الحلقةُ السادِسةُ.
الحمدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيبًا مُباركًا فيهِ، أحمدهُ لا أُثْنِي ثَناءً عَليهِ، هُوَ كَما أَثْنَى عَلَى نفسهُ، لهُ الحمدُ كُلُّهُ أولهُ وآخرهُ وَظاهرهُ وباطنهُ، أَحْمدُهُ حَمْدًا يُرضيهُ، حَمْدًا يبلغُ ما أعدَّهُ لِعبادِهِ الصَّالحينَ مِمَّا لا عينٌ رأَتْ وَلا أُذُنٌ سمعتْ وَلا خَطرَ علَى قلْبِ بَشَرٍ، وأَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهُ إِلَّا اللهُ وحْدهُ لا شَرِيكَ لهُ، إِلَهُ الأَوَّلِينَ والآخِرينَ رَبُّ العالمينَ لا إلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحيمُ، وأشهدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ ورَسُولهُ صَفِيُّهُ وَخليلُهُ وَخِيرتُهُ مِنْ خلْقِهِ، بعثهُ اللهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحقِّ بينَ يدَيِ السَّاعَةِ بَشيرًا ونَذِيرًا، داعِيًا إِلَيْهِ بإذنهِ وَسِراجًا مُنِيرًا، وبلَّغ الرِّسالَةَ، وأَدَّى الأَمانَةَ، وَنصحَ الأُمَّةَ وَجاهَدَ في اللهِ حَقَّ الجهادِ حَتَّى أَتاهُ اليقينُ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ.
اللهُمَّ صَلِّ علَى محمدٍ، اللهُمَّ صَلِّ عَلَى محمدٍ، اللهُمَّ صلِّ عَلَى محمَّدٍ وعَلَى آلِ محمدٍ كَما صَلَّيْتَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْراهِيمَ إِنَّك حَمِيدٌ مجيدٌ.
أَمَّا بعْدُ فَحياكُمُ اللهُ أَيُّها الإِخوةُ والأَخواتُ في هَذِهِ الحلْقَةِ الجديدةِ، وأَسأَلُ اللهَ تَعالَى أَنْ يَرْزُقنَي وَإِيَّاكُمُ الفِقْهَ بِالتنزيلَ، وَالعَمَلِ بِكتابِ اللهِ الحكيمِ وَسُنَّةِ خَيْرِ النَّبيينَ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، هَذِهِ الحلقَةِ سَنتكلَّمُ فِيها عَنِ النُّورِ الَّذي سَلبَهُ اللهُ تَعالَى أَهْلَ النِّفاقِ، فاللهُ تَعالَى قَدْ ذَكَرَ في مُحكَمِ كِتابِهِ ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا﴾[البقرة:18]، طلَبَ إِيقادَ نارٍ لحاجَتِهِ إِليْها، ﴿فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ﴾ يا لَها مِنْ خَسارةٍ، أَكْبرَ خَسارَةٍ أَنْ تَفقِدَ الشَّيءَ بَعْدَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ، أَكْبَرَ خَسارَةٍ أنْ تَبذُلَ جُهْدًا وَتبذُلَ عَمَلاً لِتَصِلَ إِلَى مُبتغاكَ، ثُمَّ إِذا وَصلْتَ إِلَيهِ وَصارَ في يَدِكَ ذهبَ وَتَلاشَى واضْمحَلَّ ولمْ تُدْرِكْ مِنْهُ شَيْئًا.
هَذِهِ هِيَ حالُ المنافِقِينَ، المنافُقُونَ أَضاءَتْ لهمْ أَنْوارُ الشَّريعَةِ، أَضاءَ لهمْ الهدَى الَّذي جاءَ بِهِ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَضاءَ لهمُ القَرْآنِ فرأَوْهُ وَاشرأَبَّتْ أَعْناقُهُمْ إليْهِ، وأَقْبلُوا علَيْهِ لما وَصَلُوا إِلَيْهِ أَخَذُوهُ بِألسنتهِمْ فَقالُوا: "لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ"، لَكِنَّهُ لمْ ينفذْ ذلِكَ النُّورُ إِلَى قُلُوبهِمْ، فاقْتصَرُوا عَلَى هَذا النورِ في ظاهرهِمْ فَقطْ لما يُدركُونَهُ منَ المصالحِ، فإنَّ المنافِقَ لا يُظْهِرُ الإسْلامَ وَيبطِنُ الكُفْرَ إِلَّا لمصلحةٍ يحقِّقُها ويدْرُكِها، فَهَؤُلاءِ فَعَلُوا ذلِكَ فَأدْرَكُوا نُورًا في الظَّاهِرِ، لكنهُمْ حُرِمُوا لذَّةَ النورِ الَّذِي ينفُذُ إِلَى القُلُوبِ.
إنَّ نُورَ الإِيمانِ أَعْظَمُ ما يمنُّ اللهُ تَعالَى بِهِ عَلَى الإِنْسانِ، أَعْظَمُ مِنَّةً يمنُّ اللهُ تَعالَى بِها عَلَى العَبدِ أَنْ يصطفيهِ بأنْ يجعلهُ مِنْ عِبادهِ المؤْمِنينَ، لذلكَ لم يذكرِ اللهُ تَعالَى المنةَ عَلَى عِبادهِ في نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيا عَلَى تلَوُّنِ النعَمِ الَّتي أنعَمَ اللهُ بِها عَلَى عبادهِ، ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾[النحل:53]، نعمةُ الصِّحَّةِ، المالُ، الولدُ، الزوجَةُ، الوظِيفَةُ، الأَمْنُ، نِعَمٌ كثيرةٌ لم يَذْكُرِ اللهُ تَعالَى نِعْمَةً مِنَ النِّعَمِ بِصِيغَةِ المنِّ إِلَّا نِعْمَةَ الهدايةِ، يَقُولُ اللهُ تَعالَى:﴿كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا﴾[النساء:94]، كنتم في ضلال، في عمى، في انحراف، في بعد عن الحق، في خروج عن الصراط المستقيم فمنَّ عليكم، ﴿كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ﴾ فأدخلكم إلى هذا الدين، صبغكم بأحسن صبغة التي هي صبغة الله، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً﴾[البقرة:138]، إنها صبغة القلوب بالتوحيد لله جل في علاه، والمحبة له والإخلاص وصبغة الظاهر باستقامة السلوك على خصال الإيمان.
إن هذا النور العظيم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله تعالى ذلك في كتابه فقال جل في علاه: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾[المائدة:15]، إن الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم نور، ليس نورًا حسيًّا، إنما هو نورٌ معنوي، نورٌ تشرق به القلوب، تنقشع به ظلمات الأفئدة، تنقشع به قطع الظلام التي تحيط بالقلب، قلوب العباد في ظلمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه من الحديث عن ربه في الحديث الإلهي «خلقت عبادي في ظلمة»[أخرجه الترمذي في سننه(2642)، وحسنه] هذه الظلمة التي جعل الله تعالى العباد فيها لا مخرج لهم إلا بالنور الذي أرسله إليهم.
أول ذلك نور الفطرة التي جعلها الله تعالى في قلوب عباده، ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾[الروم:30]، إنها أنوارٌ غرسها الله في فطر الناس، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه»[صحيح البخاري (1358)، ومسلم (2658)].
إذًا الانحرافُ طارئٌ عَلَى الإِنْسانِ، الأَصْلُ في الهدايَةِ تَكُونُ في فِطَرِ النَّاسَِ مغْرُوسَةٌ، القلبُ مَفْطورٌ عَلَى محبُوبِهِ الأَعْلَى أَي اللهُ جلَّ في عُلاهُ فَلا يُغْنيهِ عَنْهُ حبٌ ثاني، فمِهما طلبَ القلْبُ مَحْبُوبًا يَعْبُدُهُ وَيتقَرَّبُ إِلَيْهِ وَيَتَعَبَّدُهُ جلَّ وَعَلا، لنْ يَجِدَ ألذَّ وَلا أَهْنَأَ مِنَ الَّلجأِ إِلَى اللهِ تَعالَى، إِنَّهُ النُّورُ الَّذِي تُشْرِقُ بِهِ القُلُوبُ، فَإِذا أشْرَقَتْ بِهِ القُلُوبُ انْعَكَسَ ذَلِكَ عَلَى سائِرِ الجَوارِحِ، «أَلا وَإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إِذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ»[صحيح البخاريِّ (52)، ومسلم (1599)]، إِنَّهُ القلْبُ الَّذِي إِذا صَلَحَ صلَحَتْ سائِرُ الجوارِحِ وَإِذا فسَدَ فَسَدَتْ سائرُ الجوارحِ، إنهُ بقدرِ ما يَكُونُ في قَلْبكَ مِنْ نُورِ الشريعةِ، بقدرِ ما يكونُ في قلبكَ مِنَ الهدَى ودينُ الحقِّ ينعكِسُ هَذا عَلَى جَوارِحِكَ، عَلَى كَلِماتِكَ، عَلَى اسْتِقامَتِكَ، لِذلِكَ يعرفُ ما في قَلبكَ مِنْ رَشْحِ عَملِكَ مما يَكُونُ في لِسانِكَ وَمِمَّا يَكُونُ في جوارِحِكَ.
فإنَّ هَذِهِ الثِّمارَ تَبْدُو بِها ما يكونُ في القُلُوبِ فهِيَ المغارِفُ الَّتي تغرف، الشريعة نور، ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾[الزمر:22]، اللهمَّ إِنَّا نسألُكَ أَن تشرح صُدُورَنا لِدينِكَ، وأَنْ تُرْزُقَنا يا ربَّ العالمينَ الاسْتِقامَةَ عَلَى شَرْعِكَ، وأَنْ تجعَلَنا مِنْ حِزبِكَ وَأَوْلِيائِكَ.
وإِلَى أَنْ نَلْقاكُمْ في حلقَةٍ قادمَةٍ أستودِعُكُمُ اللهَ الَّذِي لا تَضِيعُ وَدائِعُهُ وَالسلامُ عليكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَركاتُهُ.