المسألة الثانية: ضمان البائع عيب المبيع

رابط المقال

المسألة الثانية: ضمان البائع عيب المبيع:
الأصل في عقد البيع أنه يقتضي سلامة المبيع من العيوب؛ لأن المقصود منه انتفاع المشتري بالمبيع، وهذا لا يتكامل تحقيقه وتحصيله، إلا بقيد السلامة في المبيع  (1)  . ولذلك أثبتت الشريعة للمشتري الخيار فيما إذا تبين أن المبيع معيب قبل قبض المشتري استدراكًا لما قد يفوته، وإزالة للضرر ببقاء العيب  (2)  . وهذا بالاتفاق فيما إذا كان العيب حادثًا في المبيع قبل البيع  (3)  .
أما إذا كان العيب حدث في المبيع بعد العقد، وقبل قبض المشتري، ففي كونه من ضمان البائع خلاف بين أهل العلم  (4)  .
فإذا كان عيب المبيع قد حدث بعد قبض المشتري فإن الإجماع منعقد على أنه من ضمان المشتري  (5)  إلا في مسائل معدودة وقع الخلاف فيها بين أهل العلم، هل هي من ضمان البائع، أو من ضمان المشتري؟، وهذه المسائل هي:
 
أولًا: بيع العُهْدَة (عهدة الرقيق):
وهو بيع يتعلق فيه ضمان المبيع بالبائع في زمن معين  (6)  . وهذه العُهْدَة تثبت للمشتري في الرقيق خاصة، ولو حدث العيب فيه بعد قبض المشتري، ولهذا فإنها تسمى عهدة الرقيق  (7)  ، وهي نوعان:
الأول: عهدة ثلاثة أيام:
وهي كثيرة الضمان قصيرة الزمان  (8)  ، فالضمان فيها شامل لجميع العيوب، والأدواء، وما يطرأ على الرقيق، من نقص في بدن أو فوات عين في مدة ثلاثة أيام  (9)  .
الثاني: عهدة السنة:
وهي قليلة الضمان طويلة الزمان  (10)  ، فالضمان فيها يشمل ثلاثة أدواء فقط، وهي: الجنون، والجذام، والبرص  (11)  .
وهذا النوع من الضمان انفرد به المالكية دون سائر أهل العلم  (12)  .
وقد استدل المالكية لهذين القسمين بعدة أدلة:
الأول: قول النبي- صلى الله عليه وسلم-: «عُهْدَةُ الرَّقِيقِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ»  (13)  . 
وجه الدلالة:
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أثبت عهدة للمشتري على البائع مدة ثلاثة أيام  (14)  .
المناقشة:
نوقش هذا من ثلاثة أوجه:
1- أن هذا الحديث لا يصح، فلا يحتج به  (15)  ، وقد بينت ذلك في تخريجه.
2- يحتمل أن يكون المراد المشروط في البيع  (16)  فيكون من خيار الشرط.
3- أنه مخالف للأصول  (17)  ؛ إذ الأصل أن العين مضمونة على مالكها.
الثاني: عمل أهل المدينة؛ فإن عملهم جرى على إثبات العهدتين في الرقيق، وتناقلهما الخلف عن السلف  (18)  .
المناقشة:
نوقش هذا بأن إجماع أهل المدينة وعملهم ليس حجة تثبت بها الأحكام  (19)  .
الثالث: أن الرقيق يكتم عيبه، فيُستظهر عليه بثلاثة أيام حتى يتبين للمشتري ما كتم عنه، فهذه المدة نظير ما جعل في التصرية التي دلس بها البائع  (20)  .
الرابع: أن الأدواء التي تضمن في عهدة السنة أدواء تتقدم أسبابها، ويظهر ما يظهر منها في فصل من فصول السنة دون فصل بحسب ما أجرى الله تعالى العادة في ذلك، فجعلت هذه العهدة سنة حتى تؤمن هذه العيوب، ومن التدليس بها  (21)  .
المناقشة: 
نوقش هذان التعليلان بأن الداء الكامن لا عبرة به، وإنما النقص بما ظهر لا بما كمن  (22)  .
الإجابة:
أجيب عن هذا بأنه غير مسلَّم؛ لأن الكامن إذا دلّ عليه دليل بعد ذلك، وعلم به، صار كالظاهر  (23)  .
 
ثانيًا: أن يكون العيب مستندًا إلى سبب سابق على القبض:
اختلف أهل العلم– رحمهم الله– في العيب الحادث بعد قبض المشتري إذا كان يستند إلى سبب سابق على القبض، هل هو من ضمان المشتري، أو من ضمان البائع؟ على قولين: 
القول الأول: أنه من ضمان البائع:
وهذا هو المذهب عند الحنفية  (24)  ، والأصح عند الشافعية  (25)  .
القول الثاني: أنه من ضمان المشتري ما لم يدلس البائع:
وهذا هو مذهب المالكية  (26)  ، وقول للشافعية  (27)  ، ومذهب الحنابلة  (28)  ، وابن حزم من الظاهرية  (29)  .
ومنشأ الخلاف في هذه المسألة هو هل وجود سبب العيب يعد عيبًا أو لا؟ 
فمن قال بأنه عيب جعله من ضمان البائع، ومن قال بأنه ليس عيبًا جعله من ضمان المشتري  (30)  . 
 
ثالثًا: الجوائح:
الجوائح في اللغة؛ جمع جائحة، وهي النازلة العظيمة التي تستأصل المال وتهلكه  (31)  .
أما عند الفقهاء؛ فهي كل ما أذهب الثمرة، أو بعضها، بغير جناية آدمي  (32)  .
وقد اختلف أهل العلم في القول بوضع الجوائح في الثمار على قولين:
القول الأول: القضاء بوضع الجوائح، وأنها من ضمان البائع.
وهذا مذهب المالكية  (33)  ، وقديم قولي الشافعي  (34)  ، ومذهب الحنابلة  (35)  .
القول الثاني: عدم القضاء بوضع الجوائح، وأنها من ضمان المشتري.
وهذا مذهب الحنفية  (36)  ، وقول الشافعي في الجديد  (37)  .
وسبب الخلاف في هذه المسألة هو تعارض الآثار فيها، وتعارض المقاييس  (38)  .
[ينظر: بدائع الصنائع (5/275)، حاشية الدسوقي (3/149)، مغني المحتاج (2/68)، مطالب أولي النهى (3/11)، المحلى (8/111)] .
5) حكى هذا الإجماع: ابن رشد في بداية المجتهد (2/186)، وابن حزم في مراتب الإجماع ص (85)، المحلى (8/379).
6) ينظر: المنتقى للباجي (4/173)، حاشية العدوي على شرح أبي الحسن للرسالة (2/160)، الشرح الصغير للدردير (2/483)
7) ينظر: الموطأ (2/612)، مواهب الجليل (4/473)، بلغة السالك (2/483
8) ينظر: الشرح الصغير للدردير (2/483).
9) ينظر: عقد الجواهر الثمينة (2/499)، بداية المجتهد (2/176).
10) ينظر: الشرح الصغير للدردير (2/483).
11) ينظر: عقد الجواهر الثمينة (2/499).
12) ينظر: بداية المجتهد (2/176)، القبس لابن العربي (2/788)، الذخيرة للقرافي (5/114)، الشرح الكبير لابن قدامة (11/391 – 392).
تنبيه: لعل الذي انفرد به مالك هو عهدة السنة، وكون هذه العهدة في ثلاثة أيام شاملة لجميع العيوب وما قد يطرأ من نقص أو فوات عين المبيع؛ لأنه نقل عن الإمام أحمد أن العيب إذا كان مما يمكن في البدن ثم يظهر، كالجنون والجذام والبرص، فإنه إذا ظهر قبل مضي ثلاثة أيام من حين الابتياع ، فإنه يثبت به الرد؛ لأنه تبين أنه كان كامنًا في المبيع.
[ينظر: المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلي (2/341 – 342)، الإنصاف (4/415)] .
13) رواه أبو داود في كتاب البيوع والإجارات– باب في عهدة الرقيق-، رقم (3506)، (3/776)، وابن ماجه في كتاب التجارات– باب عهدة الرقيق-، رقم (2244)، (2/754)، كلاهما بهذا اللفظ، ورواية أبي داود من حديث عقبة بن عامر- رضي الله عنه-، ورواية ابن ماجه من حديث سمرة بن جندب- رضي الله عنه- وقد رواه عقبة أيضًا بلفظ: "لا عهدة بعد أربع"، وهو عند أحمد عن عقبة بهذا اللفظ (4/143).
وقال ابن أبي حاتم في علل الحديث (1/395): "سئل أبي عن حديث الحسن عن سمرة، والحسن عن عقبة بن عامر عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: (عهدة الرقيق ثلاث) قال أبي: ليس هذا الحديث عندي بصحيح، وهذا عندي مرسل".
وقال البغوي في شرح السنة (8/149): "وضعّف أحمد هذا الحديث، وقال: لم يسمع الحسن من عقبة ولا يثبت في العهدة حديث".
وقال البيهقي في سننه الكبرى (5/323): "مدار هذا الحديث على الحسن عن عقبة بن عامر، وقال الطحاوي كما في مختصر اختلاف العلماء (3/99): "الحسن لم يسمع من عقبة، ولم يلقه"، ثم قال (31/100): "فقد خرج مذهب مالك من أن يكون له أصل في الكتاب، والسنة، والإجماع". وقد ضعّفه أيضًا السبكي في تكملة المجموع (12/131).
وقال ابن حزم في المحلى (8/380): "أما الحديثان فساقطان".
14) ينظر: بداية المجتهد (2/177)، الاستذكار (19/39 – 4)
15) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (3/99)، بداية المجتهد (2/177)، الاستذكار (19/40)، الشرح الكبير لابن قدامة (11/391).
16) ينظر: مختصر اختلاف العلماء (3/99).
17) ينظر: بداية المجتهد (2/177).
18) ينظر: عقد الجواهر الثمينة (2/499)، الاستذكار (19/38 – 39).
19) ينظر: الشرح الكبير لابن قدامة (11/392).
تنبيه: لمعرفة أقوال أهل العلم في حجّية عمل أهل المدينة. 
[ ينظر: البحر المحيط في أصول الفقه (4/483 – 489)، عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين للدكتور سيف ص (73 – 101)].
20) ينظر: عقد الجواهر الثمينة (2/500)، المنتقى للباجي (4/173)، الذخيرة للقرافي (5/115).
21) ينظر: عقد الجواهر الثمينة (2/500)، المنتقى للباجي (4/173)، الذخيرة للقرافي (5/115).
22) تكملة المجموع للسبكي (12/131)، الشرح الكبير لابن قدامة (11/392) .
23) ينظر: تكملة المجموع للسبكي (12/13).
24) ينظر: شرح فتح القدير (6/392)، الفتاوى الهندية ص (3/78 – 79).
25) ينظر: المنهاج للنووي ص (186)، تكملة المجموع للسبكي (12/132 – 133)، إعانة الطالبين (3/31).
26) ينظر: حاشية الدسوقي (3/128، 131)، الشرح الصغير للدردير (2/471 – 472).
27) ينظر: روضة الطالبين (3/464 – 465)، السراج الوهاج شرح المنهاج ص (186)
28) ينظر: الممتع في شرح المقنع (3/110)، كشاف القناع (3/228)
29) ينظر: المحلى (8/375).
30) ينظر: شرح فتح القدير (6/392 – 393).
31) ينظر: لسان العرب، مادة (جوح)، (2/431).
32) ينظر: الأم للشافعي (3/58)، وينظر كتاب الجوائح وأحكامها للدكتور الثنيان ص (17 – 29).
33) ينظر: الذخيرة للقرافي (212 – 215)، القوانين الفقهية ص (173).
34) ينظر: روضة الطالبين (3/562)، مغني المحتاج (2/92).
35) ينظر: شرح منتهى الإرادات (2/212-213).
36) ينظر: شرح معاني الآثار (4/36)، إعلاء السنن (14/39 – 40)
37) ينظر: روضة الطالبين (3/562)، مغني المحتاج (2/92).
38) ينظر: بداية المجتهد (2/187).