الدرس (10) من شرح رسالة لمعة الاعتقاد للشيخ أد خالد المصلح
قال الإمام موفق الدِّين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسيرحمه الله تعالى:
(ولاَ نجعلُ قضاءَ اللهِ وقدَرَهُ حُجَّةً لنا في تَرْكِ أوامِرِهِ وارتِكاب نَوَاهِيه، بلْ يجبُ أنْ نُؤمِنَ ونَعْلَمَ أنَّ لله علينا الحُجَّةَ بإنزال الكتُب، وبعْثَةِ الرُّسُلِ، قال اللهُ تعالىٰ: ﴿لِئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾.[سورة : النساء (165).]
ونعلَمُ أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىما أَمَرَ ونَهى إلاَّ المستطيعَ للفِعْلِ والتَّرْكِ، وأنَّه لمْ يُجْبِرْ أَحَداً على معصيةٍ، ولا اضْطَرَّهُ إلى تَرْكِ طَاعَةٍ، قال اللهُ تعالىٰ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾،[سورة : البقرة (286).]وقال تعالىٰ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾،[سورة : التغابن (16).]وقال تعالىٰ: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾.[سورة : غافر (17).]
فَدَلَّ على أنَّ للعبْدِ فِعْلاً وكَسْبًا يُجْزَى على حَسَنِهِ بالثَّوابِ، وعلى سَيِّئِهِ بالعِقابِ، وهو واقِعٌ بقضاءِ الله وقَدَرِه).
بسم الله الرحمـٰن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا صلة ما تقدّم من البحث في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالقدر.
يقول رحمه الله: (ولاَ نجعلُ قضاءَ اللهِ وقدَرَهُ حُجَّةً لنا في تَرْكِ أوامِرِهِ وارْتِكاب نَوَاهِيه، بلْ يجبُ أنْ نُؤمِنَ ونَعْلَمَ أنَّ لله علينا الحُجَّةَ بإنزال الكتُب، وبعْثَةِ الرُّسُلِ). في هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله بيان إبطال احتجاج أهل المعصية والكفر بالقدر على ما هم عليه أو على ما هم فيه من معصية الله والكفر به؛ وذلك أن القدر انقسم الناس فيه من حيث الإيمان إلى طوائف:
فطائفة غلت في إثبات القدر، وجعلت كلّ ما يكون من الإنسان وما يقع في هذا الكون محبوباً لله عز وجل مرضيًّا، فكل ما في الكون هو محبوب لله جلّ وعلا، يحبه ويرضاه، وهو فعله ومشيئته، لا فعل للإنسان ولا مشيئة ولا إرادة، فألغوا تماماً فعل الإنسان واختياره ومشيئته وإرادته، وقالوا: كل ما في الكون إنما هو بفعل الله لا فعل لغيره، ومشيئة الله لا مشيئة لغيره، فاحتجوا بالقدر وبما يقع من قضاء الله وقدره على أمره ونهيه ودينه وشرعه، فجعلوا القدر حجة لإبطال الشرع.
وهؤلاء إمامهم فيما ذهبوا إليه إبليس حيث قال: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْصِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)﴾[سورة : الأعراف (16).]لما أبى السجود قال في خطابه لله عز وجل: ﴿قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْصِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)﴾فأضاف الإغواء إلى الله عز وجل، فاحتج بإغواء الله جلّ وعلا وعدم هدايته على فعل نفسه، وهو صحة ما هو عليه، فزاده ذلك من الله جلّ وعلا بُعداً وعذاباً.
وقد سلك هذا المسلك أهل الشرك أيضاً فاحتجوا بالقدر على معصية الله عز وجل، كما قال الله جلّ وعلا: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم﴾[سورة : الأنعام (148).]---فأخبر الله جلّ وعلا عن مقولة المشركين أو ما سيقوله المشركون مِن أن ما يقع منهم من الشرك وتحريم ما أحلّ الله أو تحليل ما حرم الله، أن ذلك واقع منهم بمشيئة الله عز وجل، فاحتجوا بالقدر والقضاء على مخالفة أمر الله جلّ وعلا في توحيده وإفراده بالعبادة، وقد كذّبهم الله جلّ وعلا في ذلك، كما أن هذه الحجة هي حجة أهل التفريط والتقصير الذين أسرفوا على أنفسهم يوم القيامة، فإنه مما ذكر الله جلّ وعلا من أقوالهم: ﴿ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)﴾[سورة : الزمر (57).]فلم ينفعهم ذلك في دفع عذاب ولا رفع عقاب، وقد قال أهل الشرك كذلك: ﴿لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا﴾،[سورة : النحل (35).]ولما دعاهم جلّ وعلا وأمرهم بالإنفاق والإطعام والصّدقة قالوا: أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ، كما قال الله تعالىٰ: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ﴾[سورة : يس (47).]فاحتجوا بالقدر على إبطال الأمر والنهي، على إبطال الشرع، وهذا من أخبث الأقوال وأرداها؛ لما يترتب عليه من المفاسد العظيمة.
يقابل هؤلاء: القدرية، وهم الذين نفوا خلق الله عز وجل لأفعال العباد، وهٰؤلاء حادوا وانحرفوا عن الصراط المستقيم، وخالفوا هدي سيد المرسلين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما عليه الصحابة وأئمة الدين؛ لكنهم في البدعة أخفّ من الجبرية الذين احتجوا بالقدر على إبطال الشرع.
فهؤلاء عندهم تعظيم للأمر والنهي وعندهم تعظيم للشريعة، بخلاف أولئك الذين أبطلوا الشرائع وأهدروها وليس لها عندهم قيمة؛ لأنه ما من شيء في الكون إلا وهو محبوب لله عز وجل، فإذا كان كل ما في الكون محبوباً لله عز وجل فقد بطل الشرع وبطل الدين، ولا حاجة للشرائع، ولا حاجة لبعثة الرسل وإرسال من أرسل جلّ وعلا للخلق مبشرين ومنذرين.
يقول المؤلف -رحمه الله-: (ولاَ نجعلُ قضاءَ اللهِ وقدَرَهُ حُجَّةً) والحجة هي كل ما يحتج به الخصم من حق أو باطل، فليس من لازم الحجة أن تكون حقًّا؛ بل قد تكون باطلاً، فالحجة إذا كانت باطلاً فهي حجة زاهقة ذاهبة مضمحلة داحضة، وإذا كانت حقًّا فهي برهانٌ وبينة.
فقوله رحمه الله: (ولاَ نجعلُ قضاءَ اللهِ وقدَرَهُ حُجَّةً) أي لا نجعلها مما يحتج به في المخاصمة (حُجَّةً لنا في تَرْكِ أوامِرِهِ وارْتِكاب نَوَاهِيه)، فعل من؟ فعل الجبرية الذين قالوا: إن المحبوب هو ما قدّره الله وقضاه. فأبطلوا الشرع بأي شيء؟ أبطلوا الشرع بالقدر.
يقول رحمه الله: (بلْ يجبُ أنْ نُؤمِنَ ونَعْلَمَ أنَّ لله علينا الحُجَّةَ بإنزال الكتُب، وبعْثَةِ الرُّسُلِ) أي علينا الحجة البالغة التي ينقطع بها العذر (بإنزال الكتُب، وبعْثَةِ الرُّسُلِ، قال اللهُ تعالىٰ: ﴿لِئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[ سورة : النساء (165).]) أي بعث الله عز وجل الرسل مبشرين ومنذرين لأجل أي شيء؟ لأجل ألا يكون للناس على الله حجة يحتجون بها ويتذرعون في ما هم فيه من كفر، وما هم فيه من عدم توحيد، ومما ينبغي التنبه له أن بطلان الاحتجاج بالقدر على إبطال الشرع قد استقر في الفطر واتفقت عليه الأمم، فإنّ الأمم متفقة على أنه لا يسوغ إبطال الشرائع بكون الأمر قد قضاه الله وقدّره، وقد ذكر أئمة هذا الدين وعلماء المسلمين، ذكروا أوجهاً لإبطال الاحتجاج بالقدر، وهي حجة باردة يحتج بها كثير من العصاة في تسويغ ما هم عليه من باطل، وفي مضيّهم فيما هم فيه من مخالفة أمر الله وأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذه بعض الأوجه التي يُستدل بها على بطلان الاحتجاج بالقدر في إبطال الشريعة وفي عدم العمل بها:
أول هذه الأوجه: أنه لا بد لمن احتج بالقدر على إبطال الشرع على ترك الواجب وفعل المحرم يلزمه أن يسوّغ كل فسادٍ وظلم يقع عليه من غيره، كل من احتج بالقدر في إبطال الشريعة، فيقال له: قم صلّ، قم افعل ما أمر الله أن تفعل، أو اترك ما نهاك الله عنه. قال: ما كتب الله لي، هذا أمر قدره الله علي. كل من احتج بمثل هذه الحجة من لازم حجته أن يقال له: كل ظلم يقع عليك في مالك أو أهلك أو نفسك فإنه يجب عليك أن تقبله وألا تنكره. لماذا؟ لأن الناس يشتركون جميعاً في كونهم تحت قدر الله عز وجل، لا خروج لهم ولا قدرة لهم على أن ينفكوا عن تقدير الله وقضائه؛ عن قضاء الله وقدره.
فإذا كان كذلك فإنه لا يسوغ لك أن تنكر ظلم الظالم لك؛ لأن ظلم الظالم لك هو بماذا؟ بقدر الله عز وجل، وهذا مما لا يقبله أحد مهما كان، حتى لو كان محتجًّا بالقدر في إسرافه ومعصيته، وينافح إذا جاء عند هذه المسألة لا يمكن أن يقبل الاحتجاج بالقدر؛ بل يرد الاحتجاج بالقدر ليأخذ حقه ويرفع عن نفسه الظلم في ماله أو أهله، أو أي شيء من شؤونه.
إذاً هذا الوجه الأول من أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر.
من أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر على إبطال الشرع، أو من أوجه بيان فساد احتجاج من احتجّ بالقدر على إبطال الشرع: أنّ من لازم ذلك أن يكون كل من أخبر الله عنهم بالكفر، ووعدهم بالهلاك أو أوقع عليهم هلاكاً أنّهم في الحقيقة معذورون، فإذا كانوا معذورين فلماذا يعذبهم الله جلّ وعلا؟ فإنه بعث الرّسل لقطع العذر، فلم ينفع بعث الرسل لهؤلاء؛ لأنهم كذبوا وخالفوا وأوقع الله عليهم من العذاب والعقاب ما حفظه كتابه جلّ وعلا، وأخبر به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجمعت عليه الأمم، فدل ذلك على أن الاحتجاج بالقدر باطل؛ لأنه لو لم يكن باطلاً لكان إبليس وفرعون وقوم نوح وغيرهم من الأمم التي أخبر الله بإهلاكها وعقابها، لكانوا معذورين فيما هم فيه من الكفر؛ لأنه بقضاء الله وقدره.
الوجه الثالث من أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر: أن الاحتجاج بالقدر على إبطال الأمر، على إبطال النهي، على إبطال الشريعة يُفضي إلى التسوية بين أولياء الله عز وجل وبين أعدائه؛ لأن المميز والفارق بين أعداء الله وأوليائه أن هؤلاء امتثلوا الأمر فكانوا أولياء لله عز وجل، وأن هؤلاء عصوا الله عز وجل وخالفوا أمره، فكانوا أعداء له جل وعلا، فإذا كان الاحتجاج بالقدر على إبطال الشريعة صحيحاً فإنّ من لازم ذلك أن يُلغى التفريق بين المؤمنين والكفار، بين الأعمى والبصير، بين المهتدي والضال، وقد جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع كثيرة ذكر الفرق بين هٰؤلاء، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21)﴾،[سورة : فاطر (19-21).]ولو كان القدر حجةً للفريقين فيما هم فيه لانتفى الفرق ولاستوى هؤلاء جميعاً وقد قال الله جلّ وعلا: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)﴾،[سورة : ص (28).]وهذا استفهام إنكار للتسوية بين هذين الفريقين.
الوجه الرابع من أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر على إبطال الشريعة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث علي بن أبي طالب في الصحيحين لما أخبر بأن الله جلّ وعلا قد علم ما الخلق عاملون حيث قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ما من أحد إلا وقد عُلم مقعده من الجنة وعُلم مقعده من النار)) فقال بعض الصحابة: ففيمَ العمل يا رسول الله؟ أفلا نتكل على الكتاب وندعُ العمل؟ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جواب هذا: ((اعملوا فكلٌّ ميسر لما خُلق له))،[البخاري: كتاب التفسير، باب ﴿فسنيسره للعسرى﴾[الليل:10]، حديث رقم (4949).
مسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه ..حديث رقم (2647).]فلم يجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القدر مسوغاً لترك العمل؛ بل لما قالوا له: أفلا نتكل على الكتاب وندعُ العمل؟ ماذا قال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ؟ قال: ((اعملوا))، فلم يقل اتركوا، اعتمدوا على الكتاب، اعتمدوا على التقدير، ((اعملوا فكل ميسر لما خُلق له)).
وكذلك جاء في حديث سُراقة بن مالك في صحيح الإمام مسلم أنّ رجلاً سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن فيمَ العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير)). فقال رجل: ففيمَ العمل؟ يعني في أي شيء؟ ما فائدة العمل؟ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اعملوا فكل ميسر لما خُلق له))،[مسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه ..حديث رقم (2648).]وهذا يبين لنا أنّ الاحتجاج بالقدر من أبطل ما يكون في إبطال الشرائع؛ أي إن الاحتجاج بالقدر على إبطال الشريعة وعدم العمل بها وإهدار الأمر والنهي من أفسد ما يكون؛ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: ((اعملوا فكل ميسر لما خُلق له)).
أيضاً من أوجه إبطال الاحتجاج بالقدر: أنه لو كان القدر حجةً على إبطال الشريعة لما عذب الله عز وجل أحداً في الدنيا ولا في الآخرة؛ لأنه لو عذبهم مع كون القدر حجة لكان ظالماً لهم، حيث إنه لم يمضِ ما هو حجة؛ لكن لما كان القدر ليس حجة في إبطال الشريعة عذب الله من خالف أمره وجعل المخالفة سبباً للعقوبة.
بعد هذا العرْض الموجز لبعض الأوجه التي يتبيّن بها فساد الاحتجاج بالقدر في إبطال الشريعة، وترك العمل بها، نعلم علماً لا يخالطه ريبٌ ولا شكٌّ، علماً يقينيًّا أن أهل السنة والجماعة على حق في هذا، وهم وسط بين هذين الفريقين المختلفين: بيْن من ألغى قدر الله عز وجل وقدرته على خلق أفعال العباد، وبيْن من ألغى قدرة الإنسان واختياره في ما يكون منه وما يصدر عنه.
قال رحمه الله: (ونعلَمُ أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما أَمَرَ ونَهى إلاَّ المستطيعَ للفِعْلِ والتَّرْكِ)، وهذا أيضاً يضاف إلى الأوجه التي يُبطَل بها الاحتجاج بالقدر على إبطال الشريعة، نعلم أنه سبحانه ما أمر ونهى إلا المستطيع للفعل والترك؛ أي المستطيع لإيجاد ما أمر والقيام بما أمر وترك ما نهى عنه وزجر.
(وأنَّه لمْ يُجْبِرْ أَحَداً على معصيةٍ) أي: ليس هناك إجبار على المعصية؛ بل العاصي يعصي الله جلّ وعلا بإرادته واختياره، وكون الله جلّ وعلا علم ذلك وكتبه وشاءه وخلقه لا ينافي اختيار العبد؛ بل العبد مختار لما يفعل وما يقع منه من معصية الله عز وجل في ترك الواجبات ومواقعة المنهيات والمحرمات.
فالعبد ليس مجبوراً على معصية الله عز وجل؛ بل له الاختيار التام في طاعة الله عز وجل والتزام شرعه وفي معصيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والإعراض عن دينه؛ ولذلك رتّب الله جلّ وعلا العقاب والثواب على امتثال الأمر وترك النهي، فمن امتثل فاز بالفضل، ومن أعرض وتنكب ووقع في ما حرم الله عز وجل استحق العقوبة.
قال رحمه الله: (ولا اضْطَرَّهُ) أي ما اضطره الله جلّ وعلا (إلى تَرْكِ طَاعَةٍ) بل معصية العاصي بفعله ومشيئته واختياره، وطاعة الطائع بمشيئته واختياره؛ ولذلك إذا وقعت المعصية إكراهاً لم تُرتّب عليها ماذا؟ لم ترتب عليها العقوبة حتى إذا كانت هذه المعصية أكبر ما يكون من المعصية وهي الكفر، كما قال الله جلّ وعلا: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَوَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾،[ سورة : النحل (106).]فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى استثنى من المؤاخذة من أكره وكان منشرح الصدر بالإيمان، مطمئن القلب بحقائق الإسلام، فإنه لا يؤاخذ على ما يكون منه، فدل ذلك على أن الإكراه يخرج الإنسان عن التكليف.
فقوله رحمه الله: (وأنَّه لمْ يُجْبِرْ أَحَداً على معصيةٍ، ولا اضْطَرَّهُ إلى تَرْكِ طَاعَةٍ) واضح.
أدلة هذا: ذكر المؤلف رحمه الله منها:
(قال اللهُ تعالىٰ: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾،[سورة : البقرة (286).]) ﴿وُسْعَهَا﴾أي: طاقتها وقدرها، يعني ما تتسعه من العمل فعلاً وإيجاداً وتركاً واجتناباً، فالله جلّ وعلا لا يكلف نفساً إلا ما تقدر عليه وما تستطيعه.
(وقال تعالىٰ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾[سورة : التغابن (16).]) تقوى الله فعل ما أمر وترك ما نهى، فالأمر وهو إيجاد المطلوب، والنهي وهو ترك المحرم كله ينتظمه قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾أي اتقوا الله ما قدرتم وتمكنتم من ذلك.
قال رحمه الله (وقال تعالىٰ: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾[سورة : غافر (17).]) وهـٰذا فيه أن ما يكون من الإنسان كسبه وعمله ويجازى على هذا الكسب والعمل يوم القيامة، ولذلك قال: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾أي بما عملت وبما قدمت ﴿لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾فلا يظلم صاحب الطاعة بنقص طاعته ولا يظلم صاحب المعصية بالزيادة عليه في إساءته ومعصيته.
(فَدَلَّ) أي دل ما تقدم (على أنَّ للعبْدِ فِعْلاً وكَسْبًا) (فِعْلاً) يعني أثراً في إيجاد فعله واختياراً في إيجاد فعله (وكَسْبًا) فينسب إليه ما يكون من العمل.
يقول: (يُجْزَى على حَسَنِهِ) يعني من الفعل والكسب (بالثَّوابِ)، (وعلى سَيِّئِهِ) يعني من الفعل والكسب (بالعِقابِ)، (وهوواقِعٌ) أي ما يكون من فعله وكسبه، من حسناته وسيئاته كل ذلك واقع (بقضاءِ الله وقَدَرِه)، فيجتمع بهذا كمال الإيمان وكمال العبودية لله عز وجل حيث يؤمن العبد بالشرع ويعمل ويصدق بالقدر ويؤمن، وبه ينتظم إيمانه ويستقيم إسلامه، ولا قرار للإيمان إلا بهذا.
وبهذا يكون قد انتهى ما ذكره المؤلف رحمه الله مما يتعلق بالإيمان بالقدر.
ومما ينبه إليه في مسألة الاحتجاج بالقدر على المعصية أن الجبرية -الذين غلوا في إثبات القدر وجعلوا القدر حجة على إبطال الشريعة- يستدلون بما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في محاجة موسى آدم حيث قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((حج آدم موسى، فإن موسى قال سائلاً الرب جلّ وعلا: أرنا أبانا الذي أخرجنا من الجنة. فلما رآه، قال: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته، لمَ خرجت وأخرجتنا من الجنة؟ فقال آدم عليه السلام لموسى: يا موسىٰ أنت الذي اصطفاك الله بتكليمه فكلّمك وكتب لك التوراة بيده، بكم وجدت مكتوباً عليّ ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)﴾،[سورة : طه (121).])أي بكم قبل خلقي وجدت مكتوباً علي ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)﴾؟ ((قال: بأربعين سنة)) . قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((فحجّ آدم موسىٰ)).[البخاري: كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسىٰ عند الله، حديث رقم (6614).
مسلم: كتاب القدر، باب حجاج آدم موسىٰ عليهما السلام، حديث رقم (2652).]
هذا الحديث يحتج به الذين يقولون: إنه يسوغ أن يحتج بالقدر على المعصية. كيف؟ قالوا: إن آدم عليه السلام رد على موسى بأي شيء؟ بأن الله كتب عليه المعصية، حيث قال له: ((بكم وجدت مكتوباً عليّ قبل أن أخلق ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾؟)).
والصحيح أنه لا حجة لهم في هذا الحديث على ما ذهبوا إليه من الاحتجاج بالقدر على إبطال الشرع؛ لأن موضوع المحاجة بين آدم وموسى في أي شيء؟ هل هو في المعصية أم في المصيبة وهي الإخراج من الجنة؟
هل قال موسى لآدم: يا آدم لم عصيت الله وأكلت من الشجرة، أو قال له: لم أخرجتنا؟ أسألكم. المحاجة والمناقشة وقعت في المصيبة التي ترتّبت على وقوع المعصية، وهي الإخراج من الجنة.
فبماذا أجاب؟ أجاب على المصيبة بأنها من قدر الله عز وجل، وهذا لا يخالف ما عليه أهل السنة والجماعة، من أنه يجوز الاحتجاج بالقدر على المصائب، فإذا نزلت بالإنسان مصيبة احتج بالقدر.
ومن ذلك قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه الإمام مسلم في الصحيح، من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((المؤمن القوي خيرٌ من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإذا أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل -أو قدّر الله وما شاء فعل-))[مسلم: كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، حديث رقم (2664).]فهنا احتجاج بالقدر على أي شيء؟ على المصيبة؛ ولذلك إذا أصابك شيء يعني مما تكره ففات خير، أو نزل بك ضُر فماذا تقول ؟ تقول: قَدَرُ الله وما شاء فعل.
فدل هذا على أنه يجوز الاحتجاج بالقدر على أي شيء؟ على المصائب، وهذا إجماع من أهل السنة والجماعة لا خلاف بينهم فيه.
لكن هل يسوغ لأحد أن يحتج بالقدر على المعصية؟ الجواب: لا.
فآدم عليه السلام إنما احتج بالقدر على أي شيء ؟ على الإخراج، وهي المصيبة التي نزلت به وببنيه، لا على المخالفة.
وهذا هو الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله ورجحه وأبطل سائر ما ذُكر من الأوجه في الجواب على المحاجة.
لأن من العلماء من قال: إن آدم حج موسى لكونه أباه أو غير ذلك من الأوجه التي ذكروها.
المهم أن هذا أرجح الأوجه.
ابن القيم رحمه الله سلك مسلكاً آخر: قال -بعد أن ذكر كلام الشيخ-: وهناك وجه آخر يصلح أن يكون جواباً في هذا المحاجة وهو أن آدم عليه السلام إنما احتج بالقدر على المعصية بعد أن وقعت وتاب منها. يقول رحمه الله: فيجوز للإنسان إذا وقعت منه معصية، وتاب الله عليه منها أن يحتج بالقدر، إذا عاتبه أحد.
فمثلاً إنسان أسرف على نفسه بشرب الخمر وسائر أنواع المعاصي، ثم تاب، فجاءه شخص وقال: أنت ما فيك خير، أنت شرّاب للخمر سرّاق، وما أشبه ذلك فله أن يقول: هذا بقدر الله؛ لأنّ الحقيقة أنه بقدر الله.
فساغ الاحتجاج بالقدر على المعصية متى؟ بعد التوبة منها.
وهذا الذي وقع من آدم: فإنه ما احتج بالقدر -على ما وجه ابن القيم رحمه الله- ما احتج بالقدر على الاستمرار والمضي في المعصية، إنما احتج بالقدر على أي شيء؟ على أنها وقعت وانتهت، فلا تعيرني بها، ومن تاب تاب الله عليه، التوبة تهدم ما كان قبلها.
فبطل احتجاجهم بهذا الحديث على مسألة الاحتجاج بالقدر في إبطال الشريعة.
وإنما أطلنا في هذا وبينا أوجه إبطال وفساد احتجاجهم بالقدر على إبطال الشريعة لأن كثيراً ممن ابتلوا بالتصوف يحتجون بالقدر على أخطائهم، وكثير ممن يسرفون على أنفسهم بالمعاصي إذا أُمروا بالمعروف أو نُهوا عن المنكر قالوا: ما قدر الله لنا الطاعة، ما هدانا الله لترك المعصية، وما أشبه ذلك من الحجج الباردة التي يبطلون بها الشريعة.
وفي قول المؤلف رحمه الله: (فَدَلَّ على أنَّ للعبْدِ فِعْلاً وكَسْبًا) انتقد هذا بعض أهل العلم فقال: إن هذا فيه شائبة أشعرية حيث قال: (فَدَلَّ على أنَّ للعبْدِ فِعْلاً وكَسْبًا)، والصحيح أن كلام المؤلف ليس عليه مؤاخذة، وأنه سارٍ وجارٍ على طريقة أهل السنة والجماعة، وذكر الكسب ليس دليلاً على أشعرية المؤلف؛ لأن الكسب ذكره الله جلّ وعلا في قوله: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾.[سورة : غافر (17).]وقد ذكره المؤلف -رحمه الله- قبل ذكر الكسب، ففهم من الكسب ما دلت عليه الآية من أنه فعل الإنسان الذي يكون باختياره وإرادته ومشيئته.
أما الأشعرية فلهم في القدر قول عجب خالفوا به الناس، حيث قالوا: إن أفعال الخلق كسب لهم وليس لهم عليها قدرة. وهذا قول لا نطيل بذكره؛ لأنه من الأقوال المستبشعة والمستغربة التي لا حقيقة لها، ولا معنى لها، ولذلك حذاقهم يرجعون إلى أنهم يقولون بقول الجبرية، فهم يقولون: إن فعل العبد كسْب له لكن لا قدرة له عليه. وهذا لا يمكن أن يكون، لا يتصور كيف يكون فعله كسْباً له ولا قدرة له عليه.
فمن قال: إن كلام المؤلف رحمه الله هنا فيه شائبة أشعرية أو فيه إيهام أو إبهام، في قوله نظر وتكلف؛ لأن المؤلف رحمه الله ذكر هذا بعد ذكر الآية التي ذكر الله فيها الكسب: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾فيكون معنى الكسب الذي ذكره هو ما دلت عليه الآية.
وبهذا يكون انتهى ما يتعلق بمسائل القدر في هذا الفصل.
وينبغي للمؤمن أن يقرّ قلباً، وأن يطمئن فؤاداً أن الله جلّ وعلا حكمٌ عدل لا يظلم الناس شيئاً ، كما قال الله جلّ وعلا: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (46)﴾،[سورة : فصلت (46).]وكما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿لا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾.[سورة : غافر (17).] فإذا استقر في قلب العبد هذا اطمأن من أن يقع شيء من ظلم الله عز وجل أو تعارض بين الشرع والقدر؛ بل الأمر كله لله جلّ وعلا يحكم ما يشاء ويقضي ما يريد، والعبد له اختيار ومشيئة وإرادة، ومشيئته وإرادته واختياره لا تخرج عن ما قدره الله جلّ وعلا، ما علمه وكتبه وشاءه وخلقه. نعم.
(فصل: ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا، نعلم أنه حق وصدق، وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه ولم نطلع على حقيقة معناه.
مثل حديث الإسراء والمعراج، وكان يقظة لا مناماً، فإن قريشاً أنكرته وأكبرته، ولم تكن تنكر المنامات.
ومن ذلك أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فرد عليه عينه).
طيب، المؤلف رحمه الله ابتدأ هذا الفصل المتعلق بالإيمان بالغيب مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم إما يكون في الدنيا، وإما يكون في الآخرة؛ لقوله رحمه الله: (ويجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وصح به النقل عنه فيما شاهدناه أو غاب عنا). هذا الإيمان يسمى الإيمان المجمل الذي يجب أن يقر في قلب كل مؤمن، أن يعتقد ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤمن به، ويصدق به، وأنه حق على حقيقته.
هذا هو الواجب على أهل الإيمان، سواء علموه أو لم يعلموه، أدركوه أو لم يدركوه، ظهر لهم أو خفي، من عالم الغيب أو من عالم الشهادة، يجب عليهم أن يؤمنوا بذلك.
ومن خصائص أهل الإسلام وأهل الإيمان أنهم يؤمنون بالغيب، ولذلك قال الله تعالى - في أول صفة ذكرها لأهل الإيمان في كتابه-: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة﴾[سورة : البقرة (1-3).]. فأول صفة ذكرها لعباده المتقين الذين يهتدون بالقرآن أنهم يؤمنون بالغيب، وهو الذي يميز بين أهل التقوى والدين وأهل الإيمان، وبين أهل الكفر والجحود والإعراض.
يجب على المؤمن أن يؤمن بكل ما أخبر به الله تعالى في كتابه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم إيماناً جازماً لا يدخله ريب ولا شك.
هذا هو الإيمان المجمل، ولذلك قال: (ويجب الإيمان بكل ما أخبر به) سواء علمنا أو لم نعلم، بلغنا أو لم يبلغنا، يجب الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل عنه، ما أخبر به في الكتاب وصح به النقل عنه، الأول يشمل الكتاب والسنة.
وأما قوله: (وصح به النقل) فهذا يختص بالسنة؛ لأن النقل إنما تطلب صحته فيما كان من خبر النبي صلى الله عليه وسلم في غير كتاب الله عز وجل.
(فيما شاهدناه)أي: فيما أدركناه ووقع عليه بصرنا، وهو من عالم الشهادة.
(أو غاب عنا)يعني: ما لم ندركه ولم نشاهده، نعلم أنه حق وصدق.
(وسواء في ذلك ما عقلناه وجهلناه)ما عقلناه: يعني ما أدركته عقولنا وفهمته، وما لم تدركه عقولنا ولم تفهمه.
الواجب الإيمان بجميع هذا، ولا يوقف الإنسان إيمانه بما أخبر الله به ورسوله على إدراك العقل وفهمه؛ فإن العقل قد يحار في إدراك خبر من الأخبار، أو إدراك أمر من الأمور، لكنه لا يجوز له أن يتوقف في إيمانه بذلك، بل يجب عليه أن يؤمن بما أخبر الله به ورسوله، الشريعة تأتي بما يحار فيه الإنسان، لكنها لا تأتي بما تحيله العقول.
الشريعة تأتي بما تحار فيه العقول، يعني تتحير في إدراكه وكيفيته وحقيقته، لكن لا يمكن أن تأتي الشريعة بما تحيله العقول، يعني: بما تمنعه العقول وتقول إنه مستحيل.
فيجب الإيمان بما أخبرت به الشريعة، سواء أدركنا ذلك بعقولنا أو لم ندركه، يعني: أدركنا حقيقته بعقولنا أو لم ندرك ذلك.
يقول رحمه الله: (ولم نطلع على حقيقته ومعناه) مثل ذلك بأمثلة، قال: مثل حديث الإسراء والمعراج.
الإسراء: انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ(1)﴾[ سورة : الإسراء (1).].فأسرى الله عز وجل برسوله ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، هذا هو الإسراء وقد أخبر الله عز وجل به في كتابه، وسبح نفسه عليه، فدل ذلك على أنه من عظيم قدرته ودال على عظيم صفاته وكمال قوته جل وعلا.
﴿لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾[سورة : الإسراء (1).]أي: ليرى ويشهد من آياتنا الدالة على صدق خبرنا ما وقع له صلى الله عليه وسلم.
أما المعراج فكذلك جاء ذكره في القرآن الكريم في سورة النجم، في قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(9)﴾[سورة : النجم (1-9).].
كل هذا في وصف ما كان في تلك الليلة.
﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى(12)﴾[سورة : النجم (10- 12).].
أي: أتجادلونه وتناقشونه على ما رأى من تلك الآيات العظيمة الكبيرة التي تجلت له وشاهدها في تلك الليلة في معراجه، فالمعراج ثابت بالقرآن أيضاً، وثبوته بالسنة لا مجال لإنكاره، ولا الشك فيه ولا الريب؛ فإن السنة قد دلت على ذلك دلالة واضحة جلية يدركها كل عقل مؤمن وقلب سليم، لكن هل نحن ندرك كيف كان ذلك؟ ما ندرك كيفية ذلك؛ لأن إدراك الكيفيات أمره زائد على التصديق بالخبر، فنحن نصدق بالخبر لكننا لا ندرك كيفية ذلك، ولذلك مثل به للأمور التي يجب الإيمان بها، وإن كنا لا نعقل ولم نطلع ولم نشاهد كيف أسري به صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به من المسجد الأقصى إلى سابع سماء ثم عاد في ليلة واحدة، كل هذا جرى له صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة.
يقول المؤلف رحمه الله: (وكان يقظة لا مناماً) .
هذا الذي عليه جمهور أهل العلم، ودل عليه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الإسراء والمعراج كانا بالجسد والروح، لا بالروح وحدها كما يقوله من يقوله، بل كان بهما جميعاً كما دلت على ذلك النصوص، وهو ظاهر كتاب الله وظاهر سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
(فإن قريشاً أنكرته وأكبرته)أنكرت الإسراء والمعراج، وأكبرته: يعني عدته من أكبر دلائل كذب النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك فرحوا به، وشنعوا على النبي صلى الله عليه وسلم فيه، حتى إن بعض أهل الإسلام ممن أسلم بالنبي صلى الله عليه وسلم ارتد؛ بسبب ما وقع في قلبه من شك وريب وشبهة من خير النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت الله من ثبت وكان على رأسهم أبو بكر رضي الله عنه، حيث قال -لما قالوا له ذلك-: إن كان قد قال لكم ذلك، فهو صادق، إنني لأصدقه فيما هو أعظم من ذلك، أصدقه في خبر السماء يأتيه في ساعة من ليل أو نهار.
ثم قال: (ولم تكن تنكر المنامات) يعني: لو كان الإسراء مناماً لما كان هناك وجه لإنكار قريش؛ لأن قريشاً لا تنكر المنامات، إنما أنكرت وشنعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبت وجادلت في الإسراء الذي كان بالروح والجسد لا بالروح فقط، والذي كان يقظة لا مناماً.
(ومن ذلك أن ملك الموت) يعني: مما يجب التصديق به، وإن لم ندرك حقيقته، ولم نعقل كيفيته، ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن ملك الموت لما جاء إلى موسى عليه السلام ليقبض روحه لطمه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه فرد عليه عينه، وهذا مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الله بعث ملك الموت لموسى عليه السلام ليقبض روحه، فجاءه فقال له: إن الله أمرني بقبض روحك، فلطمه موسى عليه السلام ففقأ عينه، فرجع ملك الموت إلى الله جل وعلا وقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، فرد الله على ملك الموت عينه، وأمره بأن يذهب إلى موسى وأن يضع يده على جلد ثور، فما وقع تحت يده فله به سنوات من العمر[انظر: البخاري، كتاب الجنائز ، باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة ونحوها، رقم (1339)
ومسلم: كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم، حديث رقم (2372) من طريق أبي هريرة رضي الله عنه.].
الشاهد في هذا الحديث هو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من فقء عين الملك، فإن هذا مما أخبر به وقد لا يدركه كثير من الناس، فعدم إدراكهم له، وعدم تصورهم لذلك لا يعني أنه يسوغ لهم أن ينكروه وأن يردوه، بل الواجب عليهم أن يؤمنوا به ويقبلوه.
هذا مثال آخر ذكره المؤلف رحمه الله لما يجب الإيمان به مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به النقل مما غاب عنا ولم نعلم حقيقته وكيفيته.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- بعد ذلك أشراط الساعة، وهو مبدأ ما ذكره المؤلف رحمه الله من الإيمان باليوم الآخر، فإن الإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بكل ما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ما يكون بعد الموت، وأيضاً يدخل فيه ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من ما يكون بين يدي الساعة من علاماتها وأشراطها التي تدل على قربها وأوان دنوها ووقوعها.
ونجعل إن شاء الله تعالى البحث فيها- لأنها متصلة- في الدرس القادم.