من قول المؤلف رحمه الله :"فعلو الله تعالى بذاته وصفاته من أبين الأشياء وأظهرها دليلاً، وأحق الأشياء وأثبتها واقعا. تنبيه ثالث اعلم أيها القارئ الكريم أنه صدر مني كتابة لبعض الطلبة، تتضمن ما قلته في بعض المجالس في معية الله تعالى لخلقه، وذكرت فيها: أن عقيدتنا: أن لله تعالى معية حقيقية ذاتية تليق به، وتقتضي إحاطته بكل شيء علما وقدرةً وسمعا وبصرًا وسلطانا وتدبيرًا، وأنه سبحانه منزه أن يكون مختلطا بالخلق أو حالاً في أمكنتهم، بل هو العلي بذاته وصفاته، وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها، وأنه مستوٍ على عرشه كما يليق بجلاله، وأن ذلك لا ينافي معيته، لأنه تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. وأردت بقولي (ذاتية) توكيد حقيقة معيته تبارك تعالى. وما أردت أنه مع خلقه سبحانه في الأرض، كيف؟، وقد قلت في نفس هذه الكتابة كما ترى: أنه سبحانه منزه أن يكون مختلطا بالخلق أو حالاً في أمكنتهم، وأنه العلي بذاته وصفاته، وأن علوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها. وقلت فيها أيضا ما نصه بالحرف الواحد: "ونرى أن من زعم أن الله بذاته في كل مكان فهو كافر أو ضال إن اعتقده، وكاذب إن نسبه إلى غيره من سلف الأمة أو أئمتها"اهـ. ولا يمكن لعاقل عرف الله وقدره حق قدره أن يقول: إن الله مع خلقه في الأرض. ومازلت ولا أزال أنكر هذا القول في كل مجلس من مجالسي، جرى فيه ذكره. وأسأل الله تعالى أن يثبتني وإخواني المسلمين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. هذا، وقد كتبت بعد ذلك مقالاً نشر في مجلة (الدعوة) التي تصدر في الرياض، نشر يوم الاثنين الرابع من شهر محرم، سنة 1404 هـ أربع وأربعمائة وألف، برقم: 911، قررت فيه ما قرره شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى: من أن معية الله تعالى لخلقه حق على حقيقتها، وأن ذلك لا يقتضي الحلول والاختلاط بالخلق، فضلاً عن أن يستلزمه. ورأيت من الواجب استبعاد كلمة (ذاتية) ، وبينت أوجه الجمع بين علو الله تعالى وحقيقة المعية. واعلم أن كل كلمة تستلزم كون الله تعالى في الأرض، أو اختلاطه بمخلوقاته، أو نفي علوه، أو نفي استوائه على عرشه، أو غير ذلك مما لا يليق به تعالى؛ فإنها كلمة باطلة، يجب إنكارها على قائلها كائنا من كان، وبأي لفظ كانت. وكل كلام يوهم ولو عند بعض الناس ما لا يليق بالله تعالى فإن الواجب تجنبه، لئلا يظن بالله تعالى ظن السوء، لكن ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسولهصلى الله عليه وسلم فالواجب إثباته، وبيان بطلان وهم من توهم فيه ما لا يليق بالله عز وجل. المثال السابع والثامن: قوله تعالى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} حيث فسر القرب فيهما بقرب الملائكة. والجواب: أن تفسير القرب فيهما بقرب الملائكة ليس صرفا للكلام عن ظاهره لمن تدبره. أما الآية الأولى: فإن القرب مقيد فيها بما يدل على ذلك، حيث قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، ففي قوله: {إِذْ يَتَلَقَّى} دليل على أن المراد به: قرب الملكين المتلقيين. وأما الآية الثانية: فإن القرب فيها مقيد بحال الاحتضار، والذي يحضر الميت عند موته هم الملائكة، لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}، ثم إن في قوله: {أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} دليلاً بينا على أنهم الملائكة، إذ يدل على أن هذا القريب في نفس المكان ولكن لا نبصره، وهذا يعين أن يكون المراد قرب الملائكة، لاستحالة ذلك في حق الله تعالى. بقى أن يقال: فلماذا أضاف الله القرب إليه، وهل جاء نحو هذا التعبير مرادًا به الملائكة؟. فالجواب: أضاف الله تعالى قرب ملائكته إليه لأن قربهم بأمره، وهم جنوده ورسله. وقد جاء نحو هذا التعبير مرادًا به الملائكة، كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}، فإن المراد به قراءة جبريل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أن الله تعالى أضاف القراءة إليه، لكن لما كان جبريل يقرؤه على النبي صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى صحت إضافة القراءة إليه تعالى. وكذلك جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ}، وإبراهيم إنما كان يجادل الملائكة الذين هم رسل الله تعالى. المثال التاسع والعاشر: قوله تعالى عن سفينة نوح: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}، وقوله لموسى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}. والجواب: أن المعنى في هاتين الآيتين على ظاهر الكلام وحقيقته، لكن ما ظاهر الكلام وحقيقته هنا؟. هل يقال: إن ظاهره وحقيقته أن السفينة تجري في عين الله، أو أن موسى عليه الصلاة والسلام يُرَبَّى فوق عين الله تعالى؟. أو يقال: إن ظاهره أن السفينة تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها، وكذلك تربية موسى تكون على عين الله تعالى يرعاه ويكلؤه بها. ولا ريب أن القول الأول باطل من وجهين: الأول: أنه لا يقتضيه الكلام بمقتضى الخطاب العربي، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}، ولا أحد يفهم من قول القائل: فلان يسير بعيني. أن المعني: أنه يسير داخل عينه. ولا من قول القائل: فلان تخرج على عيني. أن تخرجه كان وهو راكب على عينه. ولو ادعى مدع أن هذا ظاهر اللفظ في هذا الخطاب لضحك منه السفهاء فضلاً عن العقلاء. الثاني: أن هذا ممتنع غاية الامتناع، ولا يمكن لمن عرف الله وقدره حق قدره أن يفهمه في حق الله تعالى، لأن الله تعالى مستو على عرشه بائن من خلقه، لا يحل فيه شيء من مخلوقاته، ولا هو حال في شيء من مخلوقاته، سبحانه و تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. فإذا تبين بطلان هذا من الناحية اللفظية والمعنوية، تعين أن يكون ظاهر الكلام هو القول الثاني: أن السفينة تجري وعين الله ترعاها وتكلؤها، وكذلك تربية موسى تكون على عين الله يرعاه ويكلؤه بها. وهذا معنى قول بعض السلف: (بمرأى منى)، فإن الله تعالى إذا كان يكلؤه بعينه لزم من ذلك أن يراه، ولازم المعنى الصحيح جزء منه، كما هو معلوم من دلالة اللفظ، حيث تكون بالمطابقة والتضمن والالتزام".