشعون

رابط المقال

الحلقة الخامسة عشر: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}  (1) 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حياكم الله ومرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: "عباد الرحمن".

الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأصلي وأسلِّم على مَنْ بعثه اللهُ هاديًا للعالمين، ورحمةً للخلقِ أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومَنِ اتبعَ سُنَّتَه، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:

ففي هذه الحلقة نتناول موضوعًا يؤرِّقُ كثيرًا من الناس، ويسألُ عنه كثيرون، وهو موضوع: الخشوعُ في الصلاة.

اللهُ ـ جلَّ وعلا ـ عندما ذكرَ المؤمنين، ذكرَ في أول صفاتهم بعدَ إيمانهم أنهم في صلاتهم خاشعون؛ قال ـ جلَّ وعلا ـ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}  (2)  ، فما هو الخشوع الذي وصف اللهُ ـ تعالى ـ بهِ هؤلاء؟ وكيفَ يبلُغُهُ الإنسان، فيكون في صلاته خاشِعًا؟

الخشوع: هو لينُ القلبِ ورقّته وخضوعه وذُلّه، اللين والرقة هي فرع عن الخضوع، والذُّل؛ فالقلب إذا ذلَّ وخضع لان واستكان ووجدَ من الحضور والتأثر بكلام الله ـ عز وجل ـ ما يصلِحُ بهِ عمله، ويستقيم بهِ حالُه، ويتلذذ فيهِ بصلاته.

الخشوع أيها الإخوة والأخوات، يُحوّل الصلاة إلى جنة يفزع إليه الإنسان من لهيب ما يُحيط بهِ من الضغوط، ويفزع إليه الإنسان عندما تُحدق بهِ النوازل، وتكتنِفُهُ المخاوف، فيكونُ مفزَعُهُ إلى وقوفه بينَ يدي ربه، يشكو إليه همَّه، ويُنزل بهِ حاجته، ويتضرع إليه، لكن هذا لا يجدهُ أولئكَ الذين خلت قلوبهم من الخشوع، فليسَ في صلاتهم سكَن، ولا في صلاتهم ذكر، ولا في صلاتهم قرار، بل صلاتهم عجلًا، تجدُ أحدَهم إذا صلى صلى سريعًا، ينقُرُها كما ينقرُ الغرابُ الحبَّ، لا يذكرُ اللهُ تعالى فيها إلا قليلًا، هذا معزول عن حقيقة الصلاة لم يتذوق طعمها.

"النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ فَزِع إلى الصلاة"  (3)  ، أتظنُّون أنَّ ذلكَ منهُ صلى الله عليه وسلم بمجرد التعبّد فقط، أم أنَّ ثمةَ سرٌّ في الصلاة، لماذا لم يفزع إلى الصدقة مثلًا؟ لماذا لم يفزع إلى الصوم مثلًا؟ لماذا لم يفزعْ إلى عمل آخر من الأعمال الصالحة مثلًا؟ فزع إلى الصلاة؛ لما في الصلاة من الروح، لما في الصلاة من النور، لما في الصلاة من السكن، لما في الصلاة من الذكر، لما في الصلاة من الخضوع، لما في الصلاة من الدعاء، لما في الصلاة من القُرْب إلى الله عز وجل الذي يتذوق بهِ لذة مناجاته، فيخشعُ لهُ جلَّ في علاه، ويُنزلُ بهِ حاجته، ويسألهُ ما يُسكِّنُ فؤاده، ويُذهب عنهُ المخاوف.

أيها الإخوة والأخوات، الصلاة مفزع لمن تذوقوا طعم الخشوعِ فيها، لمن التذوا بحقيقتها وروحِها؛ ولذلك تجد أنَّ أهل العلم الذين لهم معرفة بالصلاة يكمُلُ خشوعهم، فتنهمرُ دموعهم؛ ولذلك يقول اللهُ تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}  (4)  نعم، كيف لا يزيدهم القرآن خشوعًا؟ وهو الذي قال فيه جلًّ وعلا: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}  (5)  فالله جلَّ وعلا يذكرُ الخشوع الذي يُنتجه سماع القرآن على الجماد، فكيف بالقلوب الرقيقة؟ القلوب التي تعي القرآن وتفهمُه، إنها ستكونُ كما قال الله عز وجل في وصفِ أهل العلم: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}  (6)  وقد كان رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم ـ على هذا النحوِ في صلاته، فكان ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ يحرصُ على تكميلها بالخشوع؟ فكان إذا ركع، قال صلى اللهُ عليه وسلم: «اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي» وفي رواية: «وَشَعَرِي وَبَشَرِي»  (7)   كُلُّ ذلك يدل على أن الخشوع يتخلَّل أعمالَ الإنسان، وأحوالَهُ، وأجزاءهُ كُلَّها، فلا يبقى منها شيءٌ إلا وبلَغهُ تأثير الخشوع.

إنَّ الخشوع هو الذُّلُّ بين يدي الله، عندما يخشع سمعك، فلم تسمع ما حرَّم الله، عندما يخشع بصرك، فلن ينظر إلى ما حرَّم الله، عندما يخشع عظمُك، فلن يحملَك إلى ما حرَّم الله، وهكذا كُلُّ أعضائك عندما تخشع، فستذِلُّ لله ـ عز وجل ـ وستنقادُ له، ولن تنصرف إلى سواه، هذا كُلُّه يجمعُهُ ابتداءً خشوع القلب الذي إذا خشع انقادت الجوارح.

ورسولنا ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ كان يبكي في صلاته خشوعًا لله ـ عز وجل ـ كما جاءَ في حديث عبد الله بن الشِّخِّير – رضي الله تعالى عنه – قال: "رأيت رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم يصلي، وفي صدره أَزِيزٌ – أي: صوتٌ- كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ البُكاءِ"   (8)  خشوعًا لله ـ عز وجل ـ وذُلًّا بين يديه، وتواضعًا له.

ومن تواضع لله تخشُّعًا رفعهُ الله ـ تعالى ـ في الدنيا وفي الآخرة، ووجدَ لعبادتهِ طعمًا، ووجدَ لذلك لذةً، وقد قال اللهُ ـ تعالى ـ في وصف أهل الإيمان: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}  (9)  ، وفلاحهم نجاحهم في الدنيا والآخرة، وبلوغُهم المقاصد في الدنيا، والآخرة: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}  (10)  فكُلُّ مَنْ خشع في صلاته فإنهُ نائلٌ هذا الوعدَ من الله ـ عز وجل ـ  كانوا إذا قاموا في الصلاة، أقبلوا على صلاتهم، وحَفِظُوا أبصارَهم، وخفضوها إلى موضع سجودهم، وعلموا أنَّ اللهَ يقبل أعمالهم إذا صدقوا في الإقبال عليه، فيُقبِلون عليه بقلوبهم وقوالِبهم فيُقبِلوا عليهم، فلا يلتفتون يمنةً ولا شمالًا، كلُّ ذلك رغبة فيما عندَ الله عز وجل.

أيها الإخوة والأخوات، إنَّ حال المؤمن إذا خشع في صلاته، إنه يبلُغ منزلة من الطمأنينة والسكن قد ينقشع بها عنهُ كُلُّ إحساس مُوجِعٌ، ومما يُذكرُ في ذلك ما نُقل عن عُرْوَةَ بن الزبير ابن حواري رسول الله ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ وهو العالمُ المدني أحد الفقهاء السبعة - رحمه الله – وأحد علماء الإسلام، وأحد فضلاء أهل الصدر الأول من التابعين – رضي الله تعالى عنهما وأرضاهم – كانَ قد أصابته الأَكَلَةُ في قَدَمِه، وسَرَتْ إلى أن بلغت ساقَه، فأشار الأطباء عليه ببترِها، لئلَّا تمتد إلى بقية جسمه، فأردوا لهُ شرابًا يقطع عنهُ الألم، فقال في ذلكَ ما قال من أنهُ لا يأكلُ شيئًا يُذهِبُ عقلهُ، ولكن قال: "إذا كنتم ولا بدَّ فاعلين، فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة"، يعني: إذا كنتم لا بدَّ ستقطعون رجلي، فافعلوا ذلك في الصلاة، فإني لا أُحِسُّ بذلك، ولا أشعرُ به، قال: فنشروا ساقهُ – رضي الله تعالى عنه – وهو في الصلاة، فلم يَشْعُرْ بذلك، ولم يتضوَّر، ولم يَخْرُج، فلمّا انصرف من الصلاة عزاه بعض من حضره. فقال: "اللَّهُمَّ لكَ الحمدُ، كان لي أربعةُ أطرافٍ، فأخذتَ واحدةً، ولئن قد أخذْتَ فلقد أَبْقَيْتَ، وإن كُنتَ قد ابتليتَ فلطالما عافَيْتَ".

الله أكبر ما أعظمَ حال الخاشع في صلاته، إنهُ ينقطع عن كُلِّ شيء، ويقبلُ على ربه، في إقبالٍ وإخباتٍ، وذُلٍّ بينَ يديه، لكنَّ الخشوعَ لا يمكن أن يأتي لإنسان، قد فرَّقَ قلبهُ في الأفكار، وتجاوبَ معَ الهواجس التي تطرأُ عليه، وتمادى في التفكير يمنةً، ويسرة.

إنَّ الخشوع لا يتحقق إلا لرجلٍ أقبل على صلاته، عظَّمَ وُقُوفَهُ بين يدي ربِّه، تدبّرَ ما معهُ من الآيات، وما يقوله من الأذكار، وما يُسبِّحُ بهِ من التسبيحات، وما يدعو بهِ من الأدعية، عندَ ذلك يتحقَّق لهُ الخشوع، عندَ ذلك يتحقق لهُ خشوع سمعه وبصره وعظمه وعصبه ومُخِّه، وما أقلَّتْ قدمُه.

أسأل اللهُ العظيم ربَّ العرش الكريم أن يرزقني وإياكم الخشوع في الصلاة.

إذا أردتم الخشوع في الصلاة، تهيَّؤوا للصلاة بوضوءٍ حَسَنٍ، قدِّموا بينَ صلاتكم الفريضة نافلة، أقبِلوا على الله في الصلاة بقلوبٍ خاشعة، واعلموا أنَّ أجرَكم بقدر حضور قلوبِكم، وخشوعِكم في صلاتكم، واعلموا أنَّ صلاة الخاشع لها من اللذة، والبهجة ما يصدقُ عليه قولهُ ـ تعالى ـ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}  (11)  .

اللهم اجعلنا منهم، واسلُك بنا سبيلَهم، وارزقنا لذة الخشوع في صلاتنا، واجعلنا من الخاشعين في أقوالنا وأعمالنا,

إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: "عباد الرحمن" أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعَه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.