×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / برامج المصلح / الدين والحياة / الحلقة (236) بر الوالدين / ففيهما فجاهد

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المقدم:بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات أيها المستمعون الكرام أينما كنتم! نحيكم تحية طيبة نحيكم بتحية الإسلام فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحيكم من إذاعتكم إذاعة "نداء الإسلام" من المملكة العربية السعودية، ويسرنا أيها الأحبة أن نقدم إلى حضارتكم حلقة هذا الأسبوع من برنامجكم الأسبوعي "الدين والحياة".

أيها الأحبة! يسرنا أن نرحب في مطلع حقلتنا بضيف برنامجنا الدائم سعادة الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، الذي التحق بنا في هذه اللحظات.

 شيخ خالد! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بك.

الشيخ:وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياك الله أخي عبد الله، ومرحبا بك وبالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.

المقدم: أهلا ومرحبا بك دكتور خالد معنا في هذه الحلقة من هذا البرنامج، ويسرني أيها الأحبة أن أكون معكم أنا عبد الله سعد بن عزة، ويساندني في تنفيذ وإخراج هذه الحلقة الزميل لؤي الحلبي.

أهلا ومرحبا بكم أيها الإخوة والأخوات، الوالدان هما زهرة الحياة الدنيا، وفي الحديث عنهما قد تسمو روح وترتقي في أعلى درجاتها، نعمة الوالدين ورحمتهما تفضي إلى الجنان، وعظيم قدرهما يوجب الإحسان على الإنسان لما يقدمانه من حب بلا مقابل، وعطف لا حد له، وتفان في سبيل الحياة الكريمة لأبنائهما.

الناس أيها الأحبة تكثر المصالح عندهم، وتزداد الأطماع والغايات، وتتبدل الأحوال، وتزيد المحبة وتنقص، إلا الوالدان يبقيان على ما هما عليه من الحرص العظيم على أبنائهم، وعلى الدعم والسند الذي لا حدود له، لذلك المعنى السامي الكريم ولأن الإسلام دين الأخلاق الذي يحرص على كون المسلم نموذجا كاملا للالتقاء بالمجتمع يحرص هذا الدين على العناية بالوالدين.

شيخ خالد! حدثنا -حفظك الله- عن مفهوم بر الوالدين في الإسلام وعن منزلته أيضا منزلة بر الوالدين التي اعتنى بها الإسلام والسنة النبوية المطهرة أيضا تفضل؟

الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

من الأعمال الصالحة الجليلة التي أنزلها الله تعالى منزلة رفيعة في حقوق الخلق، فإن الله –عز وجل-أمر بأداء حقه، وذلك بتوحيده وحده لا شريك له ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه﴾+++[الإسراء: 23]---، فالحق له –جل وعلا-مقدم على كل حق من حقوق أصحاب الحقوق، فهو الخالق البارئ المصور الذي لا ينفك الناس عن إحسانه ونعمه، فحقه جليل جل في علاه.

فأمر بحقه، ثم بعد ذلك ذكر حق أعظم الخلق من أصحاب الحقوق الذين يشترك فيهم الناس جميعا بعد حق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فحق الرسل ينضاف إلى حقه، وهما الوالدان فقال تعالى: ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا﴾+++[الإسراء: 23]---، فحق الوالدين هو في ذروة الحقوق بين الناس، فإن بين الناس حقوقا متنوعة لأسباب متعددة وأحوال مختلفة، أعلاها حقا هو حق الوالدين، فإن حقهما رفيع وعال، وقد جعله الله تعالى في أول الحقوق المأمور بأدائها بعد حقه -جل في علاه-،  قال: ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا﴾+++[الإسراء: 23]---، قال تعالى: ﴿أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير﴾+++[لقمان: 14]---.

والنصوص في القرآن متعددة في عظيم حق الوالدين، قال: ﴿وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا﴾+++[لقمان: 15]---، وقال تعالى: ﴿ووصينا الإنسان بوالديه حسنا﴾+++[العنكبوت: 8]---، وبهذا يتبين حفاوة النصوص القرآنية بحق الوالدين تذكيرا بحقهما، والوصية بهما، وبيان منزلتهما في الحقوق.

 وأما السنة النبوية فإن النبي –صلى الله عليه وسلم-بين عظيم منزلة بر الوالدين، وأنه من أرفع الأعمال الصالحة، وأحبها إلى الله –عز وجل-بعد حقوقه –جل وعلا-، ففي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها»، وهذا في الأعمال البدنية المتعلقة بحقه «الصلاة على وقتها» يعني في أول وقتها، والمقصود بالصلوات: الصلوات المفروضة التي قال فيها –جل وعلا-: ﴿إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا﴾+++[النساء: 103]---، أي: موقتة، ثم قال ابن مسعود: قلت: «ثم أي؟» يعني: أي العمل بعد ذلك أفضل بعد الصلاة على وقتها؟ قال: «ثم بر الوالدين»+++[صحيح البخاري:ح527، ومسلم:85/139]---، فجعل في الحقوق من حيث مراتب الأحب إلى الله –عز وجل-بر الوالدين بعد الصلاة على وقتها، والصلاة هي أفضل الأعمال وأعلاها منزلة عند رب العالمين فيما يتعلق بأعمال الجوارح، بعد توحيده وأعمال القلوب المتعلقة بالإخلاص له، وتعظيمه جل في علاه ومحبته.         ويبين أيضا عظيم المنزلة ورفيع المكانة فيما يتصل بحق الوالدين أن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-جاءه رجل فقال: يا رسول الله «إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: «ويحك، أحية أمك؟» قلت: نعم، قال: «ارجع فبرها» ثم أتيته من الجانب الآخر، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: «ويحك، أحية أمك؟» قلت: نعم، يا رسول الله، قال: «فارجع إليها فبرها» ثم أتيته من أمامه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: «ويحك، أحية أمك؟» قلت: نعم، يا رسول الله، قال: «ويحك، الزم رجلها، فثم الجنة» +++[سنن ابن ماجه:ح2781، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح2484]---ويحك كلمة تقال للترحم، مقابل ويلك، يعني ويلك في الوعيد، وويحك في التلطف وفي الترحم على من وجهت إليه.

 هكذا قال –صلى الله عليه وسلم-في بيان منزلة بر والدته، مع عظيم ما عرض عليه من العمل وهو الجهاد في سبيل الله، لكن النبي –صلى الله عليه وسلم-وجهه إلى ما هو أفضل وأعلى منزلة وأرفع مكانة وهو بره بوالدته.

وفي الصحيحين أيضا أن رجلا جاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-فقال يا رسول الله: «أن رجلا جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد معه، فقال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد»+++[صحيح البخاري:ح3004، وصحيح مسلم:ح2549/5]---، فأوصاه –صلى الله عليه وسلم-أن يوجه هذه الطاقة التي أراد بذلها في قتال أعداء الله –عز وجل-والذب عن دينه والنصرة لنبيه –صلى الله عليه وسلم-، أمره أن يوجه هذه الطاقة سواء كانت طاقة بدنية أو مالية، فالجهاد يحتاج إلى بدن ومال، أن يوجه ذلك في تحقيق بر والديه، هذا معنى قوله: «ففيهما فجاهد» يعني: ابذل كل ما تستطيع من أوجه البر لتحقيق رضاهما.

وبهذا يتبين هذه المنزلة السامية والمكانة الرفيعة التي جعلها الله تعالى للوالدين والمنزلة العالية في برهما والإحسان إليهما.

 وفي المقابل عندما نستمع إلى النصوص الواردة في بيان عظيم خطورة العقوق للوالدين، أيضا يظهر هذا منزلة بر الوالدين، ففي الصحيحين من حديث أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثا قالوا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور»+++[صحيح البخاري:ح2654]---كررها النبي –صلى الله عليه وسلم-ثلاث مرات أي عاد عليهم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ وكل هذا العرض للفت الانتباه، وحث الهمم لاستماع ما سيوجه إليه وبيان خطورة ذلك، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-في عد ذلك: «قالوا: بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله» وهذا فيه إخلال بحق الله،وأعظم الظلم هو الشرك بالله ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾+++[لقمان: 13]---، الإشراك بالله وهو أن تسوي مع الله غيره.

فالشرك بكل صوره وأنواعه القولية والقلبية والعملية يدور على هذا المعنى، وهو تسوية غير الله بالله، فالله لا ند له، ولا كفؤ ولا نذير ولا سمي، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

 هذا أولا هذا أكبر الكبائر، وأعظم الخطايا والذنوب، ولا يغفره الله إلا بالتوبة منه والرجوع عنه ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾+++[النساء: 48]---.

الثاني من الأعمال التي أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم-بأنها أكبر الكبائر في قوله: «ألا انبئكم بأكبر الكبائر؟» قال: «وعقوق الوالدين»، وعقوق الوالدين معناه قطع، العقوق: من عق الشيء إذا قطعه، والمقصود بذلك قطع ما يجب للوالدين من الإحسان والبر وحسن الصحبة، هذا معنى عقوق الوالدين، أن تقطع ما يجب لوالديك أو لأحدهما من الحقوق الواجبة عليك، فإن ذلك من أكبر الكبائر، سواء كان ذلك الحق فيما يتعلق بالخدمة، أو بالإحسان، أو بالمال، أو بالجاه، أو بالقول، أو بغير ذلك من أوجه الحقوق التي سنتعرض إلى بعض منها في أثناء حديثنا، «وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور» ألا وقول الزور: أي القول الباطل والشهادة في الزور.

فالنبي –صلى الله عليه وسلم-بين عظيم منزلة العقوق في الذنوب والخطايا بأنها أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب خطورة، وبها يدرك الإنسان شرا عظيما في معاشه ومعاده، وفي دنياه وفي آخراه، فلذلك يتبين من مجموع هذه النصوص كما ذكرنا نبذ في مساق ذكر الفضائل لبر الوالدين وخطورة العقوق، إنما نبذ تبين عظيم منزلة هذا العمل وهو بر الوالدين، وأنه في الذروة من الأعمال الصالحة، وأن الإنسان ببره لوالديه يتقرب إلى الله –عز وجل-، فهو يتعامل مع الله –عز وجل-في تحقيق هذه العبادة، وهذه الطاعة، وهذه الخصلة من خصال أهل الإيمان.

 نسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، والقيام بحقوق خلقه.

المقدم: كما سمعتم أيها الأحبة من حديث شيخنا وضيفنا العزيز يعني الله –سبحانه وتعالى-ورسوله الكريم عظموا أمر بر الوالدين، ففي البر قرنه الله –سبحانه وتعالى-بطاعته، وهو ثاني أمر بعد طاعة الله –سبحانه وتعالى-، ثم يأتي في المقابل أيها الأحبة عقوق الوالدين يأتي أيضا في المرتبة الثانية في معصية الله –سبحانه وتعالى-يدل ذلك أيها الأحبة كما فهمنا من ضيفنا العزيز أن أمر بر الوالدين أمر عظيم يجب الاهتمام به من قبل كل إنسان مسلم، وخاصة من كان قد غفل عن هذا الأمر عليه أن يعود سريعا إليه.

شيخ خالد! تتجلى صور بر الوالدين في الإسلام بالعديد من الأمور التي يمكن للمرء أن يكسب بها ود ورضا والديه، فكيف يمكن كسب هذا التوفيق الرباني؟ كيف يكون بر الوالدين سبيلا ممكنا للتحقيق فعلا؟ ما هي الصور التي يستطيع الإنسان من خلالها أن يكون بارا بوالديه؟ 

الشيخ: بر الوالدين في الأصل هو الإحسان إليهما، وذلك أن كلمة البر هي نوع من المعاني الواسعة، فالبر مأخوذ من البر وهو السعة،فمعنى بر الوالدين معاملتهما بكل ما يحصل به التوسيع عليهما، وقرارة نفوسهما، وقرة عينهما بكل أوجه البر.

ولذلك بر الوالدين لم يأت في الشرع ذكر لأعمال مفصلة تشمل كل ما يكون من أوجه البر، بل أوجه البر التي ندب إليها الشرع لا تقتصر على صورة، ولا تنحصر في نموذج معين لا تتجاوزه، فصور البر عديدة، وأنماطه كثيرة والنصوص جاءت بالحث والتوجيه العام لبر الوالد.

المقدم: لعلنا نأتي على أبرزها يعني.

الشيخ: نعم، في الجملة بر الوالدين هو الإحسان إليهما، وذلك يتحقق من أمور عديدة، من ذلك أداء ما يكون من حقهما في حسن المعاملة، فمن حق الوالد على ولده أن يحسن إليه بكل ما يكون مما يتحقق به حسن الصحبة، ولهذا النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-عندما سئل سأله رجل فقال:« يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟» يعني بحسن المعاملة، وجميل المعاشرة، وكريم الخصال من أحق الناس بذلك؟ «قال: أمك قال: ثم من؟ قال: ثم أمك قال: ثم من؟ قال: ثم أمك»+++[صحيح البخاري:ح5971]--- كررها عليه –صلى الله عليه وسلم-ثلاث «قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك»، وهذا يبين أن حق الوالدين في البر مؤكد، وهو أن يكون الإنسان حسنا في مصاحبته.

 حسن الصحبة مفهوم عام، يفصله أن تسعى في إيصال كل خير إلى أبويك، وأن تكف عنهما كل أذى يكرهانه في مقال، أو في معاملة، في حضور أو في غياب، في محيا أو في ممات، تكف عن والديك كل ما يمكن أن يكون من أسباب المكروه، فإن ذلك مما يتحقق به بر والديك.

فبالتالي عندنا أمور واجبة وأمور مستحبة في بر الوالد، الأدنى هو الواجب، وهو أن تبعد عن قطيعتهما، أي أن تبعد عن قطع ما لهما من الحق بالإحسان، وهذا يختلف باختلاف أحوال الناس، فمما يتعلق بطيب القول إياك أن يصدر منك قول قبيح تجاه والديك، والمطلوب هو الحسن.

ولذلك قال الله تعالى: ﴿فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما+++[الإسراء: 23]---،فلابد من طيب المقال، بكل ما يكون من المقال الحسن، والمقال الطيب، والكلام الجميل، وانكفاء ما يمكن أن يوصل إليهما تضجرا، أو تأففا، أو تكرها لما يكون منهما، وهذا لا يعني ألا ينصح الولد والده، فإن النصيحة حق لكل مسلم، وأحق من ينصح من له صلة قرابة، ولكن ينبغي أن يسلك في ذلك ما يكون محققا للمقصود من التوجيه دون ما يمكن أن يكون من لفظ جارح، أو كلام قبيح، أو ما يمكن أن يكون شاقا عليهما.

ولهذا ينبغي أن يتحرى الإنسان في كلامه لوالده ووالدته، أن يتحرى الكلام، وأن يزنه، أن يتحرى الكلمات والألفاظ ويزنها بالميزان الذي ذكره الله تعالى ﴿فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما﴾+++[الإسراء: 24]---، فالمطلوب فيما يكون من قولك لوالديك سواء كان ذلك في سائر الأحوال، أو في أحوال التوجيه والنصح، أو في أحوال ما قد يكون قد يحتاج إلى أن يوضح الأمر، إما بمدافعة عن نفسه، أو أن يكون القول كريما، وهذا يوجب على الإنسان أن يحتاط، وأن يستشعر أنه إنما يتحدث مع والده.

وهنا ثمة ما يمكن أن يبرز في مثل هذا المقام، أحدهم يقول: إن والدي قد يكون مقصرا، إن والدي قد يكون عنده ملاحظات رئيسة في سلوكه أو في معاشه، هل هذا ينقص حقه؟ هذا ما سنتحدث عنه في موانع بعد قليل فيما يتعلق في موانع البر، يعني عوائق البر، العوائق التي تعوق الناس على البر، لكن في الجملة الذي ينبغي أن يكون في البر هو القول الجميل.

بعد ذلك القول الجميل أيضا ينعطف عليه المعاملة الحسنة، بالإكرام والتبجيل والتقديم، وهذا يختلف باختلاف البلدان، ولهذا عندما ذكر بعضهم من الكلام الذي أشار فيه إلى بر والده، ذكر أنه من بره لولده أنه لا يتقدم بين يديه إذا مشى نهارا، وأنه في سيره معه في الليل يكون خلفه، هذا التنوع هو مما يقتضيه الحال، مما تقتضيه المصلحة، فبذل الإحسان في المعاملة يختلف باختلاف الأحوال، ويختلف باختلاف الزمان، ويختلف باختلاف الأعراف، فما كان عرفا أنه تقدير وتبجيل وإكرام ينبغي أن يعامل به الوالد.

 على سبيل المثال يعني من صفات البر المنقولة، نقل لعلي بن الحسين -رضي الله تعالى عنه ورحمه- قيل له: " إنك من أبر الناس بأمك ولسنا نراك تأكل مع أمك في صحفة؟ " في حين أنه أحيانا الوالدة إنما تسر الأكل، فإذا كان الوالدة لا تطمئن ولا تسر إلا بأكلك بين يديها فكل؛ فإنها تأكل وتقر عينها بذلك، لكن علي بن الحسين لما قيل له: " إنك من أبر الناس بأمك ولسنا نراك تأكل مع أمك في صحفة،" ماذا قال في جوابه على أنه يمتنع من الأكل معها" قال: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه فأكون قد عققتها".+++[الكامل في اللغة والأدب:1/191]---

انظر الميزان الدقيق الذي يستشعره الإنسان، ويكون أحيانا من أوجه البر الخفية.

المقدم: يعني فهم بعيد لا يتبادر إلى أذهان كثير من الناس اليوم، ربما يفسرونه تفسيرا خاطئا :هذا لا يأكل مع أمه لأنه يستنكف ربما، لكن سبحان الله كيف كان؟

الشيخ: ولذلك البر له أوجه مختلفة، قيل لعمر بن ذر لما مات ابنه كيف بره بك؟ يسألون عمر عن بر ولده به قال: "ما مشيت قط بنهار إلا مشى خلفي" لأنه في النهار لا يحتاج أن يتقدم بين يديه "ولا بليل إلا مشى أمامي، ولا رقى سطحا أنا تحته"+++[الكامل في اللغة والأدب:1/191]--- هذا النوع من أنواع البر دقيق، يعني كونه وهو يوصل الفكرة التي ذكرتها قبل قليل أن البر يختلف باختلاف الأحوال، يختلف باختلاف الزمان، يختلف باختلاف الشخص، يختلف باختلاف القدرات التي تكون عند الإنسان، لكن من سكن في نفسه حرصه على بر والده فإنه لن يعجز أن يصل إلى ذلك البر بكل الطرق، ولذلك لما سئل الحسن عن بر الوالدين قال: كيف يكون؟ قال: "أن تبذل لهما ما ملكت"، وهذا يختلف باختلاف الناس فيما يملكون "وتطيعهما فيما أمراك، ما لم يكن معصية"+++[أخرجه عبد الرزاق في مصنفه:ح9288]---، وهذا بيان ركنين من أركان البر هما البذل والإحسان، القولي والمالي والعملي، وانقياد النفس لما يرغبانه ما لم يكن في ذلك معصية، ولهذا ينبغي للإنسان أن يستذكر هذا المعنى في البر، وأن البر لا ينحصر في صورة، وأن البر قد يختلف في الزمان والمكان، ومن سكن في نفسه وعمر فؤاده بحرصه على بر أبويه فلن يعدم من ذلك سبيلا ولا طريقا.

ثم هنا مسألة وهي مهمة: أن البر لا يقتصر على الحياة.

المقدم: نعم، هذا ما كنت أود أن أسألك عنه يا دكتور خالد، كيف يمكن بر الوالدين بعد موتهما؟ وخاصة لبعض الناس الذين لم يكونوا يقظين لهذا الفضل العظيم خلال حياتهما، وإنما أدركا تلك الأهمية وأهمية بر الوالدين بعد أن غادر والداه الحياة إلى الدار الآخرة، كيف يمكن أن يتدارك هذا الأمر؟ وهل هناك بر فعلا يستطيع أن يعوض به الإنسان ما قصر فيه في حياتهما؟

الشيخ: نعم، وهذا سؤال أجاب عنه النبي –صلى الله عليه وسلم-، ففي سنن أبي داود من حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما نحن عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم-إذ جاء رجل من بني سلمة، بطن من بطون الأنصار، قبائل من قبائل الأنصار، فقال يا رسول الله: هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ هذا اجتهد في بر أو قصر في بر، المهم أنه رجل سأل النبي –صلى الله عليه وسلم-عن بر أبويه بعد موتهما، هل في بقية بر بعد الموت؟ أم أن البر يقتصر فقط على الإحسان، وكف الأذى، وما إلى ذلك مما يكون في حياة الإنسان؟ وإذا ولى والده ومضى عمرهما إلى فضل الله ورحمته تعالى انقطع البر، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-في جواب هذا السائل يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: «نعم»، يعني بقي ولم ينته الأمر، ثم عد النبي –صلى الله عليه وسلم- خمسة أعمال كلها من أوجه البر للوالد بعد الموت قال:« الصلاة عليهما» الصلاة المقصود: الدعاء لهما، ومنه الصلاة على جنازتهما إذا ماتا، هذا من بر الإنسان بوالديه «الصلاة عليهما».

قال: «والاستغفار لهما»، فالصلاة بمعنى الدعاء، ثم قال: «والاستغفار لهما»، وهذا تخصيص نوع من الدعاء ينبغي الحرص عليه والإكثار منه، وهو الدعاء لهما بالمغفرة، ما أحوج الإنسان إلى هذا المعنى، وهو أن يسأل الله لنفسه المغفرة، ولأمواته المغفرة، فإنه من أعظم ما يقوم به الإنسان تجاه موتاه أن يلح على الله تعالى بسؤال المغفرة له، فإذا كان لك والد قد ولى، أو والدة قد ماتت فاجتهد في الاستغفار لهما، فهو أعلى ما يكون من أوجه الدعاء.

إذا الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وهذان المعنيان هما مما يبقى من عمل الإنسان بعد موته، ولذلك في حديث أبي هريرة في الصحيح أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: « إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له »+++[صحيح مسلم:ح1631/14]---، فمن آكد ما يحصل به بر والدك بعد موتك هو الدعاء، والنبي –صلى الله عليه وسلم-قدم هذا العمل في أوجه بر الوالد بعد الموت، ونص عليه في حديث انقطاع الأعمال؛ لأنه لا يعجز عنه إلا مفرط، فإنه لا يعجز أحد أن يدعو لوالده، ليس ثمة ما يمنعك من أن تدعو لوالديك في صلاتك، وفي مواطن الإجابة، وأنت قائم وقاعد، وفي كل أحوالك.

فالدعاء ليس له حد، ولا له توقيت، هو في العمر كله، وفي الآناء كلها، والله –عز وجل-يقول: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾+++[البقرة: 186]---، فلا يعجز عن الدعاء لوالديه أحد، وما كان برا لهما بعد موتهما، فهو من برهما في حياتهما، فهذا أيضا من أوجه البر في الحياة أن تدعو لوالديك، وأن تكثر لهما سؤال الله –عز وجل- الخير في دنياهما وبعد موتهما.

الثالث من الأعمال التي ذكرها النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «وإنفاذ عهدهما من بعدهما» إنفاذ عهدهما يعني: العمل بوصيتهما إذا أوصيا، وهنا تنبيه لكثير من الناس الذين يرون أن الوصية هامشية، وأنها أمر خياري إن شئت أن تفعله، وإن شئت ألا تفعله، الوصايا من حقوق الموتى، فإن الإنسان إذا مات وأوصى فإنه يجب على من بعده أن ينفذ وصيته، شيء واجب لازم من غير تقصير.

ولذلك الله تعالى عندما ذكر في المواريث ما ذكر قال: ﴿من بعد وصية يوصى بها أو دين﴾+++[النساء: 12]--- أيهما أحق الوصية أو الدين؟

الوصية هي التبرع بعد الموت، والدين حق ثابت في ذمة الإنسان في معاشه وبعد موته إذا كان قد ترك شيئا أيهما أولى في التقديم في الذكر؟ الأولى: الدين؛ لأن الدين حق واجب، والوصية تبرع لكن الآية الكريمة ماذا قدمت؟ ﴿من بعد وصية يوصى بها أو دين﴾+++[النساء: 12]---، السبب أن الوصية محل تسليط وإضاعة من كثير من الناس؛ لأنها تبرع، خلاص مات ونحن بالخيار إن شئنا أمضينا تبرعه، وإن شئنا ألا نمضي، الجواب: أنه حق واجب في المال قدم الله ذكره لأهميته، فإذا أوصى الإنسان بشيء يجب إنفاذ وصيته في القدر الذي أذن الله تعالى به، وهو الثلث من ماله، وألا يفرط في شيء من ذلك، فإن إضاعته من إضاعة الحقوق.

ولهذا النبي –صلى الله عليه وسلم-يقول في بيان ما يكون من بر الوالد بعد موته قال: «وإنفاذ عهدهما من بعد موتهما».

 هذا ثالث ما أوصي به النبي من البر بعد موت الوالد، أب أو أم، سواء كان أبا أو أما، قال: «وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما» هذا رابع الأعمال.

صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما يعني التي كان سببا في قيامهم من جهة أعمامك، إخوان والدك، قرابات والدك، قرابات والدتك، قرابات أبيك، قرابات أمك، هؤلاء صلتهم من برك من والدك، وهو باب من أبواب البر في الحياة وفي الموت، يتأكد أن الإنسان قد يبر قراباتك من جهة أبيه أو من جهة أمه في حياتهما إكراما لوالده، لكن إذا مات فإن كثيرا من الناس يعني يقصر، وتأتيه العوارض، ويغفل ويكون السبب الموجب للبر يعني قد غاب وهو الوالد أو الوالدة الأب والأم، فيغفل.

فلذلك من بر والديك أن تصل الرحم التي لا توصل إلا بهما.

الخامس من الأعمال قال –صلى الله عليه وسلم-: «وإكرام صديقهما»+++[سنن أبي داود:ح5142، وصححه ابن حبان:ح418]---، الإكرام هو نوع من الإحسان للوالد، والنبي –صلى الله عليه وسلم-لم يقصر ذلك على وجه، بل يكون الإكرام بالسلام، يكون الإكرام بالزيارة، يكون الإكرام بالمال، يكون الإكرام بكل وجه من أوجه البر، ولذلك النبي –صلى الله عليه وسلم-لما قالت له إحدى زوجاته إنها قد أعتقت رقيقا لها قال: «أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك»+++[صحيح البخاري:ح2592]---، فأوصاها النبي –صلى الله عليه وسلم- أن تبر أخوالها، أخوال أمها وأخوات أمها لما في ذلك من صلة الرحم التي يحصل بها من الأجر والخير ما يحصل به لمن رغب في البر والإحسان.

هذا من أوجه الصلة التي تكون للإنسان،صلته وبره لوالديه بعد موتهما، ووصية النبي –صلى الله عليه وسلم-في هذا واضحة وجلية، وقد أخذ بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهذا ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- في بره لأبيه أنه أعطى رجلا من المال والإكرام ما هو زائد على المعتاد، فقيل له في ذلك؟ فقال: "إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب "+++[صحيح مسلم:ح2552/11]---، يعني كان صديقا لعمر -رضي الله تعالى عنه- فهو أكرم ابن صديق والده لبره بأبيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.

المقدم: نعم دكتور خالد بارك الله فيك، طبعا هذا الأمر وهذه القضية قضية بر الوالدين هذه من أعظم القضايا التي اهتم بها الإسلام كما استمعنا منك حفظك الله، والتي يجب على الإنسان أن يهتم بها اهتماما كبيرا، سواء كان والداه أحياء أو قد غادرا هذه الحياة، فالأمر -والحمد لله- متاح للإنسان أن يبر والديه حتى بعد موتهما كما فهمنا منك رعاك الله.

 هناك عواقب أو عوائق وعقبات ربما تصد الإنسان أو تصد بعض الأبناء عن مواصلة بر الوالدين وخاصة حينما تكون تلك العوائق تنشأ من الآباء أنفسهم، ربما بعض الآباء يعني لا يحسنوا التربية منذ الصغر، وتكون تربيته فيها نوع من القسوة والغلظة على الأبناء، تؤدي بهم إلى النفور، وإلى ربما الكراهية وإلى البعد عن والديهما في هذه الحياة، ما هو السبيل أو ما هي نصيحتك للآباء أولا وللأبناء حينما يتعرضون لمثل هذه العقبات التي قد تصد عن بر الوالدين؟ وهل هناك أيضا عوائق أخرى ربما تصد الإنسان عن بر والديه غير ما ذكرته أنا؟

الشيخ: هو أخي الكريم فيما يتعلق بوجود العوائق، العوائق لا شك أنها متنوعة ومتعددة والإنسان مأمور بأن يجاهد نفسه في اجتياز هذه العقبات التي من خلالها يحقق رضا الله –عز وجل-، ويقوم بما أمر الله تعالى به.

النبي –صلى الله عليه وسلم-عندما جاءه الرجل يستأذنه في الجهاد قال:« ألك والدان؟» قال: نعم قال: «ففيهما فجاهد»+++[تقدم]--- وهذا يعني أن بر الوالد من العمل الذي يحتاج إلى مجاهدة، يحتاج إلى مثابرة، يحتاج إلى بذل فليس كل بر مما يتوافق مع هوى الإنسان، لاسيما وأن البر عملية متواصلة ومستمرة وليست عملا يؤديه في لحظة وينتهي ويكون قد فرغ منه، يعني العناء الذي يكون للإنسان حال حجه على سبيل المثال هو مؤقت بوقت، يحج ويتعب، ويجافي بلده، ويخرج عن مألوفه بمطعمه، أيام محدودة ينقضي العمل وينتهي الأمر، لكن ما يتعلق ببر الوالد عملية مستمرة وليست مؤقتة في زمن أو محدودة بعمل محدد في أيام معدودات، أو في ظرف مقيد ببداية ونهاية، بل هو مستمر حتى بعد الموت.

ولذلك كان اللفظ النبوي مبينا لهذا المعني، وأنه يحتاج إلى مثابرة وإلى بذل، قال: «أحي والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد» أي: ابذل غاية وسعك في تحقيق المطلوب من بر والديك والإحسان إليهما.

من العوائق ما يكون من جهة من جهة الوالدين إما أن يكونا قد قصرا في تربية أولادهما، أو يكونا قد أخلا بما يجب عليهما من حقوق أولادهما وما أشبه ذلك مما يكون من أوجه الإساءة، لكن هل هذا يبرر؟

أولا: أقول للآباء والأمهات: اتقوا الله، وأعينوا أولادكم على بركم، فليس كل ولد من ذكر أو أنثي من ابن أو بنت يعي أهمية هذه العبادة وهذه القضية، فلا تكونوا شقاء على أولادكم بما يكتسبناه من الوزر، وذلك بسلوك كل الطرق الممكنة التي يتحقق بها ما تؤملان من بر أولادكما، فأعينوا أولادكم على هذا.

في المقابل الأولاد ذكورا وإناثا، أبناء وبنات، صغار وكبار اتقوا الله في حق والديكم؛ فإن الله –عز وجل-ذكر في محكم كتابه أعلى صورة من صور إساءة الوالد إلى ولده، أن يدعوه إلى النار، أن يقوده إلى الجحيم، فماذا كان من قول الله –عز وجل-في محكم الكتاب؟ قال: ﴿وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما﴾+++[لقمان: 15]---، يعني إن بذلا كل طاقة ووسع في أن يصرفاك عن الخير لا تطعهما، المقابل لإساءة الوالد التي بلغت هذا الحد، لا تطعمها، لكن هل هذا يسقط حقهما؟ قال تعالى: ﴿وصاحبهما في الدنيا معروفا﴾+++[لقمان: 15]---، ولك أن تنظر إلى ما ذكر سعد -رضي الله تعالى عنه- قال: "كنت بارا بأمي، فأسلمت فقالت: لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب شرابا حتى أموت فتعير بي" يعني يعيره الناس بأمه ويقال: يا قاتل أمه، وبقيت يوما ويوما فقلت: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا، ﴿فلا تطعهما﴾هنا، فإن شئت فكلي وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت" لما رأت إصراره وثباته على ما هو عليه أكلت، لكن انظر إلى تلطفه قال: "يا أماه" بصورة التلطف والشفقة عليها في بيان وهذا الأمر، لا أستطيع أن أمتثل ما ترغبين فيه لوجود مانع، وهو أن هذا يتعلق بحق الله، وليس ثمة حق أعلى من حق الله ﴿فلا تطعهما﴾، وهو الذي أمرك بطاعة والديك نهاك عن طاعتهما في هذا الأمر.

لهذا أقول: مهما كان الأب والأم على حال من السوء والشر هذا لا يعني أن يقطع الإنسان والديه، ولا يبرر له عقوق والديه، له أن يمتنع عما يكون من الشر الذي يطلبناه منه، لكن ليس له أن يسيء إليهما، وأن يخرج عن صحبتهما بالمعروف، بل الله –عز وجل-أمر بالصحبة بالمعروف، والآباء والأمهات قد يصدر منهما ما يكون سببا لنفرة الولد، إما بالتدخل في شئون حياته الخاصة التي تتعلق بدراسته، أو تتعلق بعمله، أو تتعلق بأسرته وزوجته، سواء كان ذلك في ابتداء الزواج بفرض امرأة معينة، أو بفرض رجل معين، أو كان ذلك بعد الزواج باختلاق المشاكل، أو المطالبة بالطلاق، أو التدخل في إدارة شئون الحياة وما أشبه ذلك، ينبغي للأبناء والبنات طبعا، الوالد يجب عليه أن يتقي الله –عز وجل-، نحن نتكلم الآن في جانب ما ينبغي أن نتصرف فيه فيما لو وقع، ينبغي أن نحسن، وأن نبعد عن الظلم، فلا يجوز لنا أن نظلم أحدا لإرضاء والدينا ﴿فلا تطعهما﴾، لكن في المقابل ينبغي ألا نسقط حقهما في الإحسان، يتلطف الإنسان ويصبر، ومن صبر يا أخي الكريم أيها الأخ والأخت الكرام المستمعون! من صبر ظفر، ومن علم الله منه صدق الرغبة في البر سهل الله له الصعاب، ويسر له السبيل للإدراك، ومما يدل على هذا قول الله –عز وجل-بعد آيته بعد الأمر بالبر ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما *واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا﴾+++[الإسراء: 22-23]--- الدعاء، ثم قال: ﴿ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا﴾+++[الإسراء: 24]---، فإن علم الله من العبد من نفسه صدقه في حرصه على بر والديه، فإن الله يغفر له ما يكون من تقصير، يعينه على بلوغ ما يؤمل من بر والديه، يتحقق له بذلك خير الدنيا والآخرة.

المهم أنه ينبغي أن نستصحب الصبر، وأن نعلم أننا في بر والدينا في جهاد نحتاج إلى أن نراجع أنفسنا، راجع نفسك في صلتك مع أبيك مع أمك حيا كان أو ميتا، سد الخلل، قوم الخطأ، كمل النقص، زد من الخير، بادر إلى كل بر، واسع لله، واعلم أن الأجر من الله.

وبالتالي ستدرك ذلك ثوابا وأجرا في الآخرة، وتدرك ذلك في الدنيا بتوفيق وتيسير وإعانة على خيرات وذرية صالحة تقر بها عينك.

المقدم: بارك الله فيك شيخنا العزيز، وأحسن إليك، هذا الموضوع موضوع كبير جدا، ولا نستطيع في هذه الحلقة أن نأتي على كل جوانبه، ولكننا -ولله الحمد- استمعنا منك إلى مجمل القول فيه، ومجمل الأمور التي يجب أن يهتم بها الإنسان لجهة بره بوالديه، كيف يمكن أن يتحقق ذلك منه، وأيضا رأينا أو سمعنا منك ما هي الأمور التي ربما تعيق الأبناء وتقف في وجوههم، ربما تصدهم عن بر والديهم، لعلنا إن شاء الله تعالى أن نكون فهمنا من هذه الحلقة ما يفيدنا أيها الإخوة والأخوات، وندعو الله –سبحانه وتعالى-أن نكون نحن وأنتم من الذين وفقوا لبر والديهم في حياتهم وبعد مماتهم.

دكتور خالد نشكرك على حسن أدائك في هذه الحلقة، ونرجوا الله –سبحانه وتعالى-أن يثيبك، وأن يجعل ما تقدمه دائما وأبدا في ميزان حسناتك، وأن يوفقك لكل خير، ونلقاك -بإذن الله تعالى- في حلقة الأسبوع القادم وأنت بخير وصحة وعافية.

الشيخ: آمين، وأنتم كذلك، وأسأل الله لي ولكم الإعانة على الطاعات، وأوصيكم بالدعاء أن تدعوا الله أن يوفقكم إلى بر والديكم، وإلى كل بر وخير، وأن يوفق ولاة أمرنا إلى ما فيه خير العباد والبلاد، وأن يدفع عنا كل سوء وشر، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

 

المشاهدات:3302

المقدم:بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات أيها المستمعون الكرام أينما كنتم! نحيكم تحية طيبة نحيكم بتحية الإسلام فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أحيكم من إذاعتكم إذاعة "نداء الإسلام" من المملكة العربية السعودية، ويسرُّنا أيها الأحبة أن نقدم إلى حضارتكم حلقة هذا الأسبوع من برنامجكم الأسبوعي "الدين والحياة".

أيها الأحبة! يسرُّنا أن نرحِّب في مطلع حقلتنا بضيف برنامجنا الدائم سعادة الأستاذ الدكتور خالد المصلح أستاذ الفقه بجامعة القصيم، الذي التحق بنا في هذه اللحظات.

 شيخ خالد! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلا ومرحبا بك.

الشيخ:وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حياك الله أخي عبد الله، ومرحبا بك وبالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.

المقدم: أهلا ومرحبا بك دكتور خالد معنا في هذه الحلقة من هذا البرنامج، ويسرُّني أيها الأحبة أن أكون معكم أنا عبد الله سعد بن عزة، ويساندني في تنفيذ وإخراج هذه الحلقة الزميل لؤي الحلبي.

أهلا ومرحبا بكم أيها الإخوة والأخوات، الوالدان هما زهرة الحياة الدنيا، وفي الحديث عنهما قد تسمو روح وترتقي في أعلى درجاتها، نعمة الوالدين ورحمتهما تفضي إلى الجنان، وعظيم قدرهما يوجب الإحسان على الإنسان لما يقدمانه من حب بلا مقابل، وعطف لا حدَّ له، وتفان في سبيل الحياة الكريمة لأبنائهما.

الناس أيها الأحبة تكثر المصالح عندهم، وتزداد الأطماع والغايات، وتتبدل الأحوال، وتزيد المحبة وتنقص، إلا الوالدان يبقيان على ما هما عليه من الحرص العظيم على أبنائهم، وعلى الدعم والسند الذي لا حدود له، لذلك المعنى السامي الكريم ولأن الإسلام دين الأخلاق الذي يحرص على كون المسلم نموذجًا كاملًا للالتقاء بالمجتمع يحرص هذا الدين على العناية بالوالدين.

شيخ خالد! حدّثنا -حفظك الله- عن مفهوم بر الوالدين في الإسلام وعن منزلته أيضًا منزلة بر الوالدين التي اعتنى بها الإسلام والسنة النبوية المطهرة أيضًا تفضل؟

الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على البشير النذير والسراج المنير نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

من الأعمال الصالحة الجليلة التي أنزلها الله تعالى منزلة رفيعة في حقوق الخلق، فإن الله –عز وجل-أمر بأداء حقه، وذلك بتوحيده وحده لا شريك له ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[الإسراء: 23]، فالحق له –جل وعلا-مقدَّم على كل حق من حقوق أصحاب الحقوق، فهو الخالق البارئ المصوِّر الذي لا ينفك الناس عن إحسانه ونعمه، فحقُّه جليل جل في علاه.

فأمر بحقِّه، ثم بعد ذلك ذكر حقَّ أعظم الخلق من أصحاب الحقوق الذين يشترك فيهم الناس جميعًا بعد حق الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فحق الرسل ينضاف إلى حقه، وهما الوالدان فقال تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[الإسراء: 23]، فحق الوالدين هو في ذروة الحقوق بين الناس، فإن بين الناس حقوقًا متنوعة لأسباب متعددة وأحوال مختلفة، أعلاها حقًّا هو حق الوالدين، فإن حقهما رفيع وعال، وقد جعله الله تعالى في أول الحقوق المأمور بأدائها بعد حقه -جل في علاه-،  قال: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا[الإسراء: 23]، قال تعالى: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ[لقمان: 14].

والنصوص في القرآن متعددة في عظيم حق الوالدين، قال: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا[لقمان: 15]، وقال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا[العنكبوت: 8]، وبهذا يتبين حفاوة النصوص القرآنية بحق الوالدين تذكيرًا بحقهما، والوصية بهما، وبيان منزلتهما في الحقوق.

 وأما السنة النبوية فإن النبي –صلى الله عليه وسلم-بيَّن عظيمَ منزلة بر الوالدين، وأنه من أرفع الأعمال الصالحة، وأحبها إلى الله –عز وجل-بعد حقوقه –جل وعلا-، ففي الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: «سَأَلْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ العَمَلِ أحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قالَ: الصَّلاةُ علَى وقْتِها»، وهذا في الأعمال البدنية المتعلقة بحقه «الصَّلاةُ علَى وقْتِها» يعني في أول وقتها، والمقصود بالصلوات: الصلوات المفروضة التي قال فيها –جل وعلا-: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا[النساء: 103]، أي: موقتة، ثم قال ابن مسعود: قلت: «ثُمَّ أيٌّ؟» يعني: أي العمل بعد ذلك أفضل بعد الصلاة على وقتها؟ قال: «ثُمَّ برُّ الوالِدَيْنِ»[صحيح البخاري:ح527، ومسلم:85/139]، فجعل في الحقوق من حيث مراتب الأحبِّ إلى الله –عز وجل-برَّ الوالدين بعد الصلاة على وقتها، والصلاة هي أفضل الأعمال وأعلاها منزلة عند رب العالمين فيما يتعلق بأعمال الجوارح، بعد توحيده وأعمال القلوب المتعلقة بالإخلاص له، وتعظيمه جل في علاه ومحبته.         ويبين أيضًا عظيم المنزلة ورفيع المكانة فيما يتصل بحق الوالدين أن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-جاءه رجل فقال: يا رسول الله «إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «ارْجِعْ فَبَرَّهَا» ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَارْجِعْ إِلَيْهَا فَبَرَّهَا» ثُمَّ أَتَيْتُهُ مِنْ أَمَامِهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الْجِهَادَ مَعَكَ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، قَالَ: «وَيْحَكَ، أَحَيَّةٌ أُمُّكَ؟» قُلْتُ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «وَيْحَكَ، الْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الْجَنَّةُ» [سنن ابن ماجه:ح2781، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:ح2484]ويحك كلمة تقال للترحم، مقابل ويلك، يعني ويلك في الوعيد، وويحك في التلطف وفي الترحم على من وجهت إليه.

 هكذا قال –صلى الله عليه وسلم-في بيان منزلة بر والدته، مع عظيم ما عرض عليه من العمل وهو الجهاد في سبيل الله، لكن النبي –صلى الله عليه وسلم-وجهه إلى ما هو أفضل وأعلى منزلة وأرفع مكانة وهو بره بوالدته.

وفي الصحيحين أيضًا أن رجلًا جاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-فقال يا رسول الله: «أنَّ رجلًا جاءَ يستأذنُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ في الجِهادِ معَه، فقالَ: أحَيٌّ والداك؟ قال: نَعم، قال: ففيهما فجاهَدَ»[صحيح البخاري:ح3004، وصحيح مسلم:ح2549/5]، فأوصاه –صلى الله عليه وسلم-أن يوجِّه هذه الطاقة التي أراد بَذلَها في قتال أعداء الله –عز وجل-والذبِّ عن دينه والنصرة لنبيه –صلى الله عليه وسلم-، أمره أن يوجِّه هذه الطاقة سواء كانت طاقة بدنية أو مالية، فالجهاد يحتاج إلى بدن ومال، أن يوجه ذلك في تحقيق بر والديه، هذا معنى قوله: «ففيهما فجاهد» يعني: ابذل كل ما تستطيع من أوجه البر لتحقيق رضاهما.

وبهذا يتبيَّن هذه المنزلة السامية والمكانة الرفيعة التي جعلها الله تعالى للوالدين والمنزلة العالية في برهما والإحسان إليهما.

 وفي المقابل عندما نستمع إلى النصوص الواردة في بيان عظيم خطورة العقوق للوالدين، أيضًا يظهر هذا منزلة بر الوالدين، ففي الصحيحين من حديث أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «ألا أنبِّئُكُم بأَكْبرِ الكبائرِ؟ ثلاثًا قالوا: بلَى يا رسولَ اللهِ قالَ: الإشراكُ باللَّهِ وعقوقُ الوالدَينِ وَكانَ متَّكئًا فجلسَ فقالَ: ألا وقولُ الزُّورِ وشَهادةُ الزُّورِ»[صحيح البخاري:ح2654]كررها النبي –صلى الله عليه وسلم-ثلاث مرات أي عاد عليهم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ وكل هذا العرض للفت الانتباه، وحثِّ الهمم لاستماع ما سيوجَّه إليه وبيان خطورة ذلك، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-في عدِّ ذلك: «قالوا: بلَى يا رسولَ اللهِ قالَ: الإشراكُ باللَّهِ» وهذا فيه إخلال بحق الله،وأعظم الظلم هو الشرك بالله ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ[لقمان: 13]، الإشراك بالله وهو أن تسوي مع الله غيره.

فالشرك بكل صوره وأنواعه القولية والقلبية والعملية يدور على هذا المعنى، وهو تسوية غير الله بالله، فالله لا ندَّ له، ولا كفؤ ولا نذير ولا سميَّ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

 هذا أولًا هذا أكبر الكبائر، وأعظم الخطايا والذنوب، ولا يغفره الله إلا بالتوبة منه والرجوع عنه ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء: 48].

الثاني من الأعمال التي أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم-بأنها أكبر الكبائر في قوله: «ألا انبئكم بأكبر الكبائر؟» قال: «وعقوق الوالدين»، وعقوق الوالدين معناه قطع، العقوق: من عقَّ الشيء إذا قطعه، والمقصود بذلك قطع ما يجب للوالدين من الإحسان والبر وحسن الصحبة، هذا معنى عقوق الوالدين، أن تقطع ما يجب لوالديك أو لأحدهما من الحقوق الواجبة عليك، فإن ذلك من أكبر الكبائر، سواء كان ذلك الحق فيما يتعلق بالخدمة، أو بالإحسان، أو بالمال، أو بالجاه، أو بالقول، أو بغير ذلك من أوجه الحقوق التي سنتعرض إلى بعض منها في أثناء حديثنا، «وَكانَ متَّكئًا فجلسَ فقالَ: ألا وقولُ الزُّورِ وشَهادةُ الزُّورِ» ألا وقول الزور: أي القول الباطل والشهادة في الزور.

فالنبي –صلى الله عليه وسلم-بين عظيم منزلة العقوق في الذنوب والخطايا بأنها أكبر الكبائر، وأعظم الذنوب خطورة، وبها يدرك الإنسان شرًّا عظيمًا في معاشه ومعاده، وفي دنياه وفي آخراه، فلذلك يتبين من مجموع هذه النصوص كما ذكرنا نُبذ في مساق ذكر الفضائل لبر الوالدين وخطورة العقوق، إنما نبذ تبين عظيمَ منزلة هذا العمل وهو بر الوالدين، وأنه في الذروة من الأعمال الصالحة، وأن الإنسان ببرِّه لوالديه يتقرب إلى الله –عز وجل-، فهو يتعامل مع الله –عز وجل-في تحقيق هذه العبادة، وهذه الطاعة، وهذه الخصلة من خصال أهل الإيمان.

 نسأل الله أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، والقيام بحقوق خلقه.

المقدم: كما سمعتم أيها الأحبة من حديث شيخنا وضيفنا العزيز يعني الله –سبحانه وتعالى-ورسوله الكريم عظَّموا أمرَ بر الوالدين، ففي البر قرنه الله –سبحانه وتعالى-بطاعته، وهو ثاني أمر بعد طاعة الله –سبحانه وتعالى-، ثم يأتي في المقابل أيها الأحبة عقوق الوالدين يأتي أيضًا في المرتبة الثانية في معصية الله –سبحانه وتعالى-يدل ذلك أيها الأحبة كما فهمنا من ضيفنا العزيز أن أمر بر الوالدين أمر عظيم يجب الاهتمام به من قبل كلِّ إنسان مسلم، وخاصة من كان قد غفل عن هذا الأمر عليه أن يعود سريعًا إليه.

شيخ خالد! تتجلَّى صور بر الوالدين في الإسلام بالعديد من الأمور التي يمكن للمرء أن يكسب بها ودَّ ورضا والديه، فكيف يمكن كسبُ هذا التوفيق الرباني؟ كيف يكون برُّ الوالدين سبيلًا ممكنًا للتحقيق فعلًا؟ ما هي الصور التي يستطيع الإنسان من خلالها أن يكون بارًّا بوالديه؟ 

الشيخ: بر الوالدين في الأصل هو الإحسان إليهما، وذلك أن كلمة البر هي نوع من المعاني الواسعة، فالبر مأخوذ من البَّر وهو السعة،فمعنى بر الوالدين معاملتهما بكل ما يحصل به التوسيع عليهما، وقرارة نفوسهما، وقرة عينهما بكل أوجه البر.

ولذلك بر الوالدين لم يأت في الشرع ذكر لأعمال مفصلة تشمل كلَّ ما يكون من أوجه البر، بل أوجه البر التي ندب إليها الشرع لا تقتصر على صورة، ولا تنحصر في نموذج معين لا تتجاوزه، فصور البر عديدة، وأنماطه كثيرة والنصوص جاءت بالحث والتوجيه العام لبر الوالد.

المقدم: لعلنا نأتي على أبرزها يعني.

الشيخ: نعم، في الجملة بر الوالدين هو الإحسان إليهما، وذلك يتحقق من أمور عديدة، من ذلك أداء ما يكون من حقهما في حسن المعاملة، فمن حق الوالد على ولده أن يحسن إليه بكل ما يكون مما يتحقق به حسن الصحبة، ولهذا النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-عندما سئل سأله رجل فقال:« يا رسول الله مَن أَحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي؟» يعني بحسن المعاملة، وجميل المعاشرة، وكريم الخصال من أحقُّ الناس بذلك؟ «قالَ: أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ»[صحيح البخاري:ح5971] كررها عليه –صلى الله عليه وسلم-ثلاث «قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أَبُوكَ»، وهذا يبين أن حق الوالدين في البر مؤكَّد، وهو أن يكون الإنسان حسنًا في مصاحبته.

 حسن الصحبة مفهوم عام، يفصِّله أن تسعى في إيصال كل خير إلى أبويك، وأن تكف عنهما كلَّ أذى يكرهانه في مقال، أو في معاملة، في حضور أو في غياب، في محيا أو في ممات، تكفُّ عن والديك كلَّ ما يمكن أن يكون من أسباب المكروه، فإن ذلك مما يتحقق به بر والديك.

فبالتالي عندنا أمور واجبة وأمور مستحبة في بر الوالد، الأدنى هو الواجب، وهو أن تبعد عن قطيعتهما، أي أن تبعد عن قطع ما لهما من الحق بالإحسان، وهذا يختلف باختلاف أحوال الناس، فمما يتعلق بطيب القول إياك أن يصدر منك قول قبيح تجاه والديك، والمطلوب هو الحسن.

ولذلك قال الله تعالى: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا[الإسراء: 23]،فلابد من طيب المقال، بكل ما يكون من المقال الحسن، والمقال الطيب، والكلام الجميل، وانكفاء ما يمكن أن يوصل إليهما تضجرًا، أو تأففًا، أو تكرهًا لما يكون منهما، وهذا لا يعني ألا ينصح الولد والده، فإن النصيحة حق لكل مسلم، وأحق من ينصح من له صلة قرابة، ولكن ينبغي أن يسلك في ذلك ما يكون محققًا للمقصود من التوجيه دون ما يمكن أن يكون من لفظ جارح، أو كلام قبيح، أو ما يمكن أن يكون شاقًّا عليهما.

ولهذا ينبغي أن يتحرى الإنسان في كلامه لوالده ووالدته، أن يتحرى الكلام، وأن يزنه، أن يتحرى الكلمات والألفاظ ويزنها بالميزان الذي ذكره الله تعالى ﴿فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا[الإسراء: 24]، فالمطلوب فيما يكون من قولك لوالديك سواء كان ذلك في سائر الأحوال، أو في أحوال التوجيه والنصح، أو في أحوال ما قد يكون قد يحتاج إلى أن يوضح الأمر، إما بمدافعة عن نفسه، أو أن يكون القول كريمًا، وهذا يوجب على الإنسان أن يحتاط، وأن يستشعر أنه إنما يتحدث مع والده.

وهنا ثمة ما يمكن أن يبرز في مثل هذا المقام، أحدهم يقول: إن والدي قد يكون مقصرًا، إن والدي قد يكون عنده ملاحظات رئيسة في سلوكه أو في معاشه، هل هذا يَنْقُص حقَّه؟ هذا ما سنتحدث عنه في موانع بعد قليل فيما يتعلق في موانع البر، يعني عوائق البر، العوائق التي تعوق الناس على البر، لكن في الجملة الذي ينبغي أن يكون في البر هو القول الجميل.

بعد ذلك القول الجميل أيضًا ينعطف عليه المعاملة الحسنة، بالإكرام والتبجيل والتقديم، وهذا يختلف باختلاف البلدان، ولهذا عندما ذكر بعضهم من الكلام الذي أشار فيه إلى بر والده، ذكر أنه من بره لولده أنه لا يتقدم بين يديه إذا مشى نهارًا، وأنه في سيره معه في الليل يكون خلفه، هذا التنوع هو مما يقتضيه الحال، مما تقتضيه المصلحة، فبذل الإحسان في المعاملة يختلف باختلاف الأحوال، ويختلف باختلاف الزمان، ويختلف باختلاف الأعراف، فما كان عرفًا أنه تقدير وتبجيل وإكرام ينبغي أن يعامل به الوالد.

 على سبيل المثال يعني من صفات البر المنقولة، نقلٌ لعلي بن الحسين -رضي الله تعالى عنه ورحمه- قيل له: " إنك من أبر الناس بأمك ولسنا نراك تأكل مع أمك في صحفةٍ؟ " في حين أنه أحيانًا الوالدة إنما تسرُّ الأكل، فإذا كان الوالدة لا تطمئن ولا تُسرُّ إلا بأكلك بين يديها فكل؛ فإنها تأكل وتقر عينها بذلك، لكن علي بن الحسين لما قيل له: " إنك من أبر الناس بأمك ولسنا نراك تأكل مع أمك في صحفةٍ،" ماذا قال في جوابه على أنه يمتنع من الأكل معها" قال: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت عينها إليه فأكون قد عققتها".[الكامل في اللغة والأدب:1/191]

انظر الميزان الدقيق الذي يستشعره الإنسان، ويكون أحيانًا من أوجه البر الخفية.

المقدم: يعني فهمٌ بعيد لا يتبادر إلى أذهان كثير من الناس اليوم، ربما يفسرونه تفسيرًا خاطئًا :هذا لا يأكل مع أمه لأنه يستنكف ربما، لكن سبحان الله كيف كان؟

الشيخ: ولذلك البر له أوجه مختلفة، قيل لعمر بن ذرٍّ لما مات ابنه كيف برُه بك؟ يسألون عمر عن بر ولده به قال: "ما مشيت قط بنهار إلا مشى خلفي" لأنه في النهار لا يحتاج أن يتقدم بين يديه "ولا بليل إلا مشى أمامي، ولا رقى سطحا أنا تحته"[الكامل في اللغة والأدب:1/191] هذا النوع من أنواع البر دقيق، يعني كونه وهو يوصل الفكرة التي ذكرتها قبل قليل أن البر يختلف باختلاف الأحوال، يختلف باختلاف الزمان، يختلف باختلاف الشخص، يختلف باختلاف القدرات التي تكون عند الإنسان، لكن من سكن في نفسه حرصه على بر والده فإنه لن يعجز أن يصل إلى ذلك البر بكل الطرق، ولذلك لما سئل الحسن عن بر الوالدين قال: كيف يكون؟ قال: "أن تبذل لهما ما ملكت"، وهذا يختلف باختلاف الناس فيما يملكون "وتطيعهما فيما أمراك، ما لم يكن معصية"[أخرجه عبد الرزاق في مصنفه:ح9288]، وهذا بيان ركنين من أركان البر هما البذل والإحسان، القولي والمالي والعملي، وانقياد النفس لما يرغبانه ما لم يكن في ذلك معصية، ولهذا ينبغي للإنسان أن يستذكر هذا المعنى في البر، وأن البر لا ينحصر في صورة، وأن البر قد يختلف في الزمان والمكان، ومن سكن في نفسه وعمر فؤاده بحرصه على بر أبويه فلن يعدم من ذلك سبيلًا ولا طريقًا.

ثم هنا مسألة وهي مهمة: أن البر لا يقتصر على الحياة.

المقدم: نعم، هذا ما كنت أودُّ أن أسألك عنه يا دكتور خالد، كيف يمكن بر الوالدين بعد موتهما؟ وخاصة لبعض الناس الذين لم يكونوا يقظين لهذا الفضل العظيم خلال حياتهما، وإنما أدركا تلك الأهمية وأهمية بر الوالدين بعد أن غادر والداه الحياة إلى الدار الآخرة، كيف يمكن أن يتدارك هذا الأمر؟ وهل هناك برٌّ فعلا يستطيع أن يعوض به الإنسان ما قصَّر فيه في حياتهما؟

الشيخ: نعم، وهذا سؤال أجاب عنه النبي –صلى الله عليه وسلم-، ففي سنن أبي داود من حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما نحن عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم-إذ جاء رجل من بني سلمة، بطن من بطون الأنصار، قبائل من قبائل الأنصار، فقال يا رسول الله: هل بقي من برِّ أبويَّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ هذا اجتهد في برٍّ أو قصر في بر، المهم أنه رجل سأل النبي –صلى الله عليه وسلم-عن بر أبويه بعد موتهما، هل في بقية برٌّ بعد الموت؟ أم أن البر يقتصر فقط على الإحسان، وكف الأذى، وما إلى ذلك مما يكون في حياة الإنسان؟ وإذا ولَّى والده ومضى عمرهما إلى فضل الله ورحمته تعالى انقطع البر، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-في جواب هذا السائل يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما؟ قال: «نعم»، يعني بقي ولم ينته الأمر، ثم عد النبي –صلى الله عليه وسلم- خمسة أعمال كلها من أوجه البر للوالد بعد الموت قال:« الصلاة عليهما» الصلاة المقصود: الدعاء لهما، ومنه الصلاة على جنازتهما إذا ماتا، هذا من بر الإنسان بوالديه «الصلاة عليهما».

قال: «والاستغفار لهما»، فالصلاة بمعنى الدعاء، ثم قال: «والاستغفار لهما»، وهذا تخصيص نوع من الدعاء ينبغي الحرص عليه والإكثار منه، وهو الدعاء لهما بالمغفرة، ما أحوج الإنسانَ إلى هذا المعنى، وهو أن يسأل الله لنفسه المغفرة، ولأمواته المغفرة، فإنه من أعظم ما يقوم به الإنسان تجاه موتاه أن يُلحَّ على الله تعالى بسؤال المغفرة له، فإذا كان لك والد قد ولَّى، أو والدة قد ماتت فاجتهد في الاستغفار لهما، فهو أعلى ما يكون من أوجه الدعاء.

إذًا الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وهذان المعنيان هما مما يبقى من عمل الإنسان بعد موته، ولذلك في حديث أبي هريرة في الصحيح أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: « إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ »[صحيح مسلم:ح1631/14]، فمن آكد ما يحصل به برُّ والدك بعد موتك هو الدعاء، والنبي –صلى الله عليه وسلم-قدم هذا العمل في أوجه بر الوالد بعد الموت، ونص عليه في حديث انقطاع الأعمال؛ لأنه لا يعجز عنه إلا مفرط، فإنه لا يعجز أحد أن يدعو لوالده، ليس ثمة ما يمنعك من أن تدعو لوالديك في صلاتك، وفي مواطن الإجابة، وأنت قائم وقاعد، وفي كل أحوالك.

فالدعاء ليس له حدٌّ، ولا له توقيت، هو في العمر كله، وفي الآناء كلها، والله –عز وجل-يقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ[البقرة: 186]، فلا يعجز عن الدعاء لوالديه أحد، وما كان برًّا لهما بعد موتهما، فهو من برهما في حياتهما، فهذا أيضًا من أوجه البر في الحياة أن تدعو لوالديك، وأن تكثر لهما سؤال الله –عز وجل- الخير في دنياهما وبعد موتهما.

الثالث من الأعمال التي ذكرها النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «وإِنْفاذُ عهدِهما من بعدهما» إنفاذ عهدهما يعني: العمل بوصيتهما إذا أوصيا، وهنا تنبيه لكثير من الناس الذين يرون أن الوصية هامشية، وأنها أمر خياريٌّ إن شئت أن تفعله، وإن شئت ألا تفعله، الوصايا من حقوق الموتى، فإن الإنسان إذا مات وأوصى فإنه يجب على من بعده أن ينفذ وصيته، شيء واجب لازم من غير تقصير.

ولذلك الله تعالى عندما ذكر في المواريث ما ذكر قال: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ[النساء: 12] أيهما أحق الوصية أو الدين؟

الوصية هي التبرع بعد الموت، والدين حقٌّ ثابت في ذمة الإنسان في معاشه وبعد موته إذا كان قد ترك شيئًا أيهما أولى في التقديم في الذكر؟ الأولى: الدين؛ لأن الدين حق واجب، والوصية تبرع لكن الآية الكريمة ماذا قدَّمت؟ ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ[النساء: 12]، السبب أن الوصية محلُّ تسليط وإضاعة من كثير من الناس؛ لأنها تبرع، خلاص مات ونحن بالخيار إن شئنا أمضينا تبرعه، وإن شئنا ألا نمضي، الجواب: أنه حق واجب في المال قدم الله ذكره لأهميته، فإذا أوصى الإنسان بشيء يجب إنفاذ وصيته في القَدْر الذي أذن الله تعالى به، وهو الثلث من ماله، وألا يُفرَّط في شيء من ذلك، فإن إضاعته من إضاعة الحقوق.

ولهذا النبي –صلى الله عليه وسلم-يقول في بيان ما يكون من بر الوالد بعد موته قال: «وإنفاذ عهدهما من بعد موتهما».

 هذا ثالث ما أوصي به النبي من البر بعد موت الوالد، أب أو أم، سواء كان أبًا أو أمًّا، قال: «وصلة الرحم التي لا توصَل إلا بهما» هذا رابع الأعمال.

صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما يعني التي كان سببًا في قيامهم من جهة أعمامك، إخوان والدك، قرابات والدك، قرابات والدتك، قرابات أبيك، قرابات أمك، هؤلاء صلتهم من برك من والدك، وهو باب من أبواب البر في الحياة وفي الموت، يتأكد أن الإنسان قد يبر قراباتك من جهة أبيه أو من جهة أمه في حياتهما إكرامًا لوالده، لكن إذا مات فإن كثيرًا من الناس يعني يقصر، وتأتيه العوارض، ويغفل ويكون السبب الموجِب للبر يعني قد غاب وهو الوالد أو الوالدة الأب والأم، فيغفل.

فلذلك من بر والديك أن تصل الرحم التي لا توصل إلا بهما.

الخامس من الأعمال قال –صلى الله عليه وسلم-: «وإكرامُ صديقهما»[سنن أبي داود:ح5142، وصححه ابن حبان:ح418]، الإكرام هو نوع من الإحسان للوالد، والنبي –صلى الله عليه وسلم-لم يقصر ذلك على وجه، بل يكون الإكرام بالسلام، يكون الإكرام بالزيارة، يكون الإكرام بالمال، يكون الإكرام بكل وجه من أوجه البر، ولذلك النبي –صلى الله عليه وسلم-لما قالت له إحدى زوجاته إنها قد أعتقت رقيقًا لها قال: «أَمَا إِنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ»[صحيح البخاري:ح2592]، فأوصاها النبي –صلى الله عليه وسلم- أن تبر أخوالها، أخوال أمها وأخوات أمها لما في ذلك من صلة الرحم التي يحصل بها من الأجر والخير ما يحصل به لمن رغب في البر والإحسان.

هذا من أوجه الصلة التي تكون للإنسان،صلته وبره لوالديه بعد موتهما، ووصية النبي –صلى الله عليه وسلم-في هذا واضحة وجلية، وقد أخذ بها الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهذا ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- في بره لأبيه أنه أعطى رجلًا من المال والإكرام ما هو زائد على المعتاد، فقيل له في ذلك؟ فقال: "إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ "[صحيح مسلم:ح2552/11]، يعني كان صديقًا لعمر -رضي الله تعالى عنه- فهو أكرم ابنَ صديق والده لبره بأبيه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.

المقدم: نعم دكتور خالد بارك الله فيك، طبعًا هذا الأمر وهذه القضية قضية بر الوالدين هذه من أعظم القضايا التي اهتم بها الإسلام كما استمعنا منك حفظك الله، والتي يجب على الإنسان أن يهتم بها اهتمامًا كبيرًا، سواء كان والداه أحياء أو قد غادرا هذه الحياة، فالأمر -والحمد لله- متاح للإنسان أن يبر والديه حتى بعد موتهما كما فهمنا منك رعاك الله.

 هناك عواقب أو عوائق وعقبات ربما تصد الإنسان أو تصد بعض الأبناء عن مواصلة بر الوالدين وخاصة حينما تكون تلك العوائق تنشأ من الآباء أنفسهم، ربما بعض الآباء يعني لا يحسنوا التربية منذ الصغر، وتكون تربيته فيها نوع من القسوة والغلظة على الأبناء، تؤدي بهم إلى النفور، وإلى ربما الكراهية وإلى البعد عن والديهما في هذه الحياة، ما هو السبيل أو ما هي نصيحتك للآباء أولًا وللأبناء حينما يتعرضون لمثل هذه العقبات التي قد تصد عن بر الوالدين؟ وهل هناك أيضًا عوائق أخرى ربما تصد الإنسان عن بر والديه غير ما ذكرته أنا؟

الشيخ: هو أخي الكريم فيما يتعلق بوجود العوائق، العوائق لا شك أنها متنوعة ومتعددة والإنسان مأمور بأن يجاهد نفسه في اجتياز هذه العقبات التي من خلالها يحقق رضا الله –عز وجل-، ويقوم بما أمر الله تعالى به.

النبي –صلى الله عليه وسلم-عندما جاءه الرجل يستأذنه في الجهاد قال:« ألك والدان؟» قال: نعم قال: «ففيهما فجاهد»[تقدم] وهذا يعني أن بر الوالد من العمل الذي يحتاج إلى مجاهدة، يحتاج إلى مثابرة، يحتاج إلى بذل فليس كل برٍّ مما يتوافق مع هوى الإنسان، لاسيما وأن البر عملية متواصلة ومستمرة وليست عملًا يؤديه في لحظة وينتهي ويكون قد فرغ منه، يعني العناء الذي يكون للإنسان حال حجِّه على سبيل المثال هو مؤقت بوقت، يحجُّ ويتعب، ويجافي بلده، ويخرج عن مألوفه بمطعمه، أيام محدودة ينقضي العمل وينتهي الأمر، لكن ما يتعلق ببر الوالد عملية مستمرة وليست مؤقتة في زمن أو محدودة بعمل محدد في أيام معدودات، أو في ظرف مقيد ببداية ونهاية، بل هو مستمر حتى بعد الموت.

ولذلك كان اللفظ النبوي مبينًا لهذا المعني، وأنه يحتاج إلى مثابرة وإلى بذل، قال: «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد» أي: ابذل غاية وسعك في تحقيق المطلوب من بر والديك والإحسان إليهما.

من العوائق ما يكون من جهة من جهة الوالدين إما أن يكونا قد قصرا في تربية أولادهما، أو يكونا قد أخلَّا بما يجب عليهما من حقوق أولادهما وما أشبه ذلك مما يكون من أوجه الإساءة، لكن هل هذا يبرر؟

أولًا: أقول للآباء والأمهات: اتقوا الله، وأعينوا أولادكم على بركم، فليس كل ولد من ذكر أو أنثي من ابن أو بنت يعي أهميةَ هذه العبادة وهذه القضية، فلا تكونوا شقاء على أولادكم بما يكتسبناه من الوزر، وذلك بسلوك كل الطرق الممكنة التي يتحقق بها ما تؤمِّلان من بر أولادكما، فأعينوا أولادكم على هذا.

في المقابل الأولاد ذكورًا وإناثًا، أبناء وبنات، صغار وكبار اتقوا الله في حق والديكم؛ فإن الله –عز وجل-ذكر في محكم كتابه أعلى صورة من صور إساءة الوالد إلى ولده، أن يدعوه إلى النار، أن يقوده إلى الجحيم، فماذا كان من قول الله –عز وجل-في محكم الكتاب؟ قال: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا[لقمان: 15]، يعني إن بذلا كل طاقة ووسع في أن يصرفاك عن الخير لا تطعهما، المقابل لإساءة الوالد التي بلغت هذا الحد، لا تطعمها، لكن هل هذا يسقط حقهما؟ قال تعالى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا[لقمان: 15]، ولك أن تنظر إلى ما ذكر سعد -رضي الله تعالى عنه- قال: "كنت بارًّا بأمي، فأسلمت فقالت: لتدعن دينك أو لا آكل ولا أشرب شرابًا حتى أموت فتُعيَّر بي" يعني يعيره الناس بأمه ويقال: يا قاتل أُمِّه، وبقيت يومًا ويومًا فقلت: يا أمَّاه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسا ما تركت ديني هذا، ﴿فَلا تُطِعْهُمَا﴾هنا، فإن شئتِ فكلي وإن شئتِ فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت" لما رأت إصراره وثباته على ما هو عليه أكلت، لكن انظر إلى تلطفه قال: "يا أماه" بصورة التلطف والشفقة عليها في بيان وهذا الأمر، لا أستطيع أن أمتثل ما ترغبين فيه لوجود مانع، وهو أن هذا يتعلق بحق الله، وليس ثمة حق أعلى من حق الله ﴿فَلا تُطِعْهُمَا﴾، وهو الذي أمرك بطاعة والديك نهاك عن طاعتهما في هذا الأمر.

لهذا أقول: مهما كان الأب والأم على حال من السوء والشر هذا لا يعني أن يقطع الإنسان والديه، ولا يبرر له عقوق والديه، له أن يمتنع عما يكون من الشر الذي يطلبناه منه، لكن ليس له أن يسيء إليهما، وأن يخرج عن صحبتهما بالمعروف، بل الله –عز وجل-أمر بالصحبة بالمعروف، والآباء والأمهات قد يصدر منهما ما يكون سببًا لنفرة الولد، إما بالتدخل في شئون حياته الخاصة التي تتعلق بدراسته، أو تتعلق بعمله، أو تتعلق بأسرته وزوجته، سواء كان ذلك في ابتداء الزواج بفرض امرأة معينة، أو بفرض رجل معين، أو كان ذلك بعد الزواج باختلاق المشاكل، أو المطالبة بالطلاق، أو التدخل في إدارة شئون الحياة وما أشبه ذلك، ينبغي للأبناء والبنات طبعا، الوالد يجب عليه أن يتقي الله –عز وجل-، نحن نتكلم الآن في جانب ما ينبغي أن نتصرف فيه فيما لو وقع، ينبغي أن نحسن، وأن نبعد عن الظلم، فلا يجوز لنا أن نظلم أحدًا لإرضاء والدينا ﴿فَلا تُطِعْهُمَا﴾، لكن في المقابل ينبغي ألا نسقط حقهما في الإحسان، يتلطف الإنسان ويصبر، ومن صبر يا أخي الكريم أيها الأخ والأخت الكرام المستمعون! من صبر ظفر، ومن علم الله منه صدق الرغبة في البر سهل الله له الصعاب، ويسر له السبيل للإدراك، ومما يدل على هذا قول الله –عز وجل-بعد آيته بعد الأمر بالبر ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا *وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[الإسراء: 22-23] الدعاء، ثم قال: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا[الإسراء: 24]، فإن علم الله من العبد من نفسه صدقَه في حرصه على بر والديه، فإن الله يغفر له ما يكون من تقصير، يعينه على بلوغ ما يؤمِّل من بر والديه، يتحقق له بذلك خير الدنيا والآخرة.

المهم أنه ينبغي أن نستصحب الصبر، وأن نعلم أننا في بر والدينا في جهاد نحتاج إلى أن نراجع أنفسنا، راجع نفسك في صلتك مع أبيك مع أمك حيًّا كان أو ميتًا، سدَّ الخلل، قوِّم الخطأ، كمِّل النقص، زد من الخير، بادر إلى كل بر، واسع لله، واعلم أن الأجر من الله.

وبالتالي ستدرك ذلك ثوابًا وأجرًا في الآخرة، وتدرك ذلك في الدنيا بتوفيق وتيسير وإعانة على خيرات وذرية صالحة تقر بها عينك.

المقدم: بارك الله فيك شيخنا العزيز، وأحسن إليك، هذا الموضوع موضوع كبير جدًّا، ولا نستطيع في هذه الحلقة أن نأتي على كل جوانبه، ولكننا -ولله الحمد- استمعنا منك إلى مجمل القول فيه، ومجمل الأمور التي يجب أن يهتم بها الإنسان لجهة بره بوالديه، كيف يمكن أن يتحقق ذلك منه، وأيضًا رأينا أو سمعنا منك ما هي الأمور التي ربما تعيق الأبناء وتقف في وجوههم، ربما تصدهم عن بر والديهم، لعلنا إن شاء الله تعالى أن نكون فهمنا من هذه الحلقة ما يفيدنا أيها الإخوة والأخوات، وندعو الله –سبحانه وتعالى-أن نكون نحن وأنتم من الذين وفقوا لبر والديهم في حياتهم وبعد مماتهم.

دكتور خالدَ نشكرك على حسن أدائك في هذه الحلقة، ونرجوا الله –سبحانه وتعالى-أن يثيبك، وأن يجعل ما تقدمه دائمًا وأبدًا في ميزان حسناتك، وأن يوفقك لكل خير، ونلقاك -بإذن الله تعالى- في حلقة الأسبوع القادم وأنت بخير وصحة وعافية.

الشيخ: آمين، وأنتم كذلك، وأسأل الله لي ولكم الإعانة على الطاعات، وأوصيكم بالدعاء أن تدعوا الله أن يوفقكم إلى بر والديكم، وإلى كل بر وخير، وأن يوفق ولاة أمرنا إلى ما فيه خير العباد والبلاد، وأن يدفع عنا كلَّ سوء وشر، وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

 

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : الخوف من الله تعالى ( عدد المشاهدات42312 )
3. خطبة : الحسد ( عدد المشاهدات29101 )
4. خطبة: يوم الجمعة سيد الأيام ( عدد المشاهدات23931 )
5. خطبة : الأعمال بالخواتيم ( عدد المشاهدات21938 )
6. حكم الإيجار المنتهي بالتمليك ( عدد المشاهدات20489 )
7. خطبة : احرص على ما ينفعك ( عدد المشاهدات19918 )
8. خطبة : الخلاف شر ( عدد المشاهدات15446 )
9. خطبة: يا ليتنا أطعناه ( عدد المشاهدات12066 )
10. خطبة : يتقارب الزمان ( عدد المشاهدات12036 )
11. خطبة : بماذا تتقي النار. ( عدد المشاهدات10765 )
12. خطبة: أثر الربا ( عدد المشاهدات10618 )
14. خطبة : أحوال المحتضرين ( عدد المشاهدات10382 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف