الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ الرحمنِ الرحيمِ مالكِ يومِ الدينِ أحمدُهُ لا أُحْصِي ثَناءً عليهِ كَما أثْنَى علَى نفْسهِ أَهْلَ الحمدِ وَالثناءِ لهُ الحمدُ كلهُ أولهُ وآخرهُ ظاهرُهُ وباطِنُهُ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إِلَّا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ شهادةً أرجُو بِها النجاةَ مِنَ النارِ, وأشهدُ أنَّ محمَّدا عبدُ اللهِ ورسولُهُ صَلَّى اللهُ عليهِ وَعَلَى آلِهِ وصحبهِ وَمنِ اتبعَ سنتهُ بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّينِ, أَمَّا بعدُ:
يقولُ ربُّنا جلَّ في علاهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 183] ثمَّ جاءَ البيانُ والإيضاحُ لهذا الكتابِ الَّذي فرضهُ اللهُ تَعالى علَى أوليائِهِ وعَلَى المْؤْمِنينَ الذينَ ناداهمْ في الآيةِ فَقالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَأَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾[البقرة: 183-184] نعمْ إِنَّها أيامٌ مَعْدوداتٌ تلكَ الأيامُ الَّتي يمنُّ اللهُ تَعالَى بِها علَى عبادهِ المؤمنينَ بأنواعٍ مِنَ النَّفحاتِ وألوانٍ منَ العَطايا والهِباتِ ذاكَ العطاءُ الجزيلُ عَلَى العملِ القليلِ مِنْ رَبٍّ يُعْطِي عَلَى القلِيلِ الكثيرَ –سبحانهُ وبحمْدِهِ-أنهُ جلَّ في علاهُ يَصِفُ هذهِ الأَيَّامَ بأَنَّها أَيَّامٌ معدوداتٍ صدقَ ربُّنا وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا, نعمْ إِنَّها أَيَّامٌ معدوداتٌ تلكَ الأيامُ الَّتي يمنُّ اللهُ تَعالَى فِيها علَى عبادهِ بهذا الفرضِ الَّذي يجني بِهِ المؤْمِنُونَ أَجْرًا عظِيمًا وَجزاءً كبيرًا إِنَّها أَيامٌ معدوداتٌ تلكَ الأيامُ الَّتي تهفُوا أفئدةُ المؤمنينَ إِلَى لِقائِها وَإِلَى التفيؤِ بظِلالِها.
ولهذا جاءَ عنِ السلفِ أنهمْ كانُوا يدْعُونَ اللهَ تَعالَى ستةَ أشْهُرٍ قبْلَ رمضانَ أَنْ يبلغهُمْ إياهُ، ثمَّ إِذا انْقَضَى عملهمْ في هَذا الشهرِ وَما يكُونُ مِنْ صالحِ القُرباتِ يسألونَ اللهَ –جلَّ وَعَلا-ستةَ أَشْهُرٍ أنْ يتقبَّلَ منهُمْ ينظرُ: لِطائفٍ المعارفِ, لابنِ رجبِ, ص(148) وهكَذا هُم بينَ انتظارٍ
ورجاءٍ، انتظار لموسِمٍ يتقربونَ فِيهِ إِلَى اللهِ تَعالَى، ورجاء يكونُ هَذا العَملَ قَدْ وقَعَ مقبُولًا مِنَ اللهِ جلَّ في عُلاهُ.
إنَّها أَيامٌ مَعدوداتٌ كَما وصَف ربُّنا جلَّ في عُلاهُ تِلْكَ أزمنةُ الطاعةِ وَهَكَذا يصفُ اللهُ تعالَى أيامُ الطاعاتِ بأَنَّها مَعْدودةٌ كَما قالَ –جلَّ وعَلا-في أَيَّامِ الحجِّ ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ﴾[البقرة: 203] وهُنا في الصيامِ يقولُ جلَّ في عُلاهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾[البقرة: 183-184] إنَّ ذلكَ يتضَمَّنُ سِرًا يتضَمَّنُ حِكمةً أنْ يَصِفَ اللهُ تَعالَى هَذِهِ الأيامَ بهذا الوصفِ المشعرِ بِقلِتَّها المشعرِ بِسرعَةِ انْقِضائِها، فلِماذا وصَفَ اللهُ تعالَى هَذِهِ الأَيَّامَ بِأَنَّها أيامٍ معدوداتٍ؟ ووصَفَ –جلَّ وَعَلا-أيامَ الحجَّ بأَنَّها أيامٌ معدوداتٌ؟
إنَّ اللهَ تَعالَى وصفَ هذهِ الأَيامَ بأَنَّها معدوداتٌ لما في ذلكَ مِنْ حثِّ النفُوسِ وترغيبِها لما في ذلِكَ مِنْ تنشيطِ القلُوبِ والأفئدةِ لما في ذلِكَ مِنْ حفزِ كُلِّ راغبٍ في أنْ يغتنِمَ هذهِ الأَيَّامَ علَى قصِرَها ووَجازتِها وعلَى سرعةِ انْقِضائهِا وزوالها إِنَّها أيامٌ عظيمةٌ يتفضلُ اللهُ تَعالَى فِيها علَى أوليائهِ بألوانٍ مِنَ المننِ العاقلُ منْ نفَذَ ببصرهِ إِلَى ما وَراءِ هذهِ الأَيَّامِ مِنَ الأُجُورِ لمنْ عمِلَ فِيها بِالصالحاتِ، وَإِلَى ما يحصلُ مِنَ الغبنِ لمن انشغلَ عنْ هِذهِ الأَيَّامِ بِالملْهِياتِ وَسائِرِ المشْغِلاتِ الَّتي تُعيقُ عنِ اغْتنامِها وَالمبادرَةِ إِلَى ما فِيها مِنَ الخيراتِ.
أيامٌ معْدوداتٌ تلكَ الأَيامُ الَّتي هِيَ مِنْ أَعْمارِنا وقَدْ قالَ الحسنُ –رحمهُ اللهُ-: ما وعظَني شيءٌ أعظمُ مِنْ كَلامِ الحجاجِ حيثُ كانَ يقولُ في خُطبتهِ: إِنَّ امرأً ذهبتُ عنهُ ساعةٌ مِنْ عمرهِ في غيرِ ما خلقَ لهُ لحقيقِ أَنْ تَطولَ حسرتُهُ يومَ القِيامَةِ. ينظرُ الذريعةُ, للأَصفهانيِّ, ص(270).
إن الله –جل وعلا-وصف هذه الأيام بأنها معدودات ليخبرنا –جل وعلا-بسرعة انقضائها، فكُلُّ معدودٍ لابُدَّ أنْ يَنتَهِي، وَلهذا كُلُّ مَعْدُودٍ مهْما طالَ عددُهُ فلابُدَّ أنْ يَنْقَضِي، فَهَذا الخبرُ يُعلِّمُنا فيهِ جلَّ في عُلاهُ بأَنَّها أَيامٌ سُرعانَ ما تنقضِي العدةُ إِمَّا ثلاثُونَ يَوْمًا أوْ تِسعةً وعشرونَ يَوْمًا ثمَّ تنقَضِي هذهِ الأَيَّامُ.
وهَذا الشهرُ سُرعانَ ما تتعاقبُ أيامهُ ولياليهِ ثمَّ تزولُ وترتحلُ وأَصدقُ ما يُقالُ فيهِ ما قالهُ الشاعِرُ:
|
أَجِدَّك قَد جدَّت بك الآنَ رِحلةٌ |
|
رُوَيدَكَ أَمسِكْ، للوَداعِ قَليلا |
|
نَزَلْتَ فَأَزْمَعْتَ الرَّحيلَ كأنَّما |
|
نَويتَ رحيلاً إذْ نَويتَ نُزولا |
هكَذا هَذا الشهرُ فَما أنْ يحلَّ ويهنئَ المؤْمِنونَ بَعضُهُمْ بَعْضًا ببلوغُهِ وَإدراكهِ إِلَّا وتتابعُ أَيامهُ وَلياليهِ ثُمَّ تنقضِي كَما قالَ –جلَّ وَعَلا-: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾[البقرة: 184] إنَّ اللهَ تَعالَى وصفَ هَذا الشهرَ بأنهُ أَيَّامٌ معدوداتٌ ليصبرَ المؤمنُ نفسهُ ويحبسَ فُؤادهُ عَمَّا يشتهيهِ وَما يلتذُّ بهِ حتىَّ يُدركَ ما فيهِ منَ الفَضائلِ.
ولهذا ما أُعْطِيَ أحَدٌ عطاءً خَيرًا وَلا أَوْسَعُ مِنَ الصبرِ كَما في الصَّحيحينِ مِنَ حدِيثِ أَبي سعيدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ النبيُّ –صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: «ومَن يَصبِرْ يُصبِّرْه اللهُ»ثمَّ ذكرَ النبيُّ –صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّم-فضيلةُ الصبرِ فقالَ –صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ-: «وَما أُعْطِيَ أَحدٌ عطاءً هُوَ خَيرٌ وأَوْسَعُ مِنَ الصَّبرِ» البخاريُّ(1469), ومسلمٌ(1053) فَهذا الوصْفُ لهذهِ الأيامِ بأَنَّها معدوداتٌ إِنَّما هُوَ بيانٌ لأَنَّنا ينبَغِي أَنْ نُصَبِّرَ أنفُسَنا عليْها وَما فِيها منْ مكابدَةٍ وفِيها مِنْ مُجاهَدةٍ وَفِيها مِنْ عناءٍ حَتَّى نَفُوزَ بِما رتَّبَ اللهُ تَعالَى علَيْها مِنَ الأَجْرِ ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[الزمر: 10] فَما هِيَ إِلَّا ساعةٌ ثمَّ تنقَضِي وَيُصبحُ ذُو الأَعْمالِ فرحانَ جاذِلًا.
إِنَّها أَيَّامٌ معدوداتُ وَصَدَقَ ربُّنا بِوَصْفِها بهذا الوصْفِ، لأَنَّها أَيَّامٌ سَريعةُ التقَضِّي سريعةُ الانْتهاءِ وَهَكَذا هِيَ أَعمارُنا جَمِيعًا، فإنَّها تنقضِي سرِيعًا وتزولُ بأقربِ ما يكونُ وإِذا أردتَ أنْ تَقِيسَ انْقِضاءَ الأيامِ وَسرعةِ تَوالي الساعاتِ وَاللحظاتِ، فانظرْ إِلَى هَذِهِ المواسِمِ كَيْفَ يُدْرِكُها النَّاسُ يُقبِلُونَ علَيْها مُسْتَبْشِرينَ ثُمَّ سُرْعانَ ما تزُولُ وترتَحِلُ هَكَذا عُمْري وعُمْرُكَ.
فَالأَعْمارُ آجالٌ مَضْروبةٌ وأَيَّامٌ مَعْدُودةٌ وأَرْزاقٌ مَقْسُومَةٌ كَما قالَ النبيُّ –صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَعلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-: «لنْ يُعْجِّلَ شيْئا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شيْئا عَنْ حلِّهِ» مسلمٌ(2663) فينْبَغِي لِلمُؤْمِنِ أَنْ يَغْتَنمَ أَيامَ عُمُرهِ وَأَنْ يُبادِرَ إِلَى اغْتِنامِ هَذهِ الأَيَّامِ فَوَصَفَها بهَذا الوَصْفِ يُشْعِرُ بأَنَّ أَعْمارَنا قَصِيرَةٌ، فَإِنَّها أَيَّامٌ مَعْدُودَةٌ وَهَذِهِ هِيَ أَيَّامُنا وَأَعْمارُنا كَما قالَ النَّبيُّ –صََلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ-فَإِذا كانتْ هَذِه الأَيَّامُ تَنْقَضِي فَكذلِكَ آجالُنا تنقَضِي بِحسابِ مَنْ لا يَضِلُّ وَلا يذلُّ، بِحسابِ ربِّ العالمينَ.
﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾[الطلاق: 3]، ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾[الرعد: 38] ينبغي لَنا أَنْ نعتبرَ وأَنْ نتَّعِظَ وأَنْ نعلَمَ أَنَّ هذهِ الأيامِ وإِنْ طالَتْ فَهِيَ مراحلُ تُقْضَى وَما هذهِ الأَيَّامُ إِلَّا مراحلُ يحثُّ بِها داعٍ إِلَى الموتِ قاصد وأعجبُ شيءٍ لَوْ تأمَّلْتَ أَنَّها مَراحِلُ تُطْوَى وَالمسافِرُ قاعدٌ ما نُشعِرُ لانْقِضاءِ أيامِنا وَلا لَيالِينا وهَكَذا أَعْمارُنا لا نشعرُ بِها، بَلْ تدفعُ الليلةُ اليومَ ويدفَعُ اليومُ الليلةَ وَالشهرُ الشهرَ والسنةُ السنةَ حتىَّ يأْتي الأجلُ المحتومُ وعِنْدَ ذَلِكَ يكُونُ الإنسانُ رهينُ عملهِ ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾[المدثر: 38] الأيامُ والليالي مُستودعٌ يدعُ فيهِ الإِنْسانُ ما يكونُ مِنَ الصَّالحاتِ.
ولهذا ينبغي أنْ يغتنمَ أَيَّامَ العُمرِ جَمِيعَها ويتأكَّدُ هَذا في تلْكَ الأيامِ الَّتي لَها مزيةٌ عندَ ربِّ العالمينَ، في تلْكَ الَّليالي الَّتي لَها فضيلةُ عندَ ربِّ العالمينَ، فإنَّ الأُجُورَ تعظمُ وَالعطايا تكبرُ وَاللهُ تَعالَى يُنَجِّي مِنَ العِبادِ وَيُعتقُ مِنَ المهالِكِ مَنْ يُعتقُ فِيما اصطفاهُ وَاختارهُ مِنَ الأيامِ ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾[القصصُ: 68].
هَذا وصَلَّى اللهُ وسلَّمَ علَى نبيِّنا محمدٍ وعَلَى آلهِ وأَصْحابِهِ أَجْمعينَ.






