المقدم:بسم الله الرحمن الرحيم مستمعينا الكرام في كل مكان، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نحييكم تحية طيبة عبر أثير إذاعة "نداء الإسلام" منالمملكة العربية السعودية، نحييكم في بداية هذه الحلقة لبرنامج"الدين والحياة"، والتي نستمر معكم فيها على مدى ساعة كاملة بمشيئة الله تعالى.
في بداية هذه الحلقة أنقل لكم تحايا الزملاء، من الإخراج مصطفي الصحفي وخالد الزهراني، ومن استديو الهواء في "نداء الإسلام" الزميل مصطفي الصحفي، وتقبلوا تحياتي محدثكم وائل حمدان الصبحي.
مستمعينا الكرام! باسمكم جميعًا أرحِّب بضيف حلقات برنامج "الدين والحياة" فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم.
فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلا وسهلا بك معنا في بداية هذه الحلقة، وكل عام وأنتم بخير، وتقبل الله منا ومنك صالح القول والعمل.
الشيخ:آمين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، مرحبا أخي وائل حياك الله وحيا الله الإخوة والأخوات، وأسأل الله تعالى لي ولكم القبول والسداد في القول والعمل وصلاح الحال والمآل.
المقدم: اللهم آمين، فضيلة الشيخ! حديثنا في هذه الحلقة -بمشيئة الله تعالى- حول قبول الأعمال تحت عنوان "ربنا تقبل منا" بعد خروج الإنسان المسلم من موسم الطاعة وموسم القربى في شهر رمضان المبارك وكل مواسم الخير التي نمر بها، يتوجه اهتمامُ المسلم إلى قبول هذه الأعمال الصالحة من هدي ربنا الكريم جل في علاه.
بداية هذه الحلقة نحن نتحدث عن هذا الموضوع فضيلة الشيخ ما أهمية العناية بمثل هذا الأمر، أهمية العناية بقبول العمل الصالح للإنسان المسلم؟
الشيخ: الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.
فأهنئ نفسي وإخواني وجميع المستمعين والمستمعات بما أتم الله تعالى علينا من النعمة بإكمال شهر رمضان وبلوغ عيد الفطر، الذي أسأل الله تعالى أن يجعله حافلًا بالعطاء والهبات والمِنَن المتواليات من ربٍّ كريم، يعطي على القليل الكثير، فله الحمد والشكر، وأسأل الله تعالى -وتضرعوا إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا- أن يجعلني وإياكم من المقبولين الفائزين، وأن يوفِّقنا فيما بقي من أيامنا، وأن يصلح لنا المعاش والميعاد.
ما يتعلق بالعناية بالقبول وأهمية منزلة القبول في منزلة إتمام القول في العمل.
الحقيقة أن العامل بطاعة الله –عز وجل-له همَّان:
همٌّ قبل العمل بوجوده وتيسره وحصوله على الوجه الذي أمره تعالى به.
وهمٌّ بعد العمل في أن يكون ذلك العمل محلًّا بإذن الله تعالى لقبوله، فإن الله تعالى بين في مُحكَم كتابه ورسوله –صلى الله عليه وسلم-في سنته أن العمل منه ما يكون مقبولًا، ومنه ما يكون مردودًا، والخوف كل الخوف أن يجتهد الإنسان في عمل ثم يرد عليه.
ولذلك قال النبيُّ –صلى الله عليه وسلم-: «من عمِلَ عملًا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»[صحيح مسلم:ح1718/18] أي غير مقبول، وعناية المؤمن بأعماله هي سنةٌ جرى عليها سادات الدنيا وأئمتهم من النبيين والمرسلين، ومن بعدهم ممن سلك سبيلهم من الصديقين والشهداء والصالحين، نسأل الله أن يسلك بنا سبيلَهم، وأن يُلهِمَنا صراطهم، فإن خليل الرحمن وهو قد تبوَّأ منزلة سامية ومكانة عُليا حيث أن الله تعالى جعله خليلًا له، فبلغ هذه المنزلة من المحبة والمكانة عند رب العالمين ما يظن معه عظيمَ قبول الله تعالى له، وما يكون من صالح أعماله.
ولما كلفه الله تعالى ببناء البيت ورفعِ قواعده هو وابنه إسماعيل -عليهما الصلاة والسلام- امتثلا أمر الله تعالى فيما أمره به من بناء البيت ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[البقرة: 127]، فذكر الله تعالى في هذه الآية أمرين كلاهما من شأن إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- في امتثال ما أمرهم الله تعالى به من بناء هذا البيت المطهر ورفعه، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾[البقرة: 127]، كما أمرهم الله تعالى به، ولكن هذا الرفع لم يكن مجرَّد بناءٍ خالٍ عن عمل قلبي، فكان امتثالًا لأمر الله، ولزومًا لما أمر به جل في علاه، وطاعةً له –سبحانه وبحمده- في الجوارح بالعمل برفع قواعد البيت، لكن القلب على وَجَل، واللسان لاهِج بذلك الذي في القلب من خوف عدم القبول، حيث سأل الله –جل وعلا-القبول ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾[البقرة: 127] فكان هذا مصاحبًا عملًا جليلًا عظيمًا وهو بناء هذا البيت العظيم الذي خصه الله تعالى بما خصه به من المزايا، وهو من أجلِّ الأعمال التي أمر الله تعالى بها إبراهيم بعد توحيده، ومع ذلك لم يكن مستندًا إلى جهده، وإلى عمله، وإلى امتثاله لأمر ربه الظاهر، بل كان مفتقرًا إلى الله تعالى أن يقع ذلك موقع القبول، فكان يسأل الله –جل وعلا-﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾[البقرة: 127]، وتوسل إليه بأسمائه وصفاته ﴿إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[البقرة: 127]، ربنا تقبل منا أي تقبل منا ما امتثلنا من أمرك ما كان ببناء البيت، ورفع قواعده، وبنائه على الوجه الذي أمَرْتَنا به.
مع هذا لم يكن معتمدًا على عمله ولا زاهيًا بما كان منه، بل كان ضارعًا إلى ربه أن يتقبله، فإذا كان إبراهيم -عليه السلام- على هذه الحال، وعلى هذه المنزلة من الضراعة إلى الله تعالى بقبول العمل مع تمام إخلاصه، وكمال انقياده لأمر ربه، فينبغي لكل عامل مهما كان هذا العمل صغيرًا أو كبيرًا أن يكون على هذه الحال من الضراعة إلى الله –عز وجل-بقبول عمله، فإنما ما لا يقبله الله تعالى لا يكون مباركًا ولا يكون مرضيًّا، ولا يكون مؤتيًا للثمرة والنتيجة المطلوبة.
وعلى هذا جرى الصالحون، فامرأة عمران لما نذرت أن يكون ما في بطنها خالصًا لله، محرمًا له في خدمة دينه وأمره -جل في علاه- قالت: ﴿قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[آل عمران: 35]، وقد كان النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-يسأل اللهَ القبول، فمن دعائه –صلى الله عليه وسلم-وهو سيد الورى –صلى الله عليه وسلم-أنه كان يقول:«ربِّ تقبَّل تَوبَتِي»[سنن الترمذي:ح3551، وقال:هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ] هذا من دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-.
فكل هذه المعرفة بما كان عليه سادات الدنيا توجب الاهتمامَ بالقبول والعناية به، وعدم الركون إلى العمل إذا علمت أن الله تعالى قد يقبلك وقد لا يقبلك كان هذا من أسباب عنايتك واهتمامك بالقبول.
علي بن أبي طالب جاء عنه أنه كان يقول: "كونوا لقبول العمل أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمل؛ ألم تسمعوا إلى قوله –عز وجل-: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[المائدة: 27]. [تفسير ابن رجب:2/28]
وجاء عن عبد العزيز بن رواد يحكي عن السلف الصالح يقول: "أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهم أيقبل منهم أم لا؟[لطائف المعارف:1/209]
لعلك غضبان وقلبي غافل سلام على الدارين إن كنت راضيًا.
فلذلك ينبغي للإنسان أن يكون معتنيًا بهذا الأمر غايةَ الاعتناء، يعني الهمُّ الأول هو أن تمتثل أمر ربك، فلا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
إذا وقع هذا وحصل أن الله يسَّر لك العمل الصالح، وكان عملك على نحو ما أمرك ربُّك فاجتهد في أن يكون هذا العمل مقبولًا، لتهتم بأن يكون عملك مقبولًا، فإن قبول عمل واحد من أعمال العبد يبلِّغه رضا الرب.
ابن مسعود يقول: "لأن أكون أعلمُ أن الله تقبَّل منِّي عملًا أحب من أن يكون لي ملء الأرض ذهبًا"[أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق:33/167]؛ لأن القبول مفتاح العطاء، القبول مفتاح الهبات، القبول هو طريق السعادات الذي إذا فُتِح للعبد نال من ربه –جل وعلا-الخيرَ الكثير والفضل العظيم.
ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- طَرَقه سائل يسأله شيئًا من الإعانة، فقال لابن له:" أعطه دينارًا" الدينار قطعة من الذهب تزن أربعة جرامات وربع تقريبًا، أعطاه الدينار، رجع الابن إلى أبيه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه، فقال له: "تقبل الله منك يا أبتاه" فقال عبد الله -رضي الله تعالى عنه-: "لو علمت أن الله تقبل مني سجدة واحدة، أو صدقة درهم واحد لم يكن غائب أحبَّ إلى من الموت"، يعني يتمنى أن يقبل الله منه عملًا، ويختم له به، يختم له بقبول ذلك العمل.
قال: أتدري ممن يتقبل الله تعالى؟ إنما يتقبل الله من المتقين[ تاريخ دمشق لابن عساكر:ح31/146].
فإذا قَبِل عمله ومات على ذلك الحال كان من المتقين؛ لأن الله أخبر أنه لا يقبل إلا من عباده المتقين، فكل هذه الأخبار وهذه التنبيهات والإيماءات التي جاءت في كلام الله وكلام رسوله وما كان عليه سلف الأمة الصالح يوجب على الإنسان أن يكون على غاية الاعتناء والاهتمام بأن يفوز بقبول الله –عز وجل-، وأن يكون عمله محلًّا لرضا ربه جل في علاه، فإنه من لم يقبله الله كان كما قال الله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾[الفرقان: 23]، لا يدرك منه شيئًا ولا يحصِّل منه شيئا، كما قال الله تعالى فيما مثَّل من أعمال الكافرين، قال: ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾[النور: 39-40] فليس في العمل نور، ولا له ثمرة تُحصَّل، فنفى الله عنه النور الذي يضيء، ونفى عنه الإدراك بشيء يمكن أن ينتفع بها الإنسان.
فجدير بنا أيها الإخوة والأخوات في كل الأعمال ليس فقط في صوم، أو صلاة، أو أركان الإسلام، كل عمل احرص أن يكون مقبولًا، هذا ابن عمر في دينار (يعني الدينار يأتي قريبًا من مائتي ريال تقريبًا بالعملة المعاصرة أو نحو ذلك) مع هذا كان يقول: لو قبل الله مني درهمًا، والدرهم جزء من الدينار قريبًا من عشرين ريال تقريبًا أو نحو ذلك، لو علمت أن الله قبل مني درهمًا، أو سجدة ما كان غائب أحبَّ إلي من الموت.
فلنكن على وعي وحرص أن يكون عملنا مقبولًا، ومن قَبِله الله فقد فتح له بابَ خير عظيم، وأدرك أن يكون من أولياء الله المتقين الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾[المؤمنون: 60]، فهم يعملون عملًا صالحًا، ويجتهدون فيما يرضي الله –عز وجل-، ومع هذا قلوبهم مليئة عامرة بخوف ألا يقبل منهم ذلك، أو أن يردَّ عليهم ما كان من صالح أعمالهم.
فنسأل الله أن يصلح لنا العمل، وأن يكتب لنا وإياكم القبولَ لصالِحه، وأن يعيننا على ما فيه الخير.
المقدم: اللهم آمين، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ، كتب الله أجرك، اسمح لي أن نذهب إلى فاصل بعده -بمشيئة الله تعالى- نستكمل حديثنا هذا حول أهمية قبول الأعمال من الله –تبارك وتعالى-، وسيكون حديثنا في الجزء الثاني من هذه الحلقة عن أسباب القبول التي بها يقبل الله –عز وجل-الأعمال من الإنسان المسلم.
سنذهب إلى فاصل بعده نكمل الحديث.
مستمعينا الكرام! فاصل قصير بعده نكمل الحديث، ابقوا معنا.
حياكم الله مستمعينا الكرام نعاود الترحيب بكم في هذه الحلقة المباشرة لبرنامج الدين والحياة عبر أثير إذاعة نداء الإسلام، نرحب بضيفنا الكريم فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، أهلا وسهلا فضيلة الشيخ مجددًا حياك الله.
الشيخ: مرحبا، أهلا وسهلا بك وبالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.
المقدم:أهلا وسهلا فضيلة الشيخ حديثنا في هذه الحلقة عن قبول العمل الصالح، وتحت عنوان "ربنا تقبل منا".
فضيلة الشيخ! تحدثنا في الجزء الأول عن أهمية عناية الإنسان بقبول العمل من الله –تبارك وتعالى-، نريد أن نتحدث عن أسباب القبول، ما هي الأسباب المعِينَة والمساعدة على قبول العمل من الله –عز وجل-؟
الشيخ: هناك عدة أسباب تؤهِّل للقبول، ولما نقول: سبب: نحن نتكلم عن أمور ينبغي للعامل أن يأخذها في الحسبان، وأن تكون منه على حضور ذهن، حتى يكون عمله مقبولًا، وهي منها ما يكون قبل العمل، وفي أثنائه، ومنها ما يكون بعد العمل.
فالأسباب متنوِّعة أما الذي قبل العمل فيمكن أن نجمله في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن يكون العمل صادرًا عن إيمان، قال الله تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾[التوبة: 54]، فهؤلاء عملوا عملًا وهو إخراج شيء من أموالهم في باب من أبواب البر، الله تعالى أخبر أن هذا العمل لم يكن مقبولًا، وبيَّن سبب ذلك فقال: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾[التوبة: 54]، فالسبب الأول لقبول الأعمال، وهذا قبل أن يكون العمل ناجزًا حاضرًا هو الإيمانن ولذا قال الله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ﴾[الفرقان: 23]، العمل: الكفر بالله ورسوله، قال: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾[الفرقان: 23]، وفي الصحيح من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: "يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟"عائشة تسأل النبي –صلى الله عليه وسلم-عن هذا الرجل الذي حصل منه وعرف منه هذا العمل الصالح" قَالَ:«لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ»[صحيح مسلم:ح365]، لم يكن عنده إيمان باليوم الآخر.
فلما كان قلبه خاليًا من الإيمان باليوم الآخر كان العمل الذي قام به من أوجُه البرِّ في غير محلِّ القبول؛ لأنه لا يرجو له عاقبة في الآخرة، فلا يعطى شيئًا مما يكون في الآخرة من النعيم جزاء ذلك العمل، ولكن الله تعالى لا يضيع عمل عامل حتى غير المؤمن، يجزى به في الدنيا، لكن في الآخرة الكلام على القبول الذي يحصل به الفوز في الآخرة لا يكون إلا بالإيمان.
السبب الثاني من أسباب قبول العمل، طبعا سبب الإيمان يكون قبل العمل، ويكون أثناء العمل، ويكون بعد العمل، فالإيمان سبب، لكل هذه المنازل يكون الباعث على العمل: الإيمان يكون أثناء العمل متصلًا بالإيمان: أن يبقى على الإيمان بعد العمل؛ لأنه ﴿وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾[البقرة: 217]، فيحبط العمل بترك الإيمان، هذا هو السبب الأول: وهو الإيمان.
السبب الثاني: الإخلاص.
المقدم: لهذا فضيلة الشيخ لا ينفع غيرَ المسلم عمله في هذه الحياة الدنيا، وإن كان عملًا صالحًا، فربنا الكريم عادل –سبحانه وتعالى-، لذلك يجازيه في هذه الحياة الدنيا على عمله الطيب الخير، هذا في الحياة الدنيا فقط.
الشيخ:يُعجَّل له الجزاء في الدنيا، من النِّعَم في نفسه وبصره وصحته وولده وسائر ما يكون من نعم الدنيا، وأما الآخرة فهي لأولياء الله وعباده المتقين ليست لغيرهم«أَعدَدتُ لعباديَ الصالحين ما لا عَينٌ رَأَتْ، ولا أذن سَمِعَت، ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَرٍ».[صحيح البخاري:ح3244]
إذًا هذا هو السبب الأول، وهو الإيمان.
السبب الثاني: الإخلاص للعمل، والإخلاص في العمل هو أن يكون عمل الإنسان لا يبتغي به ثوابًا ولا أجرًا إلا من الله –عز وجل-، ولذلك جاء رجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-فقال:" يا رسول الله! الرجل يجاهد في سبيل الله يبتغي الأجر والذكر"، يعني يطلب أجرًا من الله بعد العمل، وفي قلبه الرغبة في أن يُذكر بخير عند الناس، ويثنى عليه، يقال: شجاع وقوي، وما إلى ذلك، ما له أي شيء له من هذا العمل؟ قال: «لا شيء له» بمعنى أنه ليس محل للقبول «لا شَيءَ له»، كرر السؤال مرة أخرى، أجاب النبي –صلى الله عليه وسلم-نفس الجواب «لا شيء له»، كرر السؤال ثالثة، فقال: يا رسول الله! الرجل يقاتل في سبيل الله يبتغي الأجر والذكر، ما له؟ قال: «لا شيء له؛ إنما يَقبل اللهُ من العمل ما كان خالصًا، وابتُغي به وجهُه».[سنن النسائي الصغرى:ح3140، ]
هذا شرط في قبول أيِّ عمل: أن يكون المطلوب هو رضا الله، أن يكون المقصود بالعمل هو الله -جل في علاه- لا يقصد بذلك سواه وما معنى الإخلاص؟
أن تعمل العمل ترجو من الله تعالى الأجر، العمل لله ليس لغيره، ليس في قلبك نظر إلى سواه، ولا طلب من غيرهن ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم-في الحديث الإلهي، الحديث الذي يرويه عن ربه قال الله –تبارك وتعالى-: « أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ »[صحيح مسلم :ح2985/46]، يعني لا يقبله الله تعالى ويجعل عمله مردودًا عليه، فالله طيب لا يقبل إلا طيبًا.
والطيب لا يكون إلا بالإخلاص، يعني هذا هو الشرط الثاني، وهو أن يكون خالصًا لله، فيسلم من الرياء، يسلم من طلب الدنيا، يسلم من صرف العبادة لغير الله –عز وجل-، فالذي ينافي إخلاص الشرك بأن يصرف العبادة لغير الله، أو أن يقصد غيرَ الله بمدح، أو يدفع عنه ذمهم، أن يكون عمله منقوصًا من جهة الرغبة في تحصيل أمر دنيوي، فيعمل العمل الصالح لأجل أن يتكسب بهذا العمل الصالح مكاسب دنيوية، هذه الأمور الثلاثة: الشرك، الرياء -وهو جزء من الشرك لكنها درجات-، طلب الدنيا بالعمل الصالح كلها تتنافى مع الإخلاص، كلها تُخِلُّ بالإخلاص.
العمل الثالث الذي يكون سببًا من أسباب قبول العمل: أن يكون العمل وفق هدي النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يكون العمل على نحو ما كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم-، فيكون العمل كما كان يعمل، كما قال –صلى الله عليه وسلم-: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»[صحيح البخاري:ح631،] وكما قال –صلى الله عليه وسلم-: «خذوا عني مناسككم»[صحيح مسلم:ح1970، ولفظه:«لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ»]وكما قال –صلى الله عليه وسلم-في القاعدة العامة لكل عمل «من عَمِل عملا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ»[سبق].
معناه أن كل عمل يخرج عن هديه، وعما كان عليه وصف عمله فإنه مردود على صاحبه، أي لا يقبله الله –عز وجل-، فهذا ثالث الشروط التي تكون من أسباب قبول العمل، وهو أثناء العمل.
أما السببان الأولان: الإيمان والإخلاص، فهما قبل العمل، وأيضًا أثناء العمل وبعد العمل.
أما الإخلاص بعد العمل كيف؟ بألا يسمِّعَ بعمله، ولا يظهره للناس لطلب مدحهم، يقول: صليت، وتصدقت، ويعدِّد أعمالَه الصالحة للناس ليمدحوه، هذا اسمه تسميع، وجاء في الحديث أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ»[صحيح البخاري:ح6499، ومسلم:ح2986/47]، يعني أذاع الله عنه ما يكره، أعاذنا الله وإياكم من سوء المُنقَلَب، فيكون هذا محبطًا للعمل.
هذه ثلاثة أشياء هي مما يكون من أسباب قبول العمل، وهي قاعدة لكل عمل يكون مقبولًا، وإذا تحقق هذا كان الإيمان، وكان الإخلاص، وكان العمل موافقا لما أمر الله تعالى به ورسوله، وما كان عليه هديه –صلى الله عليه وسلم-، فإن ذلك به يتحقق التقوى، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[المائدة: 27].
ومن العلماء من يذكر التقوى سببًا من أسباب قبول العمل، لكن التقوى حقيقتها هي هذه المعاني التفصيلية، فالتقوى معنى مجمل يتحقق بالإيمان، بالإخلاص، يتحقق بموافقة هديه –صلى الله عليه وسلم-.
المقدم: لا تكون التقوى من دون هذه الأسباب الثلاثة؟
الشيخ:لا يمكن أن تتحقق بدون هذه الأسباب الثلاثة.
وأيضًا هناك أمر رابع يضاف إلى هذه الأمور الثلاثة لتحقيق التقوى، وهو أن يتجنب الأسباب المبطِلة للعمل، سواء كانت قبل، أو أثناء، أو بعد، فإن ذلك مما تتحقق به التقوى.
هناك أيضًا أسباب ذكرها بعض أهل العلم لقبول العمل، وهي مندرجة في التقوى في الجملة، فمن أسباب قبول العمل الخوف من عدم قبوله، الخوف من عدم قبول العمل هو من أسباب قبوله، سألت عائشة رسولَ الله –صلى الله عليه وسلم-فقالت: يا رسول الله: «وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهمُ الذين يشربونَ الخمرَ ويسرقونَ؟ قال: لا يا ابنةَ الصديقِ! ولكنهم الذين يصومونَ ويصلون ويتصدقونَ وهم يخافون أن لا يقبَلَ منهم، أولئك الذين يُسارعونَ في الخيراتِ»[سنن الترمذي:ح3175، وصححه الألباني في الصحيحة:ح162].
اللهم اجعلنا منهم، هذا الخوف حملهم على المسابقة إلى الخيرات، والمسارعة إليها، ومسارعتها تتضمن معنيين:
تتضمن معنى المبادرة إلى كل صالح من العمل وعدم التأخر عنه، والثاني الاستكثار من الأعمال الصالحة، فإن المسارعة تتضمن هذين المعنيين؛ استكثارًا، ومبادرة.
فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يوفَّق إلى هذه المعاني.
من أسباب قبول العمل: بر الوالدين، فإنه من أسباب قبول الطاعة، واستدل بعض أهل العلم لذلك بقول الله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأحقاف: 15]، يقول الله تعالى بعد ذكر هذه الأعمال الصالحة من بر الوالدين تضرعا إلى الله تعالى بالإعانة على القيام بحقه، والتوبة إليه جل في علاه، والثبات على الإسلام، كل هذه أعمال ذكرت في هذه الآية قال: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾[الأحقاف: 16].
إن الله لا يخلف الميعاد، فبِرُّ الوالدين مع الضراعة إلى الله تعالى، ودعاؤه، والتوبة إليه، والثبات على خصال أهل الإسلام هي من أسباب قبول العمل.
من أسباب قبول العمل أيضًا: الدعاء بالقبول، سؤال الله تعالى بالقبول، كما جاء ذلك في أول حديثنا فيما يتعلق بقول إبراهيم -عليه السلام- ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[البقرة: 127]، وقول امرأة عمران ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[آل عمران: 35]، ودعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-بالقبول، كل هذا مما يدل على أن الدعاء من أسباب قبول الأعمال.
فينبغي للإنسان إذا وفِّق إلى عمل صالح أن يجدَّ في سؤال الله –عز وجل-القبول، هذا كله من موجبات قبول العمل، ومن أسباب قبول العمل.
هناك موانع تمنع من قبول العمل، هذه الصفات كلها أو بعضها من أسباب عدم القبول، فإذا خلا عمل عن إيمان، أو خلا عمل عن إخلاص، أو خلا عمل عن متابعة النبي –صلى الله عليه وسلم-، أو خلا عمل عن التقوى فإنه مما يكون من أسباب عدم القبول.
وثمة أيضًا أسباب تجعل العمل غير مقبول، وهو أن يكون القلب عامرًا بالنفاق؛ فإن النفاق من أسباب عدم قبول العمل.
لذلك ذكر الله تعالى ذلك في قوله: ﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ﴾[التوبة: 54].
ومن أسباب عدم قبول العمل: الإعجاب به، أن يعجب الإنسان بعمله، وأن يتَّكل عليه، وأن يراه شيئًا كبيرًا في حق الله –عز وجل-، فيكون هذا من أسباب عدم قبول العمل.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يعرف أنه مهما عمل من عمل حقُّ الله أعظم، ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا مِنكُم عَمَلُهُ الجَنَّةَ قالوا: ولا أنْتَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: ولا أنا، إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ منه بفَضْلٍ ورَحْمَةٍ»[صحيح البخاري:ح5673]، فدل هذا على أن العمل مهما عظم ومهما كبر فإنه ينبغي للإنسان أن يعرف أن حق الله أجلُّ، وأن حق الله تعالى أعظم، وأن العبد مهما كان على طاعة وإحسان فإن حق الله تعالى لا يوفَّى بذلك العمل، ولهذا قال –صلى الله عليه وسلم-: «لَنْ يُدْخِلَ أحَدًا مِنكُم عَمَلُهُ الجَنَّةَ»، الإشارة أن العمل لا يكفي في بلوغ درجات الفوز والنجاة، لكنه فضل الله، ولذلك قال: «إلَّا أنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ منه بفَضْلٍ ورَحْمَةٍ».
المقدم: جميل، الله يعطيك العافية، فضيلة الشيخ! سنذهب إلى فاصل ثاني، أو أن الوقت يدركنا فضيلة الشيخ، بودي أن نتحدث عن الجزء الأخير في هذه الحلقة وهو عن علامات قبول العمل والفاصل ربما لا يدركنا الوقت كثيرًا، نريد أن نتحدث في الجزء الأخير من هذه الحلقة، فضيلة الشيخ عن علامات قبول العمل، تحدثنا في بداية هذه الحلقة عن أهمية العناية بقبول العمل، ومن ثم تحدثنا أيضًا عن الأسباب، وتحدثنا عن أسباب كثيرة لقبول العمل ما هي العلامات الظاهرة، العلامات المشاهدة التي يشعر بها أو يشاهدها الإنسان لقبول عمله من الله –تبارك وتعالى-؟ ونختم بهذا الجزء حديثنا في هذه الحلقة بمشيئة الله.
الشيخ: هو أخي الكريم قبول العمل أمر غيبيٌّ لا يمكن الجزم به، ليس لأحد أن يجزم بأن العمل متقدم إلا بوحي، ولهذا ليس ثمة جزم، هناك طمع ورجاء في أن الله تعالى يقبل عملك، أما اليقين والجزم بقبول العمل فهذا أمر لا سبيل إليه إلا من طريق الوحي.
المقدم: عفوا على المقاطعة فضيلة الشيخ! أعتقد أن يكون له علاقة بحسن الظن بالله –عز وجل-؟
الشيخ: طبعا هو من أسباب قبول العمل، حسن الظن بالله –عز وجل-من الأسباب التي يدرك بها قبول العمل، وهذه تضاف إلى ما تقدم من أسباب القبول: أن يحسن الظن بالله تعالى، والله تعالى يقول: «أنا عندَ ظنِّ عبدي بي»[صحيح البخاري:ح7405]، وإنما أحب أن أنبِّه إلى أنه عندما نتحدث عن علامات قبول العمل فنحن نذكر إشاراتٍ لقبول العمل يأنس بها الإنسان، ويقوِّي بها حسن ظنه بربه أنه يقبله جل في علاه.
وأما الجزم فإن ذلك لا علم لأحد به، إلا أن يكون بوحي وهذا ابن عمر، وهو شيخ الإسلام فقد بلغ من العلم والمعرفة ونفعه الناس بما فتح الله تعالى عليه من العلوم مبلغًا عظيمًا، ومع هذا يقول: "لو علمت أن الله قبل مني سجدة أو درهمًا ما كان غائب أحب إلي من الموت".[سبق]
وابن مسعود أيضًا يقول: "لو علمت أن الله قَبِل مني صدقة لكان أحب إلي من مليء الأرض ذهبًا"[سبق]، وهذا يدل على أنه لا سبيل إلى العلم بالقبول، إنما هو حسن الظن بالله أن يكون الإنسان من المقبولين.
ما علامات القبول التي يأنس بها الإنسان، ويستبشر بها، ويقوى حسن ظنه بالله –عز وجل-أنه من المقبولين؟
من علامات قبول العمل: أن يوفق الإنسان لصالح العمل، فالحسنة تَقُود إلى أُختها، والإحسان يزيد بالإحسان ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾[الرحمن: 60]، وقوله: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾[الرحمن: 60]، ليس فقط الإحسان بالإثابة التي هي مقابل ما كان من العمل، بل بالتوفيق إلى نظيره من العمل، يعني لو تصدق الإنسان فقد أحسن، فمن دلائل القبول أن يوفِّقه الله إلى مزيد صدقات، أو إلى مزيد عمل صالح آخر من جنس ما بذل، أو من أجناس أخرى من الأعمال الصالحة، ولهذا يقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾[الشورى: 23] وقال تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾[مريم: 76].
وقد سئل الحسن ما علامة الحج المبرور؟
قال: أن يرجع العبد زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة، يعني مشتغلًا بالعمل الصالح، هذا من علامات قبول العمل: أن يوفقك الله إلى العمل الصالح، بعد العمل الصالح الذي يسَّره الله تعالى لك يكون ذلك من علامات القبول.
استشعار أن العمل مهما عظم قليلٌ في حق الله –عز وجل-، فهذا أيضًا من علامات القبول؛ ولهذا يقول ابن القيم –رحمه الله-: "وَعَلَامَةُ قَبُولِ عَمَلِكَ عَلَامَةُ قَبُولِ الْعَمَلِ احْتِقَارُهُ وَاسْتِقْلَالُهُ، وَصِغَرُهُ فِي قَلْبِكَ. حَتَّى إِنَّ الْعَارِفَ لَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عُقَيْبَ طَاعَتِهِ"[مدارج السالكين:2/62] حتى إن العارف ليستغفر الله عقب طاعته، يستغفر الله من ماذا؟ يعني أستغفر الله أستغفر الله، نحن نسأل الله أن يعفو عنا ما نحن عليه من قصور وتقصير، فإنا لا نفي حق الله –عز وجل-، فهذا رسول الله يختم صلاته ثم يقول: «أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله».[صحيح مسلم:ح591/135]
وفي الحج قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾[البقرة: 198-199] بعد الإفاضة، بعد الوقوف بعرفه الذي هو ركن الحج الأعظم يأمر الله تعالى عباده بالاستغفار؛ لأن حقه لا يبلغ العبد إيفاءه، فمن علامات قبول العمل ألا يُعجَب الإنسان بعمله، وأن يراه قليلًا بحق ربه وأن يضرع إلى الله –عز وجل-بالتفضل بقبوله فإن ذلك مما يدل على أن العمل مقبول.
من دلائل قبول العمل: أن يجد من قلوب الناس محبة وإقبالًا عليه من غير اغترار، ومن غير سبب ومنفعة ومصلحة تكون بينك وبينه، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾[مريم: 96]، أي سيجعل لهم قبولًا ومحبة في قلوب الخلق من غير سبب منهم، لا لأجل دنيا ينالونها منهم، ولا لأجل مصلحة يحصلونها، ولا لأجل نسب ولا غير ذلك من أسباب، بل محبة لأجل ما يكون منهم من عمل صالح يقذفه الله تعالى في قلوب عباده، كما قال –صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا أحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحْبِبْهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فيُنَادِي جِبْرِيلُ في أهْلِ السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ».[صحيح البخاري:ح3209]
من علامات قبول العمل الصالح: ما يجده الإنسان من سكينة وطمأنينة وانشراح بعد العمل، فإن ذلك من دلائل القبول، قال الله تعالى: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد: 28]، وقال الله تعالى: ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[النحل: 96]، ويقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾[النحل: 97].
من علامات القبول: أن يتوسل العبد إلى ربه بعمله فيجد منه إجابة، كما جرى من أصحاب الغار الثلاثة الذين سألوا الله بأعمال صالحة واستجاب الله تعالى دعاءهم، فإنهم قالوا: "اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ "[صحيح البخاري:ح2272]، فاستجاب الله لهم، فدل ذلك على أنه كان عملًا مقبولًا، فكل هذه من العلامات التي يستبشر بها الإنسان أن يقبل الله تعالى عمله.
وفي كل الأحوال، كلما عظم رجاؤك بالله –عز وجل- أن يقبل عملك بعد إتقانك له، وبذلك المجهود في أن يكون خالصًا لله على وفق هديه، فأبشر فإن الله لن يخيب ظنك، فقد قال الله تعالى في الحديث الإلهي «أنا عند ظنِّ عبدي بي»[سبق].
والله كريم يحب التوابين، والله لطيف برٌّ رءوف رحيم، ذو إحسان وفضل وكرم وجود، لا يحيط الناس به، فقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-فيما يرويه عن ربه «وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»[صحيح البخاري:ح7405، ومسلم:ح2657/2] فهذا يدل على إقبال الله على عبده إذا أقبل عليه.
فلنحرص على الإيمان، نحرص على الإخلاص، نحرص على متابعة هدي النبي –صلى الله عليه وسلم-، لنحرص على مليء قلوبنا بالافتقار إليه –جل وعلا-، وبقية الأسباب الموجبة لقبول العمل، وأن نبشر بعطاء الله وفضله، فهو الذي يقبل التوبة عن عباده، وهو الذي يتجاوز عن الخطأ والنسيان، وهو الذي يعطي على القليل الكثير –سبحانه وبحمده-.
المقدم: نسأل الله –عز وجل-أن يجعلنا من المقبولين، وأن يتقبل منا صالح القول والعمل، وأن يهدينا لصالح الأقوال والأفعال، شكرًا جزيلًا فضيلة الشيخ شكر الله لك وكتب الله أجرك على ما أجدت به وأفدت في هذه الحلقة.
الشيخ: وأنا أشكركم، وأسأل الله تعالى لي ولكم التيسير في الصالحات والقبول في العمل، وأن يحسن لنا الخاتمة، وأن يملأ أيامنا بما يحب ويرضى، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وأسأله –جل وعلا-أن يوفق ولاة أمرنا إلى ما فيه الخير والرشد، وأن يسددهم، وأن يكتب لهم العزة والتمكين: خادم الحرمين الشريفين وولي عهده، وأن ينصر جنودنا المرابطين، وأن يدفع عن بلادنا وسائر المسلمين كل سوء وشر، وصلى الله وسلم على سيد البشر نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.