الدرس (20) القاعدة السابعة والأربعون : السياق الخاص يراد به العام

رابط المقال

القاعدة السابعة والأربعون : السياق الخاص يراد به العام إذا كان سياق الآيات في أمور خاصة وأراد الله أن يحكم عليها وذلك الحكم لا يختص بها، بل يشملها ويشمل غيرها، جاء الله بالحكم العام.
وهذه القاعدة من أسرار القرآن وبدائعه، وأكبر دليل على إحكامه وانتظامه العجيب.
وأمثلة هذه القاعدة كثيرة:
منها: لما ذكر الله المنافقين وذمهم، واستثنى منهم التائبين، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}   (1)  ، فلما أراد الله أن يحكم لهم بالأجر لم يقل: وسوف يؤتيهم أجراً عظيماً، بل قال: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} ، ليشملهم وغيرهم من كل مؤمن، ولئلا يظن اختصاص الحكم بهم.
ولما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ}   (2)  ، إلى قوله:{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً}   (3)  ،.
لم يقل: وأعتدنا لهم، للحكمة التي ذكرناها، ومثله: {قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا}   (4)  ، أي: هذه الحالة التي وقع السياق لأجلها {وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ}   (5)  ،.
القاعدة الثامنة والأربعون : متى علق الله علمه بالأمور بعد وجودها، كان المراد بذلك العلم الذي يترتب عليه الجزاء
وذلك أنه قد تقرر في الكتاب والسنة والإجماع أن الله بكل شيء عليم، وأن علمه محيط بالعالم العلوي والسفلي، والظواهر والبواطن والجليات والخفيات والماضي والمستقبل، وقد علم ما العباد عاملون قبل أن يعملوا الأعمال.
وقد ورد عدة آيات يخبر بها أنه شرع وقدر كذا؛ ليعلم كذا.
فوجه هذا: أن هذا العلم الذي يترتب عليه الجزاء. وأما علمه بأعمال العباد وما هم عاملون قبل أن يعملوا، فذلك علم لا يترتب عليه الجزاء، لأنه إنما يجازي على ما وجد من الأعمال، وعلى هذا الأصل نزل ما يرد عليك من الآيات كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْب}   (6)  ، وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}   (7)  ، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ}   (8)  ، وقوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}   (9)  ، وقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً}   (10)  ،.
وما أشبه هذه الآيات كلها على هذا الأصل.
القاعدة التاسعة والأربعون :إذا منع الله عباده المؤمنين شيئاً تتعلق به إرادتهم،
فتح لهم باباً أنفع لهم منه وأسهل وأولى.
وهذا من لطفه، قال تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}   (11)  ، فنهاهم عن تمني ما ليس بنافع، وفتح لهم أبواب الفضل والإحسان، وأمرهم أن يسألوه بلسان الحال.
ولما سأل موسى عليه السلام ربَّه الرؤية حين سمع كلامه، ومنعه منها، وبلسان المقال سلّاه بما أعطاه من الخير العظيم، فقال: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}   (12)  ، وقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}   (13)  ، وقوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ}   (14)  ، وفي هذا المعنى آيات كثيرة.
القاعدة الخمسون : آيات الرسول: هي التي يبديها الباري ويبتديها
وأما ما أبداه المكذبون له واقترحوه، فليست آيات. وإنما هي تعنتات وتعجيزات. وبهذا يعرف الفرق بينها وبين الآيات: وهي البراهين والأدلة على صدق الرسول وغيره من الرسل، وعلى صدق كل خبر أخبر الله به، وأنها الأدلة والبراهين التي يلزم من فهمها على وجهها صدق ما دلت عليه ويقينه.
وبهذا المعنى الحديث: ( ما أرسل الله من رسول إلا أعطاه من الآيات ما على مثله آمن البشر ) ، وأما ما آتى الله محمداً صلى الله عليه وسلم من الآيات فهي لا تحد ولا تعد من كثرتها وقوتها ووضوحها ـ ولله الحمد ـ فلم يبق لأحد من الناس بعدها عذر.
فعلم بذلك أن اقتراح المكذبين لآيات يعينونها ليست من هذا القبيل، وإنما مقصودهم بهذا أنهم وطنوا أنفسهم على دينهم الباطل وعدم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما دعاهم إلى الإيمان وأراهم شواهد الآيات أرادوا أن يبرروا ما هم عليه عند الأغمار والسفهاء، بقولهم: ائتنا بالآية الفلانية والآية الفلانية إن كنت صادقاً، وإن لم تأت بذلك فإننا لا نصدقك، فهذه طريقة لا يرتضيها أدنى منصف، ولهذا يخبر تعالى أنه لو أجابهم إلى ما طالبوا لم يؤمنوا لأنهم وطنوا أنفسهم على الرضا بدينهم بعدما عرفوا الحق ورفضوه.
وأيضاً فهذا من جهلهم في الحال والمآل.
أما الحال: فإن هذه الآيات التي يقترحونها جرت العادة أن المقترحين لها لم يكن قصدهم الحق، فإذا جاءت ولم يؤمنوا عوجلوا بالعقوبة الحاضرة.
وأما المآل: فإنهم جزموا جزماً لا تردد فيه أنها إذا جاءت آمنوا وصدقوا. وهذا قلب للحقائق، وإخبار بغير الذي في قلوبهم، فلو جاءتهم كل آية اقترحوها لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله تعالى.
وهذا النوع ذكره الله في كتابه عن المكذبين في آيات كثيرة جداً، كقولهم: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً}   (15)  ، وقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً}   (16)  ، ، إلى آخرها.
وأيضاً إن اقتراحهم هذا ينادي صريحاً بأنهم ينسبون إلى الله العجز والعبث، إذ أنه أرسل رسولاً لم يؤيده بالآيات الكافية في الدلالة على صدقه، ولم يعطه من البراهين والحجج ما يبطل دعاوى خصمه.
وهذا ينافي الحكمة، ولا يتفق مع الغرض الذي من أجله أرسل الله رسوله.
وهذا أعظم كفراً وإجراماً وأشد من شركهم وفسوقهم، وما كان يتولى كبره منهم إلا السادة الرؤساء الذين تبين لهم صدق الرسول بدون أي خفاء، ولكنهم يحاولون بذلك صرف العامة والدهماء عن الاستماع إليه والإصغاء إلى قوله، ولذلك يدمغهم الله بمَيّسَم الخزي عقب كل تحدٍ واقتراحٍ لآية، بعد أن ينزه نفسه سبحانه عما ينتقصونه به.
ففي سورة الإسراء يقول عقب سرد ما اقترحوا من آيات: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي}  (17)  ، ثم يقول: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً}   (18)  ،.
وأيضاً إذا تدبرت الاقتراحات التي عينوها لم تجدها في الحقيقة من جنس البراهين، وإنما هي ـ لو فرض الإتيان بها ـ شبيهة بآيات الاضطرار التي لا ينفع الإيمان معها، ويصير شهادة، وإنما الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب فكما أن الله المنفرد بالحكم بين العباد في أديانهم، وحقوقهم وأنه لا حكم إلا حكمه، وأنه من قال ينبغي أو يجب أن يكون الحكم كذا وكذا، فهو متجرئ على الله، متوثب على حرمات الله وأحكامه، فكذلك براهينُ أحكامه لا يتولاها إلا هو، فمن اقترح شيئاً عنده فقد ادعى مشاركة الرب في حكمه، ومنازعته في الطرق التي يهدي ويرشد بها عباده: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ}   (19)  .
ويقول في سورة العنكبوت: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ * وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ، +++ العنكبوت: 47-52
19) الأنعام: من الآية93