عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الطُّهُور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ مابين السَّموات والأرض ، والصَّلاة نور ، والصَّدقة برهان ، والصَّبر ضياء ، والقرآن حجَّة لك أو عليك ، كلُّ النَّاس يغدو فبائعٌ نفسَه فمُعتقها أو مُوبقها». صحيح مسلم (223).
المقدِّمة:
الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أمَّا بعد
فهذا الحديث الشريف تضمن جملة من الفضائل، لأعمالٍ شتَّى من الصَّالحات والطَّاعات.
معنى الحديث:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الطَّهور شطر الإيمان»:
«الطّهُور» بضمِّ الطَّاء، هو فعل التَّطهُّر، وقُرئ بفتح الطاء، أي «الطَّهُور» فهو الأشياء التي يُتطهَّر بها وعندئذٍ (يكون على تقدير مضاف: أي استعمال الطَّهور حالة الطهارة) دليل الفالحين لطرق رياض الصَّالحين (6/ 360).. وهو في الحالتين يشمل الطهارة الحسّيّة طهارة البدن والثياب والمكان، كما يشمل الطهارة المعنويّة، وهي (طهارة القلب من الشرك والشك والغِلِّ والحقد على المسلمين، وغير ذلك مما يجب التطهر منه) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين: ص (1184).
«شطر الإيمان» (أي شطر الصَّلاة أو جزء من الإيمان، وعبَّر عنه بالشطر إيماءً إلى تشريفه) دليل الفالحين لطرق رياض الصَّالحين (6/ 360).
وإنما كانت الطهارة شطرَ الإيمان، لأنّ الإيمان نصفان: تخلية وتحلية، فالطَّهارة تتعلّق بالتخلية من الرذائل، وهذا هو النصف الأول من الإيمان، (والنصف الثاني هو التحلي بالأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ لا يتمُّ إلا بتنقيته من الشَّوائب وتكميله بالفضائل، فالتكميل بالفضائل نصف والتنقية من الرذائل نصف آخر) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين: ص (1184).
أو: (لأَنَّ خِصال الإيمان قسمان: ظاهرة وباطنة، فالطهور من الخصال الظاهرة ، والتوحيد من الخصال الباطنة، قال - صلى الله عليه وسلم - : «ما منكم من أَحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ، ثم يقول : أشهد أَن لا إِله إِلا الله ، وأَشهد أَن محمدًا عبده ورسوله ، إِلا فُتحت له أَبواب الجنة الثمانية يدخل في أَيِّها شاء» صحيح مسلم (234). تطريز رياض الصالحين، فيصل بن عبد العزيز آل مبارك (1/37).
وهذا يدل على فضيلة الطهارة، وأنَّها من مقوّمات الإيمان.
قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: «والحمد لله تملأ الميزان»:
أي قول "الحمد لله" في ثوابه وأجره، يملأ الميزان يوم القيامة، وهذا يبين عظيم الأجر المترتب على هذه الكلمات الطيبات، فالحمد لله معناه: (الثناء على الله بالجميل الاختياريّ، والإذعانُ له، والرِّضا بقضائه، والميزانُ: المراد منه حقيقتُه أي ما تُوزن به الأعمال، إما بأن تُجسَّم الأعمال أو توزن صحائفُها فتطيش بالسيئة وتثقل بالحسنة) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين: ص (30). ، وذلك لما اشتملت عليه من الثَّناء على الله سبحانه وتعالى والتَّبجيل له؛ لذلك يُستحبُّ للعبد إذا دعا أن يقدِّم بين يديه الثَّناء الجميل، مما يكون أدعى لقبول دعائه.
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض»:
وهذا فيه فضل قول «سبحان الله والحمد لله»، وذلك لأنَّ هاتين الكلمتين مشتملتان على تنـزيه الله من كلِّ نقص، كما في قوله «سبحان الله» وعلى وصف الله بكلِّ كمال، كما في قوله «والحمد لله»، فقد جمعت هاتان الكلمتان بين التَّخلية والتَّحلية كما يقولون.
فالتَّسبيح تنـزيه الله عمَّا لا يليق به في أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه:
-في أسمائه، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} الأعراف: 180 .
-وفي صفاته، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) } النحل: 60، 61 .
-وفي أفعاله، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)} الأنبياء: 16 .
-وفي أحكامه، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)} الكهف: 1، 2 .
وقد تكرّر ذكر «الحمد لله»، ففي مطلع الحديث، قال «الحمد لله تملأ الميزان» أي من حيث الثِّقل، ثم ذكره هنا مقترناً بالتّسبيح، فقال: «وسبحان الله والحمد لله، تملآن أو تملأ مابين السَّموات والأرض» أي من حيث الحجم ، ففضل الشَّيء إما بثقله ووزنه وإما بحجمه وكِبره، وكلاهما في هذه الكلمة العظيمة: «الحمدُ لله»، التي افتتح الله تعالى بها كتابه ؛ ولذلك ورد في الحديث، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أنّ الرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، قال: «إنَّ الله ليرضى عن العبد أن يأكلَ الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشَّربة فيحمدُه عليها» صحيح مسلم (2734). ، وفي ذلك بيانٌ لفضيلة هذه الكلمة الموجزة، وما فيها من الإقرار لله تعالى بالكمال.
ثمّ ذكر النّبي صلى الله عليه وسلم ثلاثةً من الأعمال:
قوله صلى الله عليه وسلم: «الصَّلاة نور، والصَّدقة برهان، والصَّبر ضياء»: والجامع بين هذه الأعمال أنها أنوار، لكنها متفاوتة في إنارتها.
فقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «الصَّلاة نور»: (أي: لصاحبها في الدُّنيا، وفي القبر، ويوم القيامة) تطريز رياض الصالحين (1/37).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «والصَّدقة برهان»: أي: نور له شعاع، فالبرهان هو الشُّعاع الذي يكون في وجه الشَّمس، وهو أقوى من النُّور لم أجد هذا المعنى فيما اطّلعتُ عليه من المعاجم وكتب غريب الحديث.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «والصَّبر ضياء»: وفي بعض الروايات: «والصَّوم ضياء»، والضِّياء أقوى من الأنوار المتقدمة، ولذلك قال الله جل وعلا : {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} يونس: 5 ، فالضياء أقوى نوراً وإشعاعاً؛ فميَّزَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بين درجات الأنوار التي تكون في الأعمال الصالحة، فكان الصبر أعلاها نوراً؛ لأنه الجامع لها، فلا يصلِّي مصلٍّ إلا بالصبر، ولا يتصدَّق متصدِّق إلا بالصبر، ولا يكون صالحٌ في الدنيا ولا في الآخرة إلا بالصَّبر، والضياء نورٌ فيه إحراق، وهذا يتناسب مع كون الصبر لا يكون إلا بشيءٍ من المشقَّة والكُلفة والعناء الذي يصاحب العمل، وهذا يُبيِّن لنا فضيلة الصبر، وأنّه من أكثر الأعمال استقامة وصلاحاً، يدل له أنَّ الله تعالى ذكر الصبر في القرآن أكثر من تسعين مرة تمجيداً وثناءً وبياناً للأجر وحثَّاً عليه، ووصفاً لأوليائه به، فكل هذا يبين عظيم فضيلة الصبر، وأنه لا قوام لإنسان في حياته ولا صلاح له في معاشه إلا بالصبر ، فالصبر ضرورة حياتية يحتاجها كلٌّ من المؤمن والكافر، فليس يدرك الإنسان شيئاً إلا بالصبر، فانظر إلى الزَّرع الذي نأكل منه، لا يكون إلا ببذر البذرة، ثم الصبر عليها إلى أن تنبت، ثم إلى أن تُحصَد، وهكذا الغرس ، لا بدّ من الصبر عليه حتى يُخرِج ثمره، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: «وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصَّبر» صحيح البخاري (1469). فبالصّبر تُبلغ المراتب العالية، وتُدرك الفضائل والخيرات في الدنيا والآخرة.
والصَّبر ثلاثة أنواع:
- النَّوع الأوَّل: الصَّبر على الأقدار المؤلمة، من المصائب والحوادث التي يكرهها الإنسان، وعدم الجزع حال نزولها، وهذا أدنى مراتب الصبر.
- النَّوع الثَّاني: الصَّبر على طاعة الله عز وجل، وهذا أعلى مراتب الصَّبر، وهو الذي أمر الله تعالى به النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الكهف: 28 فهذا النَّوع من الصبر، هو الذي يحفز المؤمنَ إلى المحافظة على الصَّلوات، وهو الّّذي يحمله على برّ والديه وصلة أرحامه، وأداء الحقوق الواجبة عليه.
- النوع الثَّالث: الصَّبر عن المعاصي، وعن مشتهيات النفوس، وما تؤدّي إليه من ترك واجبٍ أو فعل محرمٍ.
وبتكميل الإنسان لهذه الأنواع الثَّلاثة من الصَّبر، يستقيم أمره، ويكمل إيمانه، ويكثر ضياؤه.
فقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «والصَّبر ضياء»: أي أنه يُضيء القلوب ويُنيرها، كما أنه ينير الطريق ويهدي السبيل، فالله يهدي الصَّابرين إلى أحسن الأخلاق والأعمال ويُعينهم على الطَّاعة والإحسان، ومن يتصبَّر يصبره الله، هذا في الدنيا أمَّا في الآخرة، فهو ضياء لأهله في القبور، وضياء لأهله يوم البعث والنشور، وضياءٌ لأهله يوم يلقون العزيز الغفور جلَّ وعلا.
وكل هذه الأنوار المذكورة في الصَّلاة وفي الصَّدقة وفي الصَّبر بأنواعه الثَّلاثة، أنوار معنويّة لكنها يوم القيامة تصير أنواراً حقيقيّة يؤتيها الله تعالى للمؤمنين في الآخرة، على قدر ما كان معهم من الإيمان، وعلى قدر ما كان معهم من الصبر في الدنيا، فمن الناس من يُضيء صبرُه موضعَ قدميه، ومنهم من يضيء صبره ما بين يديه، يتفاوتون في درجات الصبر، وتبعاً له في الأجر والجزاء.
قوله صلى الله عليه وسلم: «والقرآن حجَّة لك أو عليك»:أي: إذا آمنت بالقرآن وصدّقتَه وقمت بحقِّه تلاوة وفهماً وتدبُّراً وعملاً ودعوةً، فإنّه يكون حجّةً لك بين يدي الله عزّ وجلّ يوم القيامة، وإن أعرضتَ عنه، فإنّه يكون حجّةً عليك، ومناسبةُ هذا المعنى بما سبقه: أنّ كل الفضائل المتقدمة، من طهور وذكرٍ لله عزّ وجلّ وصلاةٍ وصدقة وصبر، مصدرها وأساسها القرآن.
قوله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ النَّاس يغدو فبائعٌ نفسَه فمُعتقها أو مُوبقها».فهذه هي حقيقة الدنيا «كلُّ الناس يغدو» أي يخرج أول النهار، «فبائعٌ نفسه» فإما أن يبيعها إلى الله عزّ وجلّ، وعندئذٍ فهو معتقها، أي منجيها من الهلاك بطاعة الله والاستقامة على أمره والقيام بحقه ، وإما أن يبيعها إلى الشيطان، وعندئذٍ فهو مهلكها وذلك بارتكاب كل معصية وفساد وبعدٍ عن طاعة الله عز وجل، فهذا حال سعي المرء في هذه الدنيا، فإما أن يسعى في فكاك نفسه من النار والنجاة بها من المهالك في الدنيا والآخرة، وإما أن يجعل ما آتاه الله من النّعم سبباً لإباقه عن سيّده وهلاكه في أيّ مهلكةٍ من مهالك الدنيا، والعياذ بالله.
من فوائد الحديث:
-أنّ الطهارة الحسّيّة بنظافة البدن والثياب والمكان، لها علاقة وثيقة بالإيمان بالله تعالى، وأنّ كلاً منهما يدعو إلى الآخر.
-ذكرُ الله عزّ وجلّ بالثّناء عليه وتقديسِه وتنزيهِه، وقولُ: "سبحان الله والحمد لله"، له أعظم الأجر عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.
-بيان أنّ الصلاة نور لصاحبها في الدّنيا وفي القبر ويوم القيامة، وأنّ الصدقة حجّة لصاحبها في طلبه بها الأجر وابتغائه بها من فضل الله تعالى.
-الصّبر من أعظم الأعمال الصَّالحة ضياءً ونوراً، لأنّه شرطٌ لازم في تحقيق كلّ عملٍ صالح، فكلّ عملٍ صالح سواء كان إيجابياً فعليّاً، أو كان سلبيّاً تركيّاً، فلا بدّ فيه من الصَّبر، حتى يستكمل مقوّمات قبوله عند الله تعالى، بيد أنه شرط ضروريّ لتحقيق الإنجاز في الحياة، لا يستغني عنه مسلم ولا كافر، لكنّ المسلم مأجور عليه في الدنيا والآخرة، وذلك سواءٌ كان صبراً على أقدار الله المؤلمة، أو كان صبراً على الطاعة، أو كان صبراً عن المعصية.
-القرآن هو النور الذي إذا استضاء منه القلب، انبعث لكلّ عملٍ صالح، أو إذا حُرم منه القلبُ كان لمّة للشيطان ومسرحاً لوساوسه، فهو حجة الله البالغة على العبد أو للعبد.
-الحياة الدنيا في حقيقتها: سوق لبيع النّفوس، فإمّا بيعت لله عز وجلّ، فسلمت ونجت، وإما بيعت للشيطان، فخسرت وهلكت.