فصل :وقد دخل في ذلك الإيمان.

رابط المقال

"فصل:وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب من خلقه مجيب؛ كما جمع بين ذلك في قوله: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب}  (1)  ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»  (2)  ، وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته؛ فإنه –سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو علي في دنوه، قريب في علوه".

هذا الفصل فيه إثبات قرب الله تعالى من بعض عباده، وقد ذكر لفظ القرب المضاف إلى الله تعالى في الكتاب والسنة «تارة بصيغة المفرد؛ كقوله: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب}  (3)  ، وفي الحديث:  (4)  إلى قوله:  (5)   (6)  ، وتارة بصيغة الجمع؛ كقوله: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}  (7)  »  (8)  . و «هذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله، واستواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث. والنقل عنهم بذلك متواتر»  (9)  .

والقرب الذي وصف الله به نفسه خاص لا عام؛ فإنه «ليس في القرآن وصف الرب تعالى بالقرب من كل شيء أصلا، بل قربه الذي في القرآن خاص لا عام؛ كقوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}  (10)  ، فهو سبحانه قريب ممن دعاه.

وكذلك ما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فكانوا يرفعون أصواتهم بالتكبير، فقال: (أيها الناس، اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)  (11)  ، فقال: إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم، لم يقل: إنه قريب إلى كل موجود، وكذلك قول صالح عليه السلام: {فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب}  (12)  هو كقول شعيب: {واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود}  (13)  ، ومعلوم أن قوله: {قريب مجيب}  (14)  مقرون بالتوبة والاستغفار، أراد به: قريب مجيب لاستغفار المستغفرين التائبين إليه، كما أنه رحيم ودود بهم، وقد قرن القريب بالمجيب، ومعلوم أنه لا يقال: إنه مجيب لكل موجود، وإنما الإجابة لمن سأله ودعاه، فكذلك قربه سبحانه وتعالى»  (15)  «خاص لمن يقرب منه، كالداعي والعابد، وكقربه عشية عرفة ودنوه إلى السماء الدنيا لأجل الحجاج»  (16)  .

فلا يفسر قرب الله في مثل قوله: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} بأنه «قريب بعلمه وقدرته؛ فإنه عالم بكل شيء قادر على كل شيء، وهم لم يشكوا في ذلك، ولم يسألوا عنه، وإنما سألوا عن قربه إلى من يدعوه ويناجيه»  (17)  . فالمعنى المتفق عليه في القرب المضاف إلى الله هو قرب قلب الداعي والساجد من ربه, أما القرب الذي هو فعل الرب جل وعلا فلا يمنعه سلف الأمة  (18)  .

وأما «قوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد}  (19)  ، وقوله تعالى: {ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون}  (20)  ، فإن «سياق الآيتين يدل على أن المراد الملائكة؛ فإنه قال: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد * إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}  (21)  فقيد القرب بهذا الزمان، وهو زمان تلقي المتلقيين: قعيد عن اليمين، وقعيد عن الشمال، وهما الملكان الحافظان اللذان يكتبان كما قال: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}  (22)  . ومعلوم أنه لو كان المراد قرب ذات الرب لم يختص ذلك بهذه الحال، ولم يكن لذكر القعيدين الرقيب والعتيد معنى مناسب. وكذلك قوله في الآية الأخرى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون * فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون}  (23)  فلو أراد قرب ذاته لم يخص ذلك بهذه الحال، ولا قال: {ولكن لا تبصرون}، فإن هذا إنما يقال إذا كان هناك من يجوز أن يبصر في بعض الأحوال، ولكن نحن لا نبصره، والرب تعالى لا يراه في هذه الحال لا الملائكة ولا البشر.

وأيضا فإنه قال: {ونحن أقرب إليه منكم}  (24)  ، فأخبر عمن هو أقرب إلى المحتضر من الناس الذين عنده في هذه الحال، وذات الرب سبحانه وتعالى إذا قيل: هي في مكان، أو قيل: قريبة من كل موجود، لا يختص بهذا الزمان، والمكان، والأحوال، ولا يكون أقرب إلى شيء من شيء»  (25)  .

وثبوت هذه الصفة للرب جل جلاله لا ينافي علوه وفوقيته، فالرب «تعالى لا يكون شيء أعلى منه قط، بل هو العلي الأعلى، ولا يزال هو العلي الأعلى، مع أنه يقرب إلى عباده، ويدنو منهم، وينزل حيث شاء، وياتي كما شاء، وهو في ذلك العلي الأعلى الكبير المتعالي، علي في دنوه، قريب في علوه، فهذا وإن لم يتصف به غيره، فلعجز المخلوق أن يجمع بين هذا وهذا، كما يعجز أن يكون هو الأول والآخر، والظاهر والباطن»  (26)  . فقرب الله تعالى قرب حقيقي، والرب تعالى فوق سماواته، والعبد في الأرض، لا يلزم منه قرب مماسة ولا مسافة حسية  (27)  .