×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / دروس المصلح / العقيدة / رسالة العبودية / الدرس(1) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:2253

الدرس(1) من شرح رسالة العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية للشيخ أد خالد المصلح

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين.

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرور أنفْسِنَا، ومِنْ سَيئاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ َأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أما بعد:

(فقد سئل شيخ الإسلام وعلم الأعلام، ناصر السنة، وقامع البدعة، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية -رحمه الله- عن قوله -عز وجل-: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ[سورة: البقرة (21)] فما العبادة؟ وما فروعها؟ وهل مجموع الدين داخل فيها أم لا؟ وما حقيقة العبودية؟ وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والآخرة، أم فوقها شيء من المقامات؟ وليَبْسُط لنا القول في ذلك. فأجاب رحمه الله)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلّي وأسلّم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فهذا السؤال الذي سمعتموه، هو موضوع هذه الرسالة المباركة؛ وهو حول معنى العبودية التي أمر الله -جل وعلا- بها الناسَ أجمعين في قوله ـ تعالى  ـ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ[سورة: البقرة (21)] وهذه الآية هي أوّل آية توجَّه فيها الأمرُ من الله -جل وعلا- لعموم الناس. فإنها أوّل أوامر القرآن، وهذه الآية الأمر فيها بالتوحيد، وهذا يدلّ على أهمية تحقيق التوحيد ؛ حيث إنّه أول ما أمر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به الناسَ أجمعين؛ فلم يخصَّ به فئة من الناس، ولم يخصَّ به أهل الإيمان، بل جعل الخطاب فيـه لعموم الناس: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾.

فالسؤال المُتَوَجِّه:(ما العبادة؟ وما فروعها؟ وهل مجموع الدِّين داخل فيها أم لا؟ وما حقيقة العبودية؟ وهل هي أعلى المقامات في الدنيا والآخرة، أم فوقها شيء من المقامات؟)، ثم قال السائل: (وليَبْسُط لنا القول في ذلك)أي المسؤول وهو شيخ الإسلام أحمد بن عبـد الحليم بن تيمية -رحمه الله- وهو من أعظم المجدِّدين لهذا الدين، وممن نصر اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- به كتابه وسـنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

والرسالة قيّمة نافعة في موضوعها، فهي من أجود ما كُتب في تحقيق العبودية، وفي بيان معناها ؛ ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يعتني بها، وأن يحرص على فهمها ؛ لأنها تمثّل الأصول والقواعد.

وشيخ الإسلام-رحمه الله- إمام بارع في تأصيل الأصول، وضبط القواعد، فإنه تكاد تقول: إنه لا نظير له في هذا الباب، حيث إنه -رحمه الله- يستقرئ، صاحب تتبع ونظر، وتأمل في كلام المتقدمين، ونظر في الكتاب والسنة قبل ذلك، يقف على معانٍ قلَّ أن تجدها في كلام غيره رحمه الله.

ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يعتني بمؤلفاته عموماً، وبهذه الرسالة التي نحن بصددها؛ لما تُمَثِّله من بيانٍ وتجلية لأهم مقصودٍ ومطلوب منه أو لأجله خلق الله -جل وعلا- الجن والإنس: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[سورة : الذاريات (56)]

فهذه الرسالة تبيِّن العبادة التي خلق الله -جل وعلا- الإنس والجن لها، وتبيّن كيفية تحقيق ذلك، ما يدخل فيها وما لا يدخل.

فالعناية بها مما ينبغي لطالب العلم أن يشتغل به، وأن يوليه اهتماماً ؛ حتى يحصِّل خيرًا. على أن كلام شيخ الإسلام -رحمه الله- قد يتيه فيه بعض المبتدئين، الذين لا يفرِّقون بين الأصل والاستطراد، والشيخ -رحمه الله- صاحب استطراد وتوسُّع في بعض المعاني التي تَعْرِض له، حتى قد يُخرجه ذلك عن مقصوده، وعن مؤلَّفه، وعمّا يكتب فيه، فإذا ضبط الطالب محالّ الاستطراد وميَّزها عن المقصود والأصل؛ تبيّن له زبدة ما يريد الشيخ -رحمه الله- بيانه وتوضيحه في الموضوع الذي يكتب فيه.

وسننبه -إن شاء الله تعالى- إنْ جرى مثل هذا في هذه الرسالة ننبه عليه بإذن الله تعالى.

(فأجاب -رحمه الله-: العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه اللهُ ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة).

هذا هو تعريف العبادة: (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) وهذا تعريف متوسّط، ليس بالطويل ولا بالقصير.

فمن التعاريف القصيرة المختصرة للعبادة، هو قول شيخ الإسلام -رحمه الله- في تعريفها: (العبادة ما أمر الله به ورسوله). يشمل هذا ما أمر به على وجه الإيجاب، وما أمر به على وجه الاستحباب. كل هذا داخل في العبادة التي أمر الله بها في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ[سورة : البقرة (21)]

وهذا التعريف متوسط يفصِّله شيخ الإسلام -رحمه الله- في بعض المواضع ويقول: هي اسم جامع لكل ما يحب الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، الواجبة والمستحبة.

 حتى لا يتوهم متوهِّم أن العبادة هي فقط مقصورة على الواجبات؛ فالعبادة تكون في الواجبات وفي المستحبات.

 طيب، قوله -رحمه الله-: (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه) خرج به ما لا يحبه الله ولا يرضاه، مما يجري من أمره القدري الكوني، فإنه ليس من العبادة؛ بل لابد في العبادة أن يتحقّق فيها وصف المحبة والرضا من الله جل وعلا.

وهذه العبادة، هل هي قول أو عمل؟ الجواب في قوله: (من الأقوال والأعمال) يشمل كل قول، ويشمل كل عمل.

والقول هنا يصدق على قول اللسان وهو المتبادر: فالتسبيح، والتحميد، والذِّكر، وقراءة القرآن، وتعلم العلم، وحفظ المتون، ودراسة الكتب وقراءتها وتعليمها، ودعوة الناس إلى البر، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر... كل هذا من العبادات القولية، كلّها من العبادات القولية التي تدخل في قوله : (من الأقوال).

(والأعمال) يشمل كلَّ ما يكون في الجوارح الظاهرة والباطنة، ولذلك قال: (والأعمال الباطنة والظاهرة)؛ لأن العمل منه ما هو ظاهر، ومنه ما هو باطن:

عمل الظاهر: كالصلاة والصيام والحج، وسيمثِّل له الشيخ رحمه الله.

عمل الباطن: ما يقوم في القلب من المحبة، والخشية، والخوف، والإنابة، والإخبات والرجاء، والتوكل، كل هذه الأمور من أعمال القلوب.

واعلم أنه من حيث مراتب العمل، أن جنس عمل القلب أعلى وأعظم عند الله -عز وجل- من جنس عمل الجوارح؛ ولذلك كان الأصل في القَبول والرد على ما يقوم في القلب. فلو أتت الجوارح والأعمال الظاهرة موافقة للإسلام، لكن القلب خالٍ من ذلك؛ لم ينتفع صاحب هذا العمل بشيء، بل هو مردود عليه: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ[سورة: النساء (145)]، كما قال الله -جل وعلا- في بيان حال من استقامت ظواهرهم وخَرِبَتبواطنُهم.

فالأصل في العمل هو عمل القلب، وأما عمل الجوارح فهو مكمِّل تابع، وقولنا :(مكمِّل) ليس معناه أنه ليس بمهم أو لا يقدح في الأصل؛ بل لا يمكن أن يستقيم الباطن ويتخلّف الظاهر إلا إذا وُجِدَ مانع، أمّا إذا لم توجد موانع فلا بد أن يستجيب الظاهر لما قام في الباطن من صلاح واستقامة وتقوى وإيمان.

إذاً تعريف العبادة (هي: اسم جامع لكل ما يحبه اللهُ ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة) الباطنة أعمال القلوب، والظاهرة أعمال الجوارح. الباطنة ما خفي، والظاهرة ما يقع عليه نظر الناس في العادة.

مثَّل الشيخ -رحمه الله- لأنواعِ العبادة، فقال:

(فالصلاة، والزكاة، والصّيام، والحج، وصِدْق الحديث، وأداء الأمانة، وبِرّ الوالدين، وصِلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار، واليتيم، والمسكين، وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاءُ والذِّكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة).

هذا تمثيل لأعمال الظاهر، كل هذه من أعمال الظواهر؛ لأنها تقع عليها أعين الناس، ويشتغل بها البدن، فهي مما يظهر عادة.

ولا تَقُلْ: الصيام لا تدركه الأبصار، الجواب: نعم؛ لكن يظهر أثره على الإنسان، ويُخبِر به الإنسان فيما إذا شاجره أحد؛ فإنه يقول: إني صائم. وفي رمضان، يظهر الصيام على أهل الإسلام، فهو من الأعمال الظاهرة، وإن كان في الحقيقة أمرًا قد يخفى، بل هو خافٍ. فقد يصوم الإنسان ولا يُدْرى به لكن هذا لا من حيث العمل، إنما من حيث إخفاء الإنسان لعمله، كما لو أنه كان يقيم الليل ولا يُعلِم أحداً بذلك، يقيم الليل في حجرة مغلقة. هذا من الأعمال الظاهرة وإن كان الإنسان مختفياً به، مُسِرّاً به.

طيب هذا القسم الأول من الأعمال، وهو العمل الظاهر والأقوال الظاهرة أيضاً.

(وكذلك حبُّ الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدِّين له، والصبر لحُكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي منَ العبادة لله).

وهذا مثالٌ للأعمال الباطنة، فهذه كلها من أعمال القلوب. وهي أعمال جليلة إذا اعتنى بها الإنسان، حصَّل سعادة الدَّارَين؛ لأنّ أعمال القلوب يحصل بها السّبق، ولو تخلَّف عمل الظاهر.

فكثير من الناس يعتني بعمل الظاهر، ويتخلّف عنده عمل الباطن، فمهما كثر عمله تجده متأخراً عن غيره، بخلاف من اعتنى بباطنه واهتم بإصلاحه، فإنه يسبق ولو تخلّف الظاهر.

يشهد لذلك ما رواه في الصحيح عن جابر -رَضِيَ اللهُ عنْهُ- قال: لما رجعنا من تبوك قـال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إن أقواماً بالمدينة ما سِرْتُم مسيراً، ولا نزلتم منزلاً، ولا قطعتم وادياً إلا شركوكم في الأجر»[صحيح البخاري(4423)، ومسلم(1911)] قال الصحابة -رَضِيَ اللهُ عنْهُم-: وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال: «نعم، حبسهم العذر» وفي رواية «حبسهم المرض»[صحيح الإمام مسلم(1911)] فهؤلاء قوم لم يسيروا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن خرج معه؛ لكن لعذرٍ ومانع، لكن خرجت قلوبُهم؛ فكتب الله لهم الأجر وحصّلوا الفضل والسّبق.

والله -جل وعلا- كريم يعطي على القليل الكثير؛ فينبغي للعبد أن يعتني بمثل هذه الأمور، وأن يصحّح القصد والطلب وعمل الباطن؛ فإن فيه سعادةً لا يدركها إلا من جرّب هذا الطريق وسلكه. كما أنه من أعظم ما يُدِرُّ على الإنسان الأجور، فإنّ الأجر في عمل الباطن أعظم بكثير من الأجر على العمل الظاهر، وليس هذا تهويناً للأعمال الظاهرة، إنما هو لفْت لأنظارنا إلى أمر مهم نغفل عنه كثيراً، وهو عمل الباطن. كما أنّ آثام الباطن أعظم من آثام الظاهر، التحاشي من الكذب -وهو من الأعمال الظاهرة- أمر محمود، التحاشي من السَّرقة والتحفُّظ منها أمر محمود، ويَعْظُمُ عند الإنسان أن يقع شخص في سرقة، فإذا قيل له: إن فلاناً سارق؛ يعظم في قلبه هذا، وحَقَّ لهذا الأمر أن يَعظُم في قلبه. لكن إذا قيل له: إنه مُرَاءٍ أو: إنه متكبر. ما عدَّ ذلك شيئاً، مع أن جنس آثام القلوب أعظم من جنس آثام الظواهر، ولذلك قال الله -جل وعلا- :﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾.[سورة : الأنعام (120).] فأمر الله -جل وعلا- بترك الأمرين وقدّم الظاهر؛ لأنه هو السهل المتيسَّر الذي يتمكن منه كل أحد، بخلاف الباطن الذي يحتاج إلى معالجة، وإلى دوام المراقبة؛ حتى يتحقق للإنسان.

المراد أن الشيخ -رحمه الله- عرّف العبادة في أوّل هذه الرِّسالة، وبيّن أمثلة للعبادة القلبية الباطنة، والعبادة الظاهرة التي تكون في الجوارح. ثم قال -رحمه الله-:

(وذلك أنّ العبادة لله هي الغاية المحبوبة له، والمرضية له، والتي خلق الخلق لها، كما قال الله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[سورة: الذاريات (56)] وبها أرسل جميع الرسل، كما قال نوح لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ[سورة: الأعراف (59)، المؤمنون (23)] وكذلك قال هود، وصالح، وشعيب، وغيرهم لقومهم، وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ[سورة: النحل (36)]وقال ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾.[سورة : الأنبياء (25).] وقال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[سورة : الأنبياء (92)] كما قال في الآية الأخرى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ(52)﴾.[سورة : المؤمنون (51-52).] وجعل ذلك لازماً لرسوله إلى الموت كما قال: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[ سورة: الحجر (99)]

وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه، فقال ـ تعالى ـ: ﴿وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْل َو النَّهَار لَا يَفْتُرُونَ[سورة: الأنبياء (19-20)] وقال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ[سورة: الأعراف (206)] وذم المستكبرين عنها بقوله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾.[سورة: غافر(60)] ونعت صفوة خلقه بالعبودية له، فقال ـ تعالى ـ: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾.[سورة: الإنسان (6).] وقال: ‏﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا[سورة : الفرقان (63)]).

هذا المقطع من كلام الشيخ -رحمه الله- فيه بيان منزلة الموضوع المسؤول عنه، فيه بيان منزلة العبودية والعبادة التي أمر الله ـ تعالى ـ بها في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ[سورة: البقرة (21)] وهو من حُسن تأليفه -رحمه الله- وبديع تصنيفه، أنه بيّن معنى العبودية أو معنى العبادة التي أمر الله -جل وعلا- بها، وضرب لها الأمثلة المتنوعة التي تجلّي الأمر وتظهره وتوضحه، ثم أعقب ذلك ببيان منزلة هذا المسؤول عنه؛ هذا المأمور به في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾. فقال: (وذلك أنّالعبادة لله هي الغاية المحبوبة له،والمرضية له تعالى)، فهي الغاية التي ارتضاها الله -جل وعلا- وأحبها وطلبها من عباده في قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.[سورة: الذاريات (56)] فالله -جل وعلا- إنما خلق الجن والإنس لعبادته وحده لا شـريك له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهذه الغاية هي الغاية الشرعية الأمرية الدينية، وإلا فإن الله -جل وعلا- لم يجعل ذلك من كل أحد، يعني لم تحصل هذه العبودية المأمور بها في هذه الآية، أو المبيَّن الغاية منها في هذه الآية، لم يجعلها حاصلة من كل أحد. بل إذا نظرت فقد قال الله -جل وعلا- في كتابه: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سورة : سبأ (13).]، وقـال -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ[سورة : الأنعام (116)]، وقال -جل وعلا-: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ﴾.[سورة: الشعراء (8)] فأكثر الخلق يتخلّف فيهم تحقيق هذه الغـاية، التي هي غاية الخلق خلق الجن والإنس، وهي الغاية المحبوبة التي رضيـها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وعُلِمَ بهذا أن قوله ـ تعالى ـ: ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[سورة: الذاريات (56)] اللام هنا ليست لام العاقبة والصيرورة -أي اللام التي لا بد أن يقع معلولها- إنّما هي لام الغاية والتعليل، فهي داخلة في الغايات الشرعية، لا الغايات الخلْقية الكونية القدرية؛ بل هي غاية شرعية؛ يعني الله -جل وعلا- أراد ذلك شرعاً، ولو أراده قدَراً هل يقع أو لا يقع؟ لا بد أن يقع، لو كان مراداً لله -عز وجل- قدراً لا بد أن يقع؛ لكنه مرادٌ له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أمراً وديناً وشرعاً، ولذلك ليس لازم الوقوع.

ثم في بيان هذه العبادة التي أمر الله بها وبيان منزلتها قال: (وبها أرسل جميعَ الرسل). وإذا نظرت وتأملت أن الله -جل وعلا- أرسل جميع الرسل من لدن نوح -عليه السلام- إلى آخرهم للدعوة إلى العبادة، علمت عظم شأن هذه العبادة عند رب العالمين؛ حيث إنه تابع الرسل والأنبياء كلهم، للدعـوة إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وإلى عبادته وحده، وإلى تحقيق هذه العبودية.

ولاشك أنّ المؤمن إذا نظر أن الله -جل وعلا- اصطفى من الملائكة رسلاً، واصطفى من الناس رسلاً، وجعل مهمة المصطفَين من الرسل ومن الملائكة هي الدّعوة إلى تحقيق التوحيد وتحقيق العبودية؛ علمتَ أن هذا أمر عظيم، وشأن كبير ينبغي للمؤمن أن يجتهد في تحقيقه، ينبغي للمؤمن أن يحرّره، وأن يحققه جُهده وطاقته، وأن لا يشتغل عنه بغيره.

ومن هذا نفهم أهمية الدعوة للتوحيد، وأنّ الدعوة للتوحيد ليست ترديداً لكلام معروف، كما يروّجه بعض الناس، يقولون: إن الدعوة للتوحيد معروفة؛ لا حاجة أن ندعو الناس للتوحيد، يعرفون أن الله هو الخالق. نقول: نعم، يعرفون أن الله هو الخالق؛ لكنهم لا يعرفون أنه المستحق للعبادة، الذي يجب أن يُعظَّم وأن يفرد  -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-بأنواع العبادة، وأن تكون حياة الإنسـان كـلها له -جل وعلا-: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)[سورة : الأنعام (162-163).   ]

فالواجِبُ عَلَى أَهْلِ العلم أن يعرفوا منزلة العبودية. ومن وسائل معرفة ذلك، إدراك ما أشار إليه الشيخ -رحمه الله-في هذا المقطع من المعاني العظيمة.

فالعبودية هي الغاية من الوجود، وهي الغاية المحبوبة المرضية لربّ العالمين، وهي التي تابع الله -جل وعلا- إرسال الرسل من أجلها، كما قال ـ تعالى ـ: ﴿اعْبُدُوا اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ[سورة: الأعراف (59، 65، 73، 85) وهود (50، 61، 84) والمؤمنون (23، 32).]، فما من رسول جاء إلا وهو يدعو إلى هذا، كما قال -رحمه الله-: (وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقومهم. وقد قال الله -جل وعلا-: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [ سورة : النحل (36)]ثم بعد أن بين رسالة الرسل بيّن افتراق الناس قال: (﴿فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ﴾).

 بعد ذلك ذكر الشيخ -رحمه الله- أن العبودية والعبادة هي دين الرسل، وهو الأمر الذي اشتركوا فيه جميعاً، وذلك في قوله ـ تعالى ـ: (﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[سورة:الأنبياء (92).]).والمقصود بالأمة هنا: الملة والدّين. أي: إن دينكم دين واحد، كما قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «الأنبياء إخوان لعلاّت» أي: لضرائر، «أمهاتهم متفرقة ودينهم واحد».[صحيح البخاري(3443).]فدينهم الإسلام: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ.[سورة: آل عمران (19).] ليس فقط بعد بعثة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، بل هو الدين الذي دان به آدم، ودان به نوح، ودان به جميع الرسل، من بعد نوح -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- إلى نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وأصل الأمة في اللغة: المجموعة الذين اجتمعوا على أمر ما، ويطلَق في القرآن على الزمان، ويطلق على من جمع خصال الخير، ويطلَق أيضاً على الملة والدين، ويطلَق على الجماعة الكثيرة من الناس. وكلها تدور على معنى واحد، وهو الاجتماع على أمر ما، سواء كان في زمان، أو كان في خصال، أو كان في عمل، أو كان في اجتماع أفراد كُثُر.

من شواهد مجيء الأمة في معنى جمع خصال الخير، قول الله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا.[سورة : النحل (120)] فاجتمع فيه من الخصال ما تفرق في خلق كثير.

ومن مجيء الأمة بمعنى الزمان، قوله ـ تعالى ـ: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ[سورة يوسف: (45)] أي بعد زمن، وبعد برهة وجماعة من الوقت.

وقوله ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً[سورة : الأنبياء (92).] المقصود بالأمة هنا: أمة الدين والعقيدة.

ذكر الآية الأخرى التي فيها اتفاق الرسل على الدين والتوحيد، قال ـ تعالى ـ:(﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ[سورة : المؤمنون (51-52).]).ثم قال في بيان منزلة هذه العبادة وهذا الأمر، قال -رحمه الله-: (وجعل ذلك لازماً لرسوله إلى الموت).وهذا يبين لك منزلة العبودية، أمر لم يرضَ الله-جل وعلا- له حدًّا، ولم يجعل له أجلاً ينتهي عنده، يدلُّك على أنه عظيم المنزلة، وأنه محبوب لرب العالمين، حيث لم يجعل له أمداً ولا منتهىً ولا أجلاً إلا بموت الإنسان، قال الله ـ تعالى ـ: (﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[سورة : الحجر (99).]). و﴿الْيَقِينُ﴾هنا هو الموت، وليس كما يقول أهل التصوف من أن اليقين هو بلوغ منزلة تسقط فيها عن الإنسان الأحكام، ولا يطالَب بأمر ولا نهي؛ فإن هذا لا يكون. بل اليقين هو الموت، وهل جاء في القرآن إطلاق اليقين على الموت؟ نعم في قوله: ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُفي قول أهل الجحيم :﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [سورة: المدثر (46-47).] أي حتى أتانا الموت. وهذا يقطع قول من يقول بأن اليقين هو منزلة تسقط فيها التكاليف؛ لأن هؤلاء من أهل النار، عدوا أعمالهم التي استوجبوا بها دخول سقر -نعوذ بالله منها-، فكان منها قولهم: ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ .

ثم قال -رحمه الله- :(وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه)، وهذا يبين لنا أن العبودية صفة الصفوة من خلق الله -عز وجل- فصفوة الخلق حققوا العبودية، من الملائكة، ومن الأنبياء (فقال ـ تعالى ـ: ﴿وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ[سورة : الأنبياء (19).])أي:ولا يقصرون؛ بل هم جادّون حاثّون السير، يعملون عملاً دائباً في طاعة الله -عز وجل-(﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْل والنَّهَار لَا يَفْتُرُونَ[سورة: الأنبياء (20).])أي:لا ينقطعون عن التسبيح، وهذا في وصف الملائكة. (وقال ـ تعالى ـ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ[سورة: الأعراف (206)]) لم يذكر في هذه الآية الأنبياء، فلعل في النسخة سقطاً؛ لأن الشيخ رحمه الله ذكر أن الله وصف بذلك ملائكته وأنبياءه، وسيأتي في كلام الشيخ -رحمه الله- ما يشهد بوصف الأنبياء بهذه الصفة  وهي العبودية، وهذا يدل على فضلها وكمالها –سيأتي بعد قليل إن شاء الله-.

يقول: (وذم المستكبرين عنها بقوله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[سورة : غافر (60)]). ولم يتهدّد الله –عز وجل- ويتوعّد على ترك العبادة إلا لأهميتها ومحبته لها –سبحانه وتعالى- ولأن بها يصلح حال الناس في المعاش والمعاد، وقوله ـ تعالى ـ: ﴿دَاخِرِينَ أي صاغرين أذلاء، فهم سيدخلون جهنم على صفة الصغار والذل، لا على صفة الإكرام والعلو.

ثم قال: (ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال:) يعني من غير الأنبياء(﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا[سورة : الإنسان (6).]).هذا ليس خاصًّا بالأنبياء، هذا وصف لكل من حقق العبودية لله -عز وجل- فهو موعود بهذا الفضل (﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾). فالعبودية هنا عبودية خاصة وليست عبودية عامة، بل هي خاصة بأوليائه وأصفيائه.

 (وقال: ‏﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا[سورة : الفرقان (63)].

الاكثر مشاهدة

3. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات89954 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات86963 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف