المطلب الأول : فهم حقيقة النازلة المنظورة

رابط المقال

المطلبُ الأولُ: فهمُ حقيقةِ النازلةِ المنظورةِ:

مِن ضروراتِ الحكمِ في النازلةِ: فهمُ واقعِها وإدراكُ حقيقتِها، والإحاطةُ بالتفاصيلِ المؤثرةِ في حكمِها؛ لأنها موضعُ تنزيلِ الحكمِ، فلا يمكنُ إصابةُ الحقِّ في الحكمِ إلا بالعلمِ التامِّ بهِ، قالَ شيخُنا رحمهُ اللهُ: «لا بدَّ أن يكونَ الفقيهُ بدينِ اللهِ، عندَهُ شيءٌ مِن فقهِ أحوالِ الناسِ وواقعِهِم، حتى يُمْكنَ أن يُطَبِّقَ الأحكامَ الشرعيةَ على مقتضَى ما فَهِمَ مِن أحوالِ الناسِ، ولهذا ذكرَ العلماءُ في بابِ القضاءِ: أنَّ مِن صفاتِ القاضي أن يكونَ عارفًا بأحوالِ النَّاسِ ومصطلحاتِهم في كلامِهم وأفعالِهم»  (1)  ، وهذا ما أمرَ بهِ الخليفةُ عمرُ رضي الله عنه أبا موسى رضي الله عنه فيما يَرِدُ عليهِ مِنَ الأقضِيَةِ والمسائلِ؛ حيثُ كتبَ لهُ: «فافهمْ إذا أُدليَ إليكَ؛ فإنه لا ينفعُ تَكَلُّمٌ بحقٍّ لا نفاذَ لهُ...، ثم الفَهْمَ الفَهْمَ فيما أُدْلِيَ إليكَ ممَّا وردَ عليكَ ممَّا ليسَ في قرآنٍ ولا سنةٍ، ثم قايِسِ الأمورَ عندَ ذلكَ، واعرفِ الأمثالَ»  (2)  . وهذا ما أشارَ إليهِ ابنُ القيمِ فيما يحتاجُهُ الحاكمُ والمفتي ليحكمَ بالحقِّ فيما يَرِدُ إليهِ، يقولُ رحمهُ اللهُ: «ولا يتمكنُ المفتي ولا الحاكمُ مِنَ الفتوى والحكمِ بالحقِّ، إلا بِنَوْعَيْنِ مِنَ الفهمِ؛ أحدُهما: فهمُ الواقعِ والفقهُ فيهِ، واستنباطُ علمِ حقيقةِ ما وقَعَ، بالقرائنِ والأماراتِ والعلاماتِ، حتى يحيطَ بهِ علمًا»  (3) 

ومِنَ وسائلِ فهمِ حقيقةِ النازلةِ المنظورةِ؛ جَمْعُ المعلوماتِ المتصلةِ بموضوعِ النازلةِ التي تَكْشِفُ حقِيقَتَهَا، وتُبَيِّنُ صورتَهَا، والظروفِ التي أحاطتْ بها، قالَ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السعديُّ في فتاواهُ: «جميعُ المسائلِ التي تَحْدُثُ في كلِّ وقتٍ، سواءٌ حدثتْ أجناسُها أو أفرادُها، يجبُ أن تُتَصوّرَ قبلَ كلِّ شيءٍ، فإذا عُرِفتْ حقيقتُها وشُخِّصَتْ صفاتُها، وتَصَوَّرَها الإنسانُ تصوُّرًا تامًّا بذاتِها ومقدماتِها ونتائجِها؛ طُبِّقَتْ على نصوصِ الشرعِ وأصولِهِ الكليةِ»  (4)  .

ومما يُعينُ في اكتمالِ فهم ِالنازلةِ المستجدةِ وإدراكِ حقيقتِها؛ مراجعةُ أهلِ الاختصاصِ في موضوعِ النَّازلةِ، سواءٌ كانت طبيِّةً أوِ اقتصاديَّةً أوِ اجتماعيَّةً أو سياسيَّةً أو غيرَ ذلكَ. ولهذا أَرْجَعَ الفقهاءُ في كثيرٍ مِنَ المسائلِ إلى ذوي الاختصاصِ في المسائلِ التي بحثوها وبنَوا أحكامَهم وأقضيتَهم ونتاجَ نظرِهم على ما أفادوهُ.