×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / دروس المصلح / العقيدة / لمعة الاعتقاد(الشرح الثاني) / الدرس (14) من شرح رسالة لمعة الاعتقاد للشيخ أد خالد المصلح

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:1643

الدرس (14) من شرح رسالة لمعة الاعتقاد للشيخ أد خالد المصلح

قال الإمام موفق الدِّين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسيرحمه الله تعالى:

ويُحْشَرُ النّاسُ يومَ القيّامةِ حُفَاةً عُراةً غُرْلاً بُهْمًا فيقِفونَ في موْقفِ القيّامةِ، حتّى يَشْفَعَ فيهم نبيُّنَا محمدٌصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويُحاسِبُهُم اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالىٰ، وتُنْصَبُ الموازينُ، وتُنْشَرُ الدَّواوينُ، وتَتَطايَرُ صحائف الأَعْمالِ إلى الأَيْمانِ والشَّمائِلِ ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(7)فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا(8)وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا(9)وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ(10)فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا(11) وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾.[سورة : الانشقاق (7-12).]

والميزانُ له كِفَّتانِ ولِسانٌ، تُوزَنُ به أعمال العباد ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾.[سورة : المؤمنون (102-103).]

                                       بسم الله الرحمـٰن الرحيم

 الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا صلة ما تقدم من الكلام على الإيمان باليوم الآخر، والمؤلف -رحمه الله-ذكر شيئاً مما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر ولم يستوعب، وقد تقدم لنا أنّ الإيمان باليوم الآخر يقتضي الإيمان بكل ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ مما يكون بعد الموت.

قال -رحمه الله-: (والبَعْثُ بعْدَ الموْتِ حقٌّ) تكلمنا على هـٰذا.

ثم قال: (وذلك حين يَنْفُخُ إسرافيلُ عليه السلامُ في الصُّورِ: ﴿فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾.[ سورة : يس (51).]) وقد جاء في الكتاب النفخ في ثلاث مرات:

ففي قوله تعالىٰ: ﴿وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَٰوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)[سورة : النمل (87).]هذه النفخة تسمى نفخة الفزع.

وهناك نفختان ذكرهما الله في سورة الزمر في قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَٰوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68)﴾.[سورة : الزمر (68).]

فحصل من هذا ثلاث نفخات:

  • نفخة الفزع.
  • ونفخة الصعق.
  • ونفخة القيام والبعث.

المؤلف رحمه الله ذكر في هذه الآية نفخة البعث التي يقوم بها الناس لرب العالمين كما قال الله عز وجل: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)﴾ثم قال: ﴿أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾[سورة : المطففين (1-6).]فهذا القيام هو عقِب النفخ الذي يقوم به الناس من قبورهم ويُحشرون إلى ربهم.

قال رحمه الله: في قوله تعالىٰ: ﴿فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾.[سورة : يس (51).]أي يأتون من كل مكان ويجتمعون من كل صوب. والنسل في قوله تعالىٰ: ﴿يَنسِلُونَ﴾يدل على كثرة وعِظم هذا البعث وأنه بعث عظيم يأتي بالناس ويجمعهم من كل مكان.

قال رحمه الله: (ويُحْشَرُ النّاسُ يومَ القيّامةِ) بعد أن ذكر البعث وقيام الناس لرب العالمين ذكر الحشر فقال: (ويُحْشَرُ النّاسُ يومَ القيّامةِ) ويُحشرون أي يُجمعون، وهذا الجمع ليس خاصًّا بالناس إنما خص المؤلف رحمه الله الناس بالذكر هنا لكون الناس هم المقصودين بالبعث وهم المقصودين بالنشور؛ لأن الحساب والجزاء ليتبين أهل السعادة وليتبين أهل الشقاء.

وأما بعث ونشر وحشر غيرهم فهو تابع، قال الله تعالىٰ: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)[سورة : الزمر (68).]فالوحوش تُحشر وتُجمع، وقال تعالىٰ في حشر الخلائق: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)[سورة : الأنعام (38).]فكل الخلق يُحشرون، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)﴾أي كل ما طار وكل ما درج، وكل ما خلقه الله عز وجل يُحشر يوم القيامة، فكل ذي حياة يُحشر يوم القيامة ويؤتى به إلىٰ أرض المحشر.

قوله رحمه الله: (ويُحْشَرُ النّاسُ) تخصيص كما قال تعالىٰ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾[سورة : المطففين (6).]فيُحشرون ويجمعون على هذه الصفة التي ذكرها الله عز وجل.

وسمى اليوم بيوم القيامة؛ لأنه ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ولأنه اليوم الذي يقام فيه الميزان والقسط؛ ولأن الله عز وجل يقيم فيه العدل، فهذا هو سبب تسمية هذا اليوم بيوم القيامة.

قال -رحمه الله- في صفة حشر الناس: (حُفَاةً عُراةً غُرْلاً بُهْمًا) وهذه الأوصاف جاءت بها السنة، ففي حديث ابن عباس في الصحيحين[البخاري: كتاب الرقاق، باب كيف الحشر، حديث رقم (6527).

    مسلم: كتاب في الجنة ، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، حديث رقم (2859).]قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ: ((إنكم ملاقو ربكم حُفَاةً عُراةً غُرْلاً)) وأما زيادة (بُهْمًا) فجاءت في مسند الإمام أحمد بسند لا بأس به، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُحْشَرُ النّاسُ يومَ القيّامةِ حُفَاةً عُراةً غُرْلاً بُهْمًا))قالوا: ما بهُماً يا رسول الله؟ قال: ((ليس معهم شيء))، ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾،[سورة : الأنبياء (104).]﴿وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء[سورة : الأنعام (94).]فيأتي يوم القيامة كل أحد ليس معه شيء، ليس معه شيء من هذه الدنيا إلا ما كان من العمل الصالح، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين: ((يأتي الرجل يوم القيامة فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه)) جهة شماله((فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار))[البخاري: كتاب التوحيد، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، حديث رقم 7512.مسلم: كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة.. حديث رقم (1016).]وإنما ذكر العمل عن اليمين وعن اليسار لأن به يحصل فكاكه مما بيْن يديه.

يقول المؤلف رحمه الله في بيان ذلك الموقف: (حُفَاةً) أي ليس معهم شيء يقي أقدامهم، (عُراةً) ليس معهم شيء يستر أجسادهم، (غُرْلاً) أي قد تم خلقهم فلا نقص فيهم بوجه من الوجوه، حتى هذه القطعة التي تأخذ من الذكور عند ختنهم في وقت ولادتهم أو بعد ذلك تعاد ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)﴾،[سورة : الأنبياء (104).]﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ[سورة : الأنعام (38).]يعني ما يضيع شيء أبداً من خلق الناس، يُجمعون ويكمّل خلقهم ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4)﴾[سورة : ق (4).]يحفظ كل قطعة وكل جزء وكل ذرّة من خلق الإنسان أين ذهبت فيجمعها الله عز وجل ويتركب منها هـٰذا الخلق يوم القيامة، (حُفَاةً عُراةً غُرْلاً بُهْمًا)، قال: (فيقِفونَ في موْقفِ القيّامةِ) أي: في أرض المحشر يقفون قياماً على أقدامهم في ذلك اليوم الشديد العصيب.

قال -رحمه الله-:  (حتّى يَشْفَعَ فيهم نبيُّنَا محمدٌصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يقفون مدة طويلة، وهذه المدة ليست مدة لهو وابتهاج ونظر، إنما هي مدة عظيمة طويلة يطولها الله على أهل المعصية وأهل الكفر ويقصّرها الله جلّ وعلا ويخففها ويهونها على أهل الإيمان والتقى والصلاح الذين قال الله فيهم: ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (38)[ سورة : البقرة (38).]اللهم اجعلنا منهم. يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه الإمام مسلم في حديث المِقْداد بن الأسود: ((إذا كان يوم القيامة أُدنيت الشمس من رؤوس العباد حتى قدر ميل أو قدر ميلين، فيكون الناس في عرقهم بقدر أعمالهم: فمنهم من يأخذه العرق إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه العرق إلى حقويه)) يعني إلى منتصف جسمه ((ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً))[مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفة يوم القيامة أعاننا الله على أهوالها، حديث رقم (2864).]. هكذا يتفاوت الناس في شدة ذلك اليوم بسبب صهر الشمس لهم بقدر ما كان من أعمالهم في هذه الدنيا.

قف الآن في الشمس وانظر مدى أثرها عليك، وهل تطيق ذلك أو لا؟ يوم القيامة هذه الشمس تُدنـى من رؤوس الخلائق قدر ميل أو ميلين كما في الحديث، والميل إما أن يكون ميل المكحلة يعني الجزء الذي يدخل في دواة المكحلة، وإما أن يكون الميل قدر المسافة، وكلاهما قريب.

يقف الناس في ذلك الموقف العصيب الشديد، ثم يضيقون لطول الموقف وشدته فيطلبون فكاكاً من ذلك الموقف، فيطلبون شفاعة سادات الخلق وهم الرسل الكرام، فيبدؤون بآدم أبي البشر يبدؤون به، فيأتون إليه يقولون: يا آدم أنت الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ يعني من الشدة والكرب، فيقول: لست لها، اذهبوا إلى نوح، فيذهبون إلى نوح ويعتذر، ويحولهم إلى إبراهيم فيعتذر، ويحولهم إبراهيم إلى موسى فيعتذر، ويحولهم موسى إلى عيسى ويعتذر، وهذا أربعة من أولي العزم من الرسل وآدم عليه السلام أبو البشر، فيحولهم عيسى عليه السلام إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيأتون إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ في ذلك الموقف الشديد العظيم، يأتون إليه فيقولون: ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ يعني من الشدة والكرب، ألا تشفع لنا؟ فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((أنا لها، أنا لها)) فيقوم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسيجد؛ يخر لله عز وجل ساجداً، لا يبدأ بالشفاعة، فيقال له: ((ارفع رأسك، واشفع تشفع، وقل يُسمع))[البخاري: كتاب التوحيد، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، برقم: (7510).مسلم: كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم: (193).]فيشفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في فصل القضاء؛ أي أن يأتي الله جل وعلا لفصل القضاء بين الخلائق، وهذه هي الشفاعة العظمى التي اختص بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو المقام المحمود الذي يحمده عليه الناس كلهم مسلمهم وكافرهم، وهذه الشفاعة لجميع الخلق مسلمِهم وكافرهم؛ لأن الموقف موقف عظيم يضيق به الناس المسلم منهم والكافر. ولذلك هذه الشفاعة فيها نوع شفاعة للكفار؛ لكنها شفاعة لا تنفعهم في الحقيقة، إذ إن ما يُقبلون عليه وما يقدمون إليه أعظم مما خلّفوه، فهم يُشفع فيهم ليتخلصوا من شدة وكرب الموقف، وينتقلون إلى النار نعوذ بالله من الخذلان والخُسران، ويكون الأمر أشد وأعظم.

يقول:( (فيقِفونَ في موْقفِ القيّامةِ، حتّى يَشْفَعَ فيهم نبيُّنَا محمدٌصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هـٰذه الشفاعة المشار إليها أي نوع من أنواع الشفاعة؟ الشفاعة العظمى؛ المقام المحمود الذي يحمد فيه النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلُّ الخلائق.

قال: (ويُحاسِبُهُم اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالىٰ)، (ويُحاسِبُهُم) أي يحاسب الناس، وظاهر هذه الآية أن الحساب لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم.

وقد ذكر الله -جلّ وعلا- المحاسبة ووصف حسابه بأنه سريع، ووصف نفسه بأنه سريع الحساب، يحاسبهم -جلّ وعلا- على أعمالهم، وهذه المحاسبة لا تختص أهل الإيمان؛ بل تكون لأهل الإيمان وأهل الكفر، إلا أن أهل الإيمان حسابهم حساب يسير كما قال الله -عز وجل-: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)[سورة : الانشقاق (8).]، وهذا لتيسير الحساب عليهم.

أما من نوقش الحساب فإنه يعذب كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ قال: ((من نوقش الحساب عُذب)) قالت: يا سول الله ألم يقل الله عز وجل: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)[ سورة : الانشقاق (8).]؟ فقال: ((لا؛ إنما ذلك العرض))[البخاري: كتاب العلم، باب من سمع شيئاً فراجع حتى يعرفه، حديث رقم (103).مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب إثبات الحساب، حديث رقم (2876).]أي إن الله عز وجل يعرض الأعمال على أهل الإيمان ويقررهم عليها؛ لكنه لا يحاسبهم عليها ولا يعاقبهم بها.

أما الكفار فإنهم يحاسبون؛ لكن محاسبتهم ليست محاسبة موازنة، يعني ليست محاسبة من تحصى حسناته وسيئاته فينظر أيهما يرجح؛ لأن الكافر لا حسنات له، قد قال الله جلّ وعلا: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23)،[ سورة : الفرقان (23).]الهباء تدرون ما هو؟ الهباء هو الأشياء المتطايرة في شعاع الشمس، هل توزن هذه؟ هل يتكون منها شيء؟ لا يتكون منها شيء؛ ولذلك قال الله عز وجل في الكافر: ﴿فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)[سورة : الكهف (105).]ليس له وزن؛ لأنه لا عمل له يوزن؛ لكن المحاسبة التي ثبتت لأهل الكفر: هي عد الأعمال. هي إحصاء الأعمال. هي عرضها على الكفار.

وأما المحاسبة التي توضع الحسنات في كِفة والسيئات في كفة، فلا تكون لأهل الكفر لماذا؟ لماذا لا تكون؟ لأنه ليس لهم حسنات حتى توزن وينظر هل ترجح بما معهم من السيئات أو لا، إنما معهم سيئات -نعوذُ بالله من الخذلان- وهي التي تهوي بهم في النار نسأل الله السلامة والعافية.

أهل الإيمان يحاسبون وحسابهم عرض أعمالهم عليهم وأيضاً الموازنة، توازن الحسنات والسيئات، وينقسم الناس في هذا إلى أقسام:

  • منهم من ترجح حسناته.
  • ومنهم ترجح سيئاته.
  • ومنهم من تستوي الحسنات والسيئات.

 هـٰذه أقسام الناس من أهل الإيمان في الحساب، أما أهل الكفر فإنه لا وزن لهم كما قال الله عز وجل في الكفار: ﴿فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾.

يقول رحمه الله: (وتُنْصَبُ الموازينُ) أي تقام الموازين كما قال الله عز وجل: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ[سورة : الأنبياء (47).]فالله -عز وجل-يضع الموازين، وقول المؤلف: (الموازين) يظهر منه أن الوزن ليس بميزان واحد إنما بموازين متعددة؛ لقوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَالموازين العدل التي لا تحيف ولا تظلم، فلا يهضم صاحب الطاعة شيئاً ولا يبخس شيئاً، ولا يُحمَّل صاحب السيئات شيئاً فيوضع عليه من السيئات ما لم يعمل؛ بل هي موازين قسط.

قال رحمه الله: (وتُنْصَبُ الموازينُ)، قلنا: (الموازينُ) جمع ميزان، والأصل في الميزان معروف في كلام العرب، وهو ما يوزن به الشيء، والوزن هنا للأعمال، هذا هو الأصل كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ: ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم))[البخاري: كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح، رقم (6406)،  وهو أيضاً آخر حديث في البخاري.

    مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، حديث رقم (2694).]فالوزن في الأصل يكون للعمل، هو الذي يوزن، والعمل لا تقل كيف يوزن، كيف توزن (سبحان الله)؟ كيف توزن (الصلاة)؟ توزن الصلاة وتوزن الأعمال، يوم القيامة شأنه مختلف عن شأن الدنيا، فإن الأعمال يكون لها وزن عند الله عز وجل،يزنها به سبحانه وتعالىٰ.

فنحن نؤمن بالميزان؛ لكن كيفية الوزن هل ندرك ذلك أو لا ندركه؟ لا ندركه؛ لأن حقائق ما أخبر الله به مما يكون في الآخرة أمرٌ لا تدركه العقول؛ بل نؤمن بما أخبر الله به ورسوله على مراد الله وعلى مراد رسوله دون أن نلج،وأن ندخل في طلب الكيفيات وطلب حقائق تلك الأخبار.

إذاً ذكرنا أن الأصل في الوزن لأي شيء؟ للأعمال، هل يوزن غير الأعمال؟ نعم يوزن غير الأعمال، يوزن العمال وتوزن الصحائف.

أما وزن العمال فكما في حديث ساقي عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في مسند الإمام أحمد حيث قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لما ضحك الصحابة من دقة ساقي عبد الله-: ((أتضحكون من دقة ساقيه؟ فوالله إنهما في الميزان أثقل من جبل أُحد))[ أورده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2750، 3192).]. وفي صحيح الإمام مسلم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((يؤتى بالرجل الكافر العظيم -عظيم الوزن وعظيم الجرم- فلا يزن عند الله جناح بعوضة))،[البخاري: كتاب التفسير، باب ﴿أولئك الذين كفروا بآيات ربهم﴾[الكهف:105]، حديث رقم (4729).

    مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، حديث رقم (2785).]فهذا يدل على أن الوزن يكون للعمال كما يكون للأعمال؛ لكن هل هذا عام في الجميع؟ الله أعلم؛ الذي نوقن بأنه عام للجميع هو وزن الأعمال.

كذلك توزن السجلات، والسجلات هي دواوين العمل، التي يسجل فيها ما يكون من الإنسان، ودليل ذلك ما رواه الإمام الترمذي في جامعه ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بسند جيّد، قال:((يؤتى برجل يوم القيامة، فيؤتى بصحائفه بتسعة وتسعين سجلاً -من السيئات- كل سجل مد البصر، فتوضع في كفة ، ويؤتى ببطاقة فتوضع في الكفة الأخرى، فتطيش تلك السجلات)) ما هذه البطاقة؟ ما فيها ؟ فيها (لا إله إلا الله))[انظر الترمذي: كتاب الإيمان، باب فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، حديث رقم (2639).

     والمستدرك: كتاب الإيمان ، رقم (9)]، فدل هذا على أي شيء؟ على وزن سجلات الأعمال.

فقوله رحمه الله: (وتُنْصَبُ الموازينُ) المقصود الموازين التي توزن بها الأعمال، الموازين التي يوزن بها العمال، الموازين التي يوزن بها سجلات العمل. وهذا كله في حق من؟ في حق أهل الإيمان.

أما الكفار فإنهم ليس لهم حسنات توزن؛ بل كل ما قدموه من حسنات يذهب هباءً منثوراً.

وهل هذا ظلم ؟ الجواب: لا، تعالىٰ الله عن أن يظلم أحداً: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِّلْعَبِيدِ (46)،[سورة : فصلت (46).]((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً))،[مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم (6577).]إنما هذا لكونهم جُوزوا وكوفئوا على هذه الأعمال في الدنيا، فإن الله يكافئهم على أعمالهم في الدنيا، والله لا يظلم الناس شيئاً، فيقدمون يوم القيامة ليس لهم  عمل.

يقول رحمه الله: (وتُنْشَرُ الدَّواوينُ)، (تُنْشَرُ) النشر: ضد الطي، وهو البسط والكشف والإشاعة، و(الدَّواوينُ) جمع ديوان، وأصل الديوان الجريدة التي يتكون منها الكتاب، فالديوان قرطاس من قراطيس الكتاب، فالدواوين هي القراطيس التي يكون فيها عمل بني آدم، تُنشر هذه الدواوين التي تتكون منها الكتب على الخلق ذكر الله عز وجل في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)﴾.[سورة : الانشقاق (7-12).]

يقول رحمه الله: (وتَتَطايَرُ صُحُف الأَعْمالِ) والصحائف جمع صحيفة، وهي الدواوين وهي صحف الأعمال (إلى الأَيْمانِ والشَّمائِلِ) يعني من الناس من يأخذ كتابه بيمينه نسأل الله أن نكون منهم، ومنهم من يأخذ كتابه بشماله.

استدل لذلك بقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ﴾وهٰؤلاء هم أهل السعادة، أهل التوحيد، أهل الإيمان، أهل الإسلام يؤتون كتبهم بأيمانهم ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾الحساب اليسير ما هو؟ العرض؛ عرض العمل عليه، فيعرضه الله عليه ويقرره به ويقول: ((قد غفرت لك)) وتطوى تلك الصحائف ويؤول إلى الجنة.

 نسأل الله أن نكون منهم، ﴿وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾بفوزه ونجاته، ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾وهذا بيده اليمنى أو اليسرى؟ اليسرى إنما قال: ﴿وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾بناءً على سوء الحال، وأن الإنسان يخفي هذه الصحيفة، ولا يفرح بها، ويتمنى أن لم تصل إليه؛ لما فيها من سوء الشهادة عليه وبيان مآله ومصيره وأنه من أهل النار، ولذلك يخفيها، ولذلك قال الله تعالى في صفة أخذها: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ(10)فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾أي يقول: يا ثبوراه، يا ثبوراه. وذلك لما بان له واتضح من عظيم الخسار وكبير الفوات الذي حصّله في ذلك الموقف، ﴿وَيَصْلَى سَعِيرًا﴾أي: ويحرق بالنار نعوذُ بالله، فقوله: ﴿وَيَصْلَىأي: يحرق كما تطبخه على النار ،كذلك هذا الذي أخذ كتابه وراء ظهره يَصلى سعيراً.

وقد ذكر الله -عز وجل- الأخذ بالشمائل في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيهْ (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِيهذا السر في أنه بين الله لنا كيف يأخذ كتابه من وراء ظهره ﴿فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) يعني يا ليت الموتة السابقة كانت القاضية ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ (29)[سورة : الحاقة (19-29).]هذا الخبر في سورة الحاقة التي ذكر الله فيها انقسام الناس في أخذ الكتاب ذكر الأخذ بالشمائل، وهنا ذكر موضع الأخذ، وأنه يؤخذ من وراء الظهر.

من العلماء من قال: إن الناس في أخذ الكتاب ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:

  • منهم من يأخذ كتابه بيمينه.
  • ومنهم من يأخذ كتابه بشماله.
  • ومنهم من يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره.

والذي يظهر -والعلم عند الله- أن الناس ينقسمون إلى قسمين:

قسم يأخذ كتابه بيمينه.

وقسم يأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره.

فإنه لا تعارض بين ما في آية الحاقة وبين ما في آية الانشقاق، فإن آية الانشقاق أخبرت بأنه يأخذه من وراء ظهره، وآية الحاقة أخبرت بأنه يأخذه بشماله.

على كل حال هذا انقسام الناس في أخذ ما يكون من الكتب.

قال رحمه الله: (والميزانُ له كِفَّتانِ ولِسانٌ) هكذا جاء في بعض الآثار، ويشهد لهذا ما في حديث عبد الله بن عمرو في جامع الترمذي ومستدرك الحاكم حيث ذكر أن السجلات توضع في كفة والبطاقة التي كتُب فيها (لا إله إلا الله) توضع في الكفة الأخرى.

قال -رحمه الله-: (تُوزَنُ به) أي بالميزان (الأعمال)[في نسخة : أعمال العباد.]وذكرنا أن الوزن يكون للعمل ويكون للعامل ويكون للصحائف ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾أي مثاقيله وأعماله، ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ اللهم اجعلنا منهم، ما معنى وصفهم في الآية بالمفلحين في قوله: ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾المفلح هو من أمِن من المرهوب وأدرك المطلوب، فهؤلاء أمنوا مما يخافون ويرهبون، وأدركوا ما يطلبون ويرجون، فتحقق لهم الفلاح. ﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾أي خفت وطاشت ولم يكن لها ثقل ترجح بالميزان ﴿فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾، ﴿فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ﴾هـٰذا في حق أهل الكفر، وهذا مما يستدل به على أن الكفار يحاسبون، وتوزن أعمالهم؛ لكن الوزن ليس وزن الموازنة بين الحسنات والسيئات؛ لأنهم كما ذكرنا لا حسنات لهم إنما توضع سيئاتهم ويتبين بها سوء حالهم ومنقلبهم.

ثم بعد ذلك قال المؤلف رحمه الله:

(ولنبيِّنا محمدٍصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوْضٌ في القِيامَةِ، ماؤُهُ أشَدُّ بياضًا مِنَ اللَّبَنِ، وأحْلَى مِنَ العَسَلِ، وأَبَارِيقُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بعْدَها أبدًا).

يقول -رحمه الله- في بيان شيء مما يكون في ذلك الموقف: (ولنبيِّنا محمدٍصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوْضٌ في القِيامَةِ) الحوض هو مجتمع الماء، يقول: (ولنبيِّنا محمدٍصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوْضٌ في القِيامَةِ) أي: في أرض المحشر، دليل ذلك أنّ الله -جلّ وعلا- قال لنبيّه: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ[سورة : الكوثر (1).]من الكوثر الذي أعطاه الله -عز وجل- رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك الحوض في ذلك الموقف، والأصل في معنى الكوثر الخير الكثير، والله -عز وجل- قد أعطى رسوله صلى الله عليه وسلم خيراً كثيراً في الدنيا والآخرة، من ذلك ما خصه به من الحوض المورود، وإنما وُصف الحوض بأنه حوض مورود لكثرة من يرده من الناس، وذلك أن حوض النبي صلى الله عليه وسلم أكثر أحواض الأنبياء وارداً، وقد جاء في جامع الترمذي من حديث سمُرة: ((إن لكل نبي حوضاً))[سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في صفة الحوض، حديث رقم (2443). قال الشيخ الألباني: صحيح.]وأعظم أحواض الأنبياء حوض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ذكر المؤلف -رحمه الله- شيئاً من وصفه، والحوض كما هو ثابت بالكتاب ثابت بالسنة تواترت به سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأجمع عليه سلف الأمة وعلماؤها وأئمتها، وهو من أعظم ما خص الله به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أرض المحشر. (ماؤُهُ أشَدُّ بياضًا مِنَ اللَّبَنِ، وأحْلَى مِنَ العَسَلِ، وأَبَارِيقُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بعْدَها أبدًا).هكذا جاء وصف هذا الحوض عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين من حديث أبي ذر وحديث ثوبان وغيرهما من الصحابة، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر بأن ((الله قد أعطاه حوضاً ماؤه أشد بياضاً من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وأحلى من العسل، وعدد كيزانه كعدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً))،[البخاري: كتاب الرقاق، باب في الحوض، حديث رقم (6579).

    مسلم: كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته، حديث رقم (2292).]وجاء في رواية أبي ذر عند مسلم: ((طعمه أحلى من العسل))[مسلم: كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته، حديث رقم (2300).]، وجاء أيضاً في رواية ثوبان. وجاء في رواية أبي ذر أيضاً أن: ((طوله وعرضه سواء))[مسلم: كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفاته، حديث رقم (2300). بلفظ: ((عرضه مثل طوله)).]طوله شهر وعرضه شهر.

هكذا جاءت الأحاديث في وصف هذا الحوض نسأل الله -عز وجل- أن نكون ممن يرد على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه.

(مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بعْدَها أبدًا)، موضع هذا الحوض قبل الصراط فيما يظهر من سياق ما يكون في الموقف أنهم يشربون منه قبل أن يردوا الصراط.

ثم ذكر المؤلف -رحمه الله- الصراط قال:

(والصِّراطُ حقٌّ يَجُوزُهُ الأَبْرارُ، ويَزِلُّ عنْهُ الفُجَّارُ).

طيب (الصِّراطُ حقٌّ) الصراط على وزن فِعَال، بمعنى مفعول أي مصروط، والصراط في لغة العرب يطلق على الطريق الواسع الرحب الذي لا ضيق فيه.

ولذلك قال جماعة من العلماء: إن الصراط واسع؛ لأنه لا يطلق هذا الوصف إلا على ما اتسع.

وقال آخرون في وصفه ما جاءت به بعض الآثار من أنه أدق من الشعر وأحد من السيف.

ولا يعارض هذا وصفه بالصراط؛ لكونه صراطاً مسلوكاً يمر عليه الناس، فالصراط هو الجسر المضروب على ظهر جهنم، لا يدخل أحد الجنة إلا بالمرور عليه، فكل من صار إلىٰ الجنة فقد مر على الصراط، والصراط إنما يمر عليه ويسير عليه أهل الإسلام دون غيرهم، أهل الإسلام أي كل من كان مسلماً سواء من هذه الملة أو من مِلل الأنبياء من قبل، فأهل الكفر لا يجوزون الصراط ولا يأتون إليه بل يُصار بهم إلى النار ابتداءً ، كما في حديث أبي سعيد وأبي موسى في الصحيحين أنه: ((ينادى بالناس يوم القيامة فيقال: من كان يعبد شيئاً فليتبعه، فيتبع عُباد الشمس: الشمس، ويتبع عُباد القمر: القمر، ويتبع عُباد الطواغيت: الطواغيت ويصيرون إلى النار يلقون فيها))[البخاري: كتاب الرقاق، باب الصراط جسر جهنم، حديث رقم (6573).

    مسلم: كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، حديث رقم (182).]يُكبكبون فيها، كما قال الله عز وجل: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)[ سورة : الشعراء (94-95).]فيلقون فيها إلقاءً.

أما الصراط فإنه لا يجوزه؛ أي: لا يسير عليه ولا يمر عليه إلا أهل الإسلام، وذلك أنه إذا سارت كل أمة تعبد شيئاً وراء ما تعبد، يبقى أهل الإسلام في مكانهم في أرض المحشر فيأتيهم الله -عز وجل- في الصورة التي يعرفون فيسجدون له، ثم بعد ذلك يجيزون الصراط على حسب أعمالهم.

يقول رحمه الله: (والصِّراطُ حقٌّ يَجُوزُهُ) أي: يعبره وينفذ من عليه (الأَبْرارُ، ويَزِلُّ عنْهُ الفُجَّارُ) من أهل الإسلام، (يَزِلُّ عنْهُ) أي: يسقط ويتباطأ سير أهل الفجور والفسق؛ لكنه ليس زللاً أو ليس سقوطاً مؤبداً، إنما على حسب ما يكون من العمل، الناس في عبورهم على الصراط يتفاوتون كما وضّحت السنة: فمنهم كالبرق، ومنهم كالريح الشديدة، ومنهم كأجاويد الخيل، ومنهم كركاب الإبل، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من تخطفه الكلاليب.

أسرعهم من يمر كلمح البصر، ثم بعد ذلك من كالبرق، ثم من كالريح الشديدة، ثم كأجاويد الخيل، ثم كأجاويد الإبل، ثم على حسب الترتيب، وهذا التفاوت في السير على الصراط ناشئ عن التفاوت في أي شيء؟ في العمل، قال الله عز وجل: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)[سورة : الواقعة (10).]فالسابقون إلى الطاعات والمبرّات والخيرات في الدنيا هم السابقون إلى فضل الله ورحمته والفوز بالنجاة من النار والفوز بالجنة نسأل الله أن نكون منهم.

 

طيب، نقف عند قوله: (ويَشْفَعُ نبيُّناصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمَنْ دخلَ النّارَ)، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات93701 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات89570 )

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف