عن عطاء بن أبي رباح قال : قال لي ابن عباس رضي الله عنهما: ((ألا أريك امرأةً من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع وإنِّي أتكشَّف، فادعُ الله لي، قال: إن شئتِ صبرتِ ولك الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله تعالى أن يُعافيَك. قالت: أصبر ، فقالت: إني أتكشَّف ، فادعُ الله ألا أتكشف، فدعا لها)) صحيح البخاريّ (5652)، وصحيح مسلم (2576)..
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،
أمَّا بعد ففي هذا الحديث بيانٌ لفضيلةٍ أخرى من فضائل الصَّبر على البلاء، تظهر من خلال إثبات الأجر الكبير والثواب الجزيل، على من احتسب الأجر عند الله عز وجلّ، وصبر على البلاء، وإن كان قادراً على رفعه.
معنى الحديث:
*قول ابن عبَّاس لعطاء بن أبي رباح رضي الله عنهم جميعاً: ((ألا أريك امرأةً من أهل الجنة؟)): أي ألا أدلّك على امرأة ستكون من أهل الجنّة؟ وذلك على سبيل إثارة التّشويق بخبر هذه المرأة السّعيدة.
*قول عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه: ((قلت: بلى!)) وهي حرف جواب يختصّ بإبطال النّفي، وإثبات المعنى الوارد بعده في السؤال.
*قول ابن عبَّاس لعطاء بن أبي رباح رضي الله عنهم جميعاً: ((هذه المرأةُ السَّوداء)): أشار ابن عبّاس إلى امرأةٍ سوداء، اسمها سُعَيرة الأسديّة (أو سُقيرة، أو سُكيرة)، وكنيتها: أم زُفَر، وذُكر أنها ماشطة خديجة رضي الله عنها، والتي كانت تتعاهد النبي صلى الله عليه وسلم بالزيارة، وكان النّبي صلى الله عليه وسلم يكرمها لأجل خديجة.
*قول ابن عبَّاس رضي الله عنه، عن هذه المرأة السوداء رضي الله عنها، أنها: ((أتت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع وإنِّي أتكشَّف، فادعُ الله لي)) فقد جاءت هذه المرأة للرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم، فشكت إليه من أمرين: الأمر الأول: الصَّرع وهو نعوذ بالله منه نوعان، الأول صرَعُ الخلط وهو مرضٌ عضويٌّ ناتج عن تشنج الأعصاب، فعلاجه عند أطباء الأبدان، وأما الثاني فهو صرَع الجنِّ، وينتج عن تسلُّط الجنَّيِّ على الإنسيّ فيصرعه حتى يُغمى عليه، ويتكلّم بلسانه، وهو مذكور في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] ، وعلاجه لدى أطبّاء القلوب. قال ابن حجر بعد أن استعرض طرق الحديث: (وقد يؤخذ من الطرق التي أوردتُها أنَّ الذي كان بأمِّ زُفر كان من صرع الجنِّ لا من صرع الخلط)
أمّا الأمر الثَّاني: فهو أنها عندما يعتريها الصّرَع كانت تتخبّط وتغيب عن وعيها، وتفقد القدرةَ على التحكم في جسدها، وعندئذٍ تتكشّف ويظهر منها ما تسترُه في العادة.
فبسبب هذين الأمرين، سألت هذه المرأةُ الرسولَ صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ الله لها أن يشفيها.
*قول الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم للمرأة: ((إن شئتِ صبرتِ ولك الجنَّة، وإن شئتِ دعوتُ الله تعالى أن يُعافيَك!)): وهذا تخيير، فخيَّرها النَّبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين: أن يدعو لها فينكشف ما أصابها، أو أن تصبر على مصابها محتسبةً صابرةً، ولها الجنة، فاختارت رضي الله عنها الصبرَ.
*قول المرأة للرّسول صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنِّي أتكشَّف، فادعُ الله ألا أتكشَّف)):
وذلك لكراهيتها أن يبدو منها في هذه الحال ما يسوءُها أن يطلع الناس عليه، فدعا لها الرسول صلى الله عليه وسلم.
من فوائد هذا الحديث:
-أنّ الشَّهادة للمعيّن بالجنة أو بالنّار، لا تصحّ ولا تجوز، إلا بوحيٍ من القرآن أو خبر من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فالمقرّر في نصوص الشّرع، أنّ أهل الجنّة يُعرَفون بأوصافهم من التّقوى والإيمان والعمل الصَّالح، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} [الكهف: 107، 108]، ولا يُعرفون بأعيانهم، وأنّ أهل النّار يُعرفون بأوصافهم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)} [الحج: 51]، فالفارق كبير بين الشَّهادة العامّة لكلّ مسلم أنه في الجنّة، ولكلّ كافرٍ أنّه في النار، وبين الشهادة لأشخاصٍ بعينهم أنهم في الجنّة أو في النار، ما لم يرد فيهم وحيٌ من القرآن أو خبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
-جواز طلب الدعاء من الغير فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على هذه المرأة طلبَ الدُّعاء ، ولهذا قال أهلُ العلم إنَّ طلب الدعاء من الغير مشروعٌ في الجملة ؛ لكنَّه خلافُ الأولى، فالأولى أن يدعو الإنسان لنفسه؛ إلا أن يكون في طلب الدعاء مصلحةٌ للدّاعي نفسه، كما هو الحالُ في طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من أمّته أن تدعو له: ((من قال حين يسمع النِّداء: اللهمَّ ربَّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلَّت له شفاعتي يوم القيامة)) صحيح البخاري (4719). فهو صلَّى الله عليه وسلَّم، غنيٌّ عن دعائنا؛ بل نحن المفتقرون إلى دعائنا له، رجاء أن ننال شفاعته، كما ورد جواز طلب الدعاء من الغير، في قصة الرجل البارِّ بأمِّه، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أويس، لا يدع باليمن غير أم له، قد كان به بياض، فدعا الله فأذهبه عنه، إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم)) صحيح مسلم (2542). ففي هذه الحالة الرسول صلى الله عليه وسلم هو الّذي ندب إلى طلب الدعاء من هذا الرجل الصالح.
- الصبر على المصائب أجره عظيم وجزاؤه كبير، فهذه المرأة خيَّرها النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين فاختارت الصبر فكان جزاؤها الجنة.
- استدل بهذا الحديث جماعة من أهل العلم على أنَّ الأفضل للمرء ترك التداوي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد خيّر هذه المرأة بين أن يدعوَ لها فينكشف ما بها وبين أن تصبر وتحتسب فيكون لها الأجر، فقالوا بناءً على ذلك: إنَّ الأفضل ترك التداوي، ولا ريب أنَّ النّظر إلى جملة النصوص الواردة، يفيدنا بأنّ الأصل في حكم التداوي هو الإباحة والحِلُّ، وأنه لا يكون واجباً إلا إن كان المرض يُفضي إلى هلاك فهنا يتعيّن طلب العلاج، لقول الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، فالأصل في التداوي هو الإباحة، ثم تعتريه الأحكام التكليفية الخمس، بحسب الأحوال المختلفة.
- مشروعيّة الدُّعاء من أجل تحقيق مقصود شرعيٍّ، فهذه المرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لها بأن لا تتكشَّف، وهذا يتحقَّق به مقصود شرعي، فلذا بادر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدعاء لها.
- فضيلة هذه الصحابية رضي الله عنها، فإنها آثرت الآخرة على الدنيا، وصبرت على هذا المرض وما يُسبّبه لها من الألم والمعاناة، وفوات مصالح كثيرة، وذلك ابتغاءً للأجر الأخروي الذي بشّرها به النبي صلى الله عليه وسلم.
- أنّ الجنة فيها مراتبُ ودرجات، وقد وعد الله عزّ وجلّ الصابرين بأعلى هذه المراتب، فقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)} [الزمر: 10] فقوله {بغيَرِ حسابٍ} يُفيد بأنَّ العطاء الّذي ينالونه أكبر ممن أن يحصره عدٌّ.