الحمدُ للهِ حَمْدًا كَثِيرًا طيبًا مُباركًا فيهِ، أَحْمدُهُ حقَّ حمدهِ، لا أُحْصِي ثَناءً عليهِ هُوَ كَما أَثْنَى علَى نفسهِ، وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إِلَّا اللُه إِلهُ الأولِينَ والآخِرينَ ربُّ العالمينَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، وأَشْهدُ أَنَّ مُحمدًا عبدُ اللهِ وَرسولُهُ، صفيهُ وخليلهُ، خيرتُهُ مِنْ خلقهِ بعثهُ اللهُ بالهدَى ودينِ الحقِّ بينَ يَدِي الساعةِ بَشيرًا ونذيرًا داعِيًا إليهِ بإذنهِ وسِراجًا مُنيرًا، بلَّغَ الرِّسالةَ وأَدَّى الأَمانةَ، ونصحَ الأمةَ لم يتركْ خيرًا إِلَّا دلَّنا عليهِ، وَلا شَرًّا إِلَّا حذَّرَنا منهُ فصَلَّى اللهُ عليهِ وَعَلَى آلِهِ وصحْبهِ وَمَنِ اتَّبعَ سنتهُ بإحْسانٍ إِلَى يومِ الدِّينِ أَمَّا بَعدُ..
فحياكمُ اللهُ أيُّها الإخوةُ والأخواتُ في هذهِ الحلقةِ الَّتي نتناولُ فِيها مثلا ذِكرَ اللهُ تعالَى فيهِ صَفةَ المنفقينَ في سبيلِ اللهِ.
الإنفاقُ في سبيلِ اللهِ بكلِّ أوجههِ وأنواعهِ وصورهِ مِنْ أجلِ القُرباتِ وأعظَمِها عندَ اللهِ –عزَّ وجلَّ-الإنفاقُ في سبيلِ اللهِ رفعَ اللهُ شأنهُ، وأعْلَى مقامهُ وليسَ أدلَّ عَلَى ذلكَ مِنْ هَذا التَّمثيلِ المتوالي في كِتابِ اللهِ لحالِ المنفقينَ بَيانًا لمضاعفةِ أُجُورهمْ وبيانًا لأَسبابِ حبوطِ العمَلِ، وبيانًا لما يترتبُ علَى هَذا الإِنْفاقِ مِنَ الآثارِ والثِّمارِ، وَما إِلَى ذلِكَ منَ الأَمْثالِ الَّتي تُصَوِّرُ حالَ أُولئكَ الَّذينَ أَخرجُوا الأَمْوالَ منْ أيديهمْ في أوْجُهِها الَّتي أمرَ اللهُ تَعالَى، ونَدَبَ رَغْبَةً فيما عندهُ، قدَّمُوا عاجِلًا يرجون أَجَلًا، قَدَّمُوا قليلًا يرجون كثيرًا، قدموا حاضرًا تعلقت نفوسهم به يرجون بذلك الله والدار الآخرة.
يقول الله في محكم كتابه: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[البقرة: 265]، هَذا ثالثُ الأَمْثالِ الَّتي ذَكَرَها اللهُ تَعالَى لِلمُنْفقينَ في سَبيلِ اللهِ، قَبْلَ هَذا المثَلِ ذَكَرَ اللهُ تَعالَى الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالهَمْ رِياءَ لِلناسِ، وَلا يُؤْمِنونَ بِاللهِ وَاليوْمِ الآخِرِ ما هِيَ حالهمْ؟ ما هِيَ نَتِيجَةُ سَعْيهِمْ؟ ما هِيَ ثمرةُ إِنْفاقِهِمْ؟
بيَّنَ اللهُ تَعالَى ذَلِكَ في المثلِ السابِقِ، وأَنهُمْ كَصَفْوانٍ عليهِ تُرابٌ فأَصابَهُ وَابِلٌ فترَكَهُ صَلْدًا أَيْ: أَجْرَد لا يَقْدِرونَ عَلَى شيئٍ مِمَّا كَسَبُوا.
هَذِهِ الصُّورةُ صُورةٌ مُقابِلَةٌ مُغايِرَةٌ إِنهُمْ قَوْمٌ يُنْفِقُونَ يَرْجُونَ ما عندَ اللهِ يَبتغُونَ مرْضاةِ اللهِ –جلَّ وَعَلا-ليْسَ لهمْ هَمٌّ وَلا غَرضٌ وَلا قَصْدٌ، إِلَّا أَنْ يَفُوزُوا بِرِضا الربِّ جلَّ في عُلاهُ، لِذلكَ يَقولُ: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾[البقرة: 265] أيْ: طلَبًا لِرِضا اللهِ جلَّ في عُلاهُ، وَرِضا اللهِ لا يتحقَّقُ إِلَّا بأَنْ يَكُونَ المالُ طَيِّبًا، وأَنْ يَكُونَ في الموْضِعِ الَّذِي نَدَبَ إِلَيْهِ، فإنَّ اللهَ طيبٌ لا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَمِنَ الطَّيِّبِ ذاكَ المالُ الَّذِي حصَّلَهُ الإِنْسانُ مِنْ كَسْبٍ مُباحٍ حلالٍ بكدٍّ وعَناءٍ، لم يتصَوَّرْ محرَّمًا ولم يَنْتَهِكْ حُرْمَةً لِتَحْصِيلِ تلْكَ الأَمْوالِ.
هَذِهِ الأَمْوالُ الطيبَةُ إِذا أَنْفَقَها يبْتَغِي مَرْضاةِ اللهِ –عزَّ وَجَلَّ- فإنَّهُ سَيُدْرِكُ ثمرةَ هَذا المثلَ يَقُولُ اللهُ تَعالَى في مُحكِمِ كِتابهِ: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾[البقرة: 265]
هُنا بَيانُ أَنَّ هَذا الإِنْفاقَ صاحِبَ نفْسًا طيبةً، صاحَبَ نَفْسًا مُوقِنَةً بعظيمِ الأجْرِ وكبيرِ العَطاءِ، صاحبَ نَفْسًا واثقَةً بأنَّ ما تبذلُهُ مِنَ المالِ ستدركُهُ في الآخِرةِ عَطاءً مِنَ اللهِ –عزَّ وجلَّ-، بلْ تدركُهُ في الدُّنْيا قبلَ الآخِرَةِ سَعَةً وانْشراحا وبهجةً، فإنَّ الإِحْسانَ إِلَى الناسِ يُوجِبُ إِحْسانَ اللهِ تَعالَى لِلعَبْدِ.
يَقُولُ تَعالَى في هذا المثَلِ: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ﴾[البقرة: 265] جنةٌ هِيَ البُسْتانُ كثيرُ الأَشْجارِ لكنْ هَذا البُسْتانَ تَميَّزَ بِرَوْعَةِ مكانِهِ وَطِيبِ مَوْقِعِهِ ﴿بربوة﴾ وهِيَ المكانُ العالي المرتفعُ الَّذِي يتعرَّضُ فيهِ لِلهواءِ النَّقِيِّ وَالشمسِ فَهُوَ مكانٌ مُرتَفِعٌ في مَوْقِعِهِ، مُتعرِّضٌ لِلرِّيحِ، مُتَعَرِّضٌ لِلهَواءِ، مُتَعَرِّضٌ لِلشَّمْسِ، كلُّ مقوِّماتِ طيبِ الثمرةِ، طيب البستان قائمة بقولهِ تعالَى في هذهِ الآيةِ : ﴿بِرَبْوَةٍ﴾[البقرة: 265] مما ذكرهُ اللهُ تَعالَى في هَذا المثلِ يَقولُ تَعالَى في محكِمِ كِتابِهِ: ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ﴾[البقرة: 265]، أيْ: مَطَرٌ شديدٌ، ثمَّ يَقُولُ: ﴿فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ﴾[البقرة: 265]، يعْنِي تضاعفَ الإنْتاجُ، وَالضَّعفينُ هُنا لَيْسَ فَقَطْ في الكِمِّيَّةِ، بلْ في الكميةِ وَالقدَرِ وَفي الكيفيَّةِ وَالطيبِ، فهِيَ أَطْيبُ مِنْ غَيرِها مرتَّيْنِ، وَأكْثَرُ مِنْ غيرِها مِنَ البَساتِينِ مرتَّيْنِ، فَإِنْ لم يُصِبْها وابِلٌ يَعْني إِذا لمْ يأْتِ مَطَرٌ كثيرٌ أَصابها طلٌّ قالَ: ﴿فَطَلّ﴾ وهوَ المطرُ الخفِيفُ.
ولابُدَّ أنْ يُثْمِرَ ذلكَ ثَمرًا وَنِتاجًا وَاللهُ بِما تعْمَلُونَ بصيرٌ،هَذِهِ هِيَ حالُ أولَئِكَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا ابْتغاءَ مرْضاةِ اللهِ، كَثُرَتْ نفقتُهُمْ أوْ قُلْتَ مادامَ أَنَّ النيةَ طيبةٌ والمقصِدُ هُوَ رِضا اللهِ –جلَّ وَعَلا- لا يُبالي المؤْمِنُ مِنْ قَليلٍ أنْفَقَ أَوْ مِنْ كَثِيرٍ، فإِنَّ اللهَ تَعالَى يُعْطِي علَى القليلِ الكثيرَ، وَيُبارِكُ في الكبيرِ حَتَّى يجزيهِ عليهِ الجزاءَ الوفِيرَ، فَاللهُ –عزَّ وَجَلَّ- أكبرُ مِنْ خَلْقِهِ وأَعْظَمُ إِحْسانًا مِنْ كُلِّ المحسْنِينَ، فهُوَ الَّذِي يُقابِلُ الإِحْسانَ بِالإحسانِ والإساءةَ بِالمغفرةِ والصفحَ والعفْوَ.
إنَّ هَذا المثلَ يحفزُ النُّفُوسَ عَلَى تحقيقِ مَعْنييْنِ في كُلِّ نَفَقَةٍ تُنْفِقُها.
أَنا أَدْعُو كُلَّ مُنْفقٍ أُنْفِقُ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا أَنْ يَسْتَحْضِرَ هَذيْنِ المعنييْنِ:
المعْنَى الأوَّلُ:أَنْ يَكُونَ إِنْفاقَكَ للهِ طَلبًا لمرضاتهِ ابْتغاءً لِرضا اللهِ جلَّ في عُلاهُ ليْسَ لِشَيْءٍ آخَرَ لِيَكُونَ هَذا هَمُّكَ، وَإِذا كانَ هَذا همك كُلُّ المقاصِدِ الأُخْرَى الَّتي يقْصِدُها المنفْقُونَ سَتَأْتي تَبَعًا، لَكِنْ إِذا قصدْتَ كُلَّ المقاصِدِ الأُخْرَى وَلم تَقْصِدْ رَضا اللهِ فإِنَّكَ خسِرْتَ الجَمِيعَ.
هَذِهِ مُعادَلَةٌ مُطَّرِدَةٌ مَنْ قَصَدَ اللهَ أَتَى اللهُ لهُ بِكُلِّ شَيءٍ، وَمَنْ قَصَدَ غيرَهُ لم يَنَلْ شيئًا ذاكَ أَنَّ كُلَّ ما لِغيرِ اللهِ يتبدَّدُ وَيضْمَحِلُّ ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾[الفرقان: 23].
الأمرُ الثاني:أَنْ يَكُونَ هَذا الإنفاقُ بطيبِ نَفْسٍ بيقينٍ بِثِقَةٍ بتصديقٍ لِوعْدِ اللهِ وأنَّ اللهَ لا يخلِفُ الميعادَ، فَما أَنْفقْتَهُ سَيَعُودُ إِلَيْكَ أَضْعافًا مُضاعَفَةً، كَما قالَ تعالَى في هذِهِ الجنَّةِ: ﴿فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ﴾[البقرة: 265]، ليْسَ ضِعْفًا واحِدًا، ولَيْسَ نِتاجًا وَاحِدًا كَما يتوقَّعُهُ أَصْحابُ هِذهِ الجنَّةِ، بَلْ هُوَ أضْعافٌ مُضاعَفَةٌ ذَكَرَ أَدْناها ﴿فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ﴾[البقرة: 265] في طيبِ نِتاجِها وَفي كثرتِهِ.
هَذا ما يَنْبَغِي أَنْ يَستحضرهُ المؤْمِنُ في إِنْفاقِهِ، وليعْلَمْ أَنَّهُ مَهْما أَظْهَرَ شَيْئًا فاللهُ عليمٌ بِالخَفايا؛لِذلكَ خَتَمَ اللهُ تَعالَى هَذا المثلُ بِالتذكيرِ بِأَنَّهُ بَصِيرٌ، وَاللهُ بِما تعمَلُونَ بصِيرٌ، أَيْ أَنَّهُ –جلَّ وَعَلا- يُبَصِّرُ ما يُنْفِقُهُ الإِنْسانُ، وَالبَصَرُ الَّذِي ذكرَهُ اللهُ تَعالَى هُنا لَيْسَ مَقْصُورًا عَلَى الظَّاهِرِ، بَلْ أَنَّهُ يَشْمَلُ الظَّاهِرَ وَالباطِنَ «إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».[صحيحٌ مُسْلِمٍ(2564)]
السرُّ عندهُ عَلانيَةٌ، والظاهرُ عندهُ كالباطنِ، فَلا فَرْقَ فِيما يقَعَ عليْهِ نَظَرُ الرَّبِّ بيْنَ الخَفايا وَالظواهِرِ، لِذلكَ احْرِصْ عَلَى أَنْ يَكُونَ إِنْفاقُكَ مُحَقِّقًا لهذيْنِ الوصْفيْنِ، بِقَدْرِ ما تَحَقَّقَ مِنْهُما سَواءٌ كانَ في نفقَةِ الصَّدَقاتِ، الزكاةُ، نَفقةُ الأولادِ، الزَّوجات، الوالدينِ، الأوقافِ، الوَصايا، التبرعاتُ، الهدايا، الهبات كل أنواعِ الإِنْفاقِ الواجبِ والمستحبِّ، احْرِصْ عَلَى أَنْ يَكُونَ ابْتِغاءَ مَرْضاةِ اللهِ، وَأَنْ يَكُونَ تَثْبيتًا مِنْ نفْسِكَ مِنْ نَفْسٍ طيبةٍ، منْ نفسٍ مُوقنَةٍ، مِنْ نفْسٍ مصدِّقَةٍ بِوَعْدِ اللهِ.
إِلَى أَنْ نلْقاكُمْ في حلْقَةٍ قادمَةٍ، أَسْتودِعُكُمُ اللهُ الَّذِي لا تضِيعُ وَدائِعُهُ، وَالسلامُ عليكُمْ ورحمَةُ اللهِ وَبركاتُهُ.