×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

صوتيات المصلح / دروس / العقيدة / العقيدة الطحاوية / الدرس(15) من شرح العقيدة الطحاوية

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis
الدرس(15) من شرح العقيدة الطحاوية
00:00:01

بسم الله الرحمٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا ولايته. اللهم يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به). آمين يا رب العالمين. التعليق: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. يقول المؤلف رحمه الله في تتمة ما تكلم به في مسائل الإيمان، يقول: (ثم يخرجهم منها برحمته). يخرجهم أي يخرج أهل الكبائر؛ لأنه قال رحمه الله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون). يقول: (ثم يخرجهم منها). أي من دخل من أهل القبلة من أمة محمد، والمقصود بالأمة هنا أمة الإجابة، من دخل منهم النار بذنبه فإنه لا يخلد فيها كما تقدم، بل مآله إلى الجنة، كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة الدالة على عدم خلود أهل الإسلام في النار، وأن الله يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، وهٰذا يدل على أنه لا يبقى في النار من أهل التوحيد أحد، بل قضى الله جل وعلا أن لا يخلد فيها إلا أهل الكفر والشرك دون أهل المعصية من أهل التوحيد والإيمان. (ثم يخرجهم منها). خروجهم منها أي من النار برحمته وشفاعة الشافعين، ذكر المؤلف رحمه الله أسباب خروج أهل الكبائر من النار: برحمته التي وسعت كل شيء، وقدم الرحمة، مع أن الحديث الذي ذكر فيه الشفاعة أخر ذكرها، حيث يقول الرب جل وعلا بعد شفاعة من يشفع:((شفع النبيون، شفع الصالحون، شفعت الملائكة، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين)).( ) قدمها في الذكر لأن الشفاعة برحمته، فالشفاعة إنما هي بإذنه ورضاه: بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع، وذلك من رحمته سبحانه وتعالى بعباده، فرحمته سابقة لاحقة، بل لا يصل الإنسان من الخير إلا برحمة الله عزوجل ، فإن الرحمة دائرة على إيصال الخير ودفع الضر، وهو جل وعلا الرحمن الرحيم، كلا الاسمين مشتق من صفة الرحمة التي هي إيصال النفع ودفع الضر، فإيصال الخير ودفع الضر كله من رحمة الله جل وعلا، والشفاعة إيصال خير إلى المشفوع له، وهو خير للشافع؛ لأنه إكرام له وإظهار لمنزلته، فهو رحمة من الله جل وعلا لعباده الشافع والمشفوع له. (يخرجهم منها) سبحانه وتعالى (برحمته وشفاعة الشافعين). والشفاعة هي التوسط في إيصال الخير ودفع الضر عن الغير، وقد تقدم الكلام عليها فيما مضى، وهي ثابتة يثبتها أهل السنة والجماعة بجميع أنواعها التي دلت النصوص من الكتاب والسنة عليها. فالشفاعة العظمى ثابتة، وشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في رفع الدرجات، وفي دخول أهل الجنة، وفيمن استحق النار أن لا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها، كل هٰذا مما جاءت به النصوص، ودلت عليه دلالة واضحة لا يمتري فيها إلا أهل التشبيه. يقول: (وشفاعة الشافعين من أهل طاعته). هٰذا بيان لمن هو مستحق لأن يشفع، فالشفاعة فضل وكرامة، وهي لا تكون إلا لأهل السبق والطاعة من الملائكة ومن الإنس ومن غيرهم ممن يقدر الله جل وعلا أنه يشفع. قال رحمه الله: (ثم يبعثهم إلى جنته). البعث مضمن معنى الإثارة في اللغة، والمقصود (يبعثهم إلى جنته) أي يدخلهم في جنته، فإنهم يخرجون من النار، ويلقون في نهر الحياة فينبتون فيه، أي في هٰذا النهر ثم يمن الله جل وعلا عليهم بدخول الجنة، ولا تقل: كيف؟ أحوال الآخرة مختلفة عن أحوال الدنيا. يقول: (وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته). ذلك، المشار إليه ما من به على هٰذه الأمة من إخراج أهل الكبائر من النار، وعدم خلودهم فيها، فالمشار إليه هو عدم خلود أهل الكبائر في النار (وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته). والمؤلف رحمه الله استعمل هٰذا اللفظ وإن كان قد يدل دلالة فاسدة عند بعض المنحرفين ،كغلاة المرجئة الذين يقولون: يكفي في التوحيد المعرفة، وإن الإيمان هو معرفة الرب. لكن المؤلف لا يريد هٰذا، يقصد ب (أهل معرفته) أي أهل طاعته كما تقدم في كلامه؛ لأنهم أهل كبائر ولم يفقدوا الإيمان، ولم يخرجوا عن دائرة الإسلام، وهو مستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).( ) والتعرف على الله في الرخاء هو أن يقوم الإنسان بما فرض الله عليه من العبادات الواجبة، وأن يسارع فيما شرع له وندب إليه من العبادات المستحبة. (تولى أهل معرفته) والولاية تقتضي القرب والمحبة والنصر، فإن الله جل وعلا تولى أهل الإيمان، وتوليه لهم يكون بمحبته لهم وتقريبهم ودفع ما يضرهم، ونصرهم في المواطن التي يحبون النصر فيها. يقول: (ولم يجعلهم في الدارين) يعني في دار الدنيا وفي دار الآخرة (كأهل نكرته) يعني كأهل الكفر به من أهل الجحود، وغير ذلك مما يدخل به الإنسان في دائرة الكفر، ويخرج به عن دائرة الإسلام. ولاشك أن الله جل وعلا فرق بين الفريقين، ولم يسو بين أهل الجنة وأهل النار لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل أنكر التسوية بين الفريقين: {أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35) ما لكم كيف تحكمون (36)} ( ). {أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (21)} ( ). فنفى الله جل وعلا التسوية بين هذين الفريقين في الدنيا والآخرة، وهم مفترقون في أحكام الدنيا، مفترقون أعظم الافتراق في أحكام الآخرة، فإن كان هناك شيء من الاتفاق بين أهل النعيم وأهل الإسلام والإيمان، وأهل الإجرام في الدنيا وأهل الكفر في الدنيا، لكنه في الحقيقة لا يستويان مثلا، ولا يستويان في الأحكام، وفي الآخرة يكون الافتراق واضحا بينا يدركه كل أحد، فإن أهل الإسلام يعطون من النور في الموقف ما يتميزون به عن أهل الكفر والنفاق. ثم إذا آل الأمر واستقر الفريقان عظم الافتراق وتبين تبينا لا لبس فيه ولا امتراء فيه: فريق في الجنة وفريق في السعير. فلم يسو الله جل وعلا بين الفريقين، بل فرق بينهما كما دلت على ذلك النصوص. يقول رحمه الله: (ولم يجعلهم) أي يجعل أهل الإيمان ولو كانوا من أهل الكبائر وأهل التقصير والمعصية (ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته) أي أهل جحوده (الذين خابوا من هدايته) أي لم يحصلوا هدايته، وخسروا سلوك هٰذا الصراط القويم الذي يحصل به للعبد الفضل والمنن. قال (ولم ينالوا من ولايته) أي لم يدركوا من ولايته، والولاية المنفية هنا هي ولاية النصر والتقريب؛ لأن الولاية في القرآن نوعان: ولاية عامة لا يخرج منها أحد، وولاية خاصة. الولاية العامة هي التي يرزق الله جل وعلا بها كل أحد، ويدفع عنه السوء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله جل وعلا: ينسبون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم)).( ) فالرزق والمعافاة والإمداد بكل خير لأهل الكفر هٰذا من ولاية الله جل وعلا لهم، لكنها الولاية العامة وليست هي الولاية التي نفاها المؤلف رحمه الله، الولاية التي نفاها المؤلف رحمه الله في هٰذا الموطن وفي هٰذا المقطع هي الولاية الخاصة، التي يحصل بها نصر الله عزوجل لعبده وتقريره وإنجاؤه من مواطن الهلكة ومحبته سبحانه وتعالى، وهي المشار إليها في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)) إلى آخر الحديث. ( ) وفي الرواية الثانية المفسرة لهٰذا الحديث: ((فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يمشي، وبي يبطش)). هٰذه هي الولاية التي تنتفي عن هؤلاء. ثم قال رحمه الله سائلا الله جل وعلا: (اللهم يا ولي الإسلام وأهله). فهو جل وعلا نعم المولى ونعم النصير، هو ولي الإسلام، صاحبه وناصره ومظهره ومحبه، وهو ولي أهل الإسلام، ناصرهم ومحبهم ومقربهم سبحانه وتعالىٰ، فتوسل إليه بما هو سبب للنصر والنجاة (ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به) اللهم آمين. والثبات يكون باستقرار القدم على ما جاء في الكتاب والسنة، بلزوم ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم سبيلا للنجاة: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله)). ( ) فكتاب الله جل وعلا من تمسك به هدي، والمؤلف رحمه الله قد ذكر قبل فقرات قريبة أن أكرم الخلق عند الله عزوجل قال: (وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن) فكلما كان الإنسان أتبع للقرآن ثبتت قدمه على الإسلام، فالإسلام لا تثبت فيه القدم إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، والعلم النافع والعمل الصالح هما اللذان جاء بهما النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} ( ). الهدى: العلم النافع، دين الحق: العمل الصالح، وبهما يحصل الثبات على الإسلام، نسأل الله عزوجل أن يتوفانا وإياكم مسلمين، وأن يلحقنا بعباده الصالحين. (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم. ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا، ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى). يقول رحمه الله: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم). نرى أي نعتقد، والرؤية هنا رؤية العلم والاعتقاد (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر). الصلاة هنا الصلاة المفروضة والصلاة التي يشرع لها الاجتماع من الصلوات المسنونة، يشمل هٰذا وهٰذا، المراد نرى ونعتقد وجوب الصلاة خلف كل بر وفاجر، بر أي صاحب طاعة، فاجر أي مسرف بالمعصية. ولكن المؤلف رحمه الله قيد الفجور بقوله: (من أهل القبلة). يعني من أهل الإسلام، وأهل القبلة تقدم لنا أنهم هم أهل الإسلام الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري منفردا: ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذاك المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا)).( ) فالمؤلف رحمه الله يقول: نصلي خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة. يدخل في هٰذا الكلام الصلاة خلف العصاة والفساق والفجار، فإننا نصلي خلفهم؛ لقول عثمان رضي الله عنه: إن الصلاة من أحسن ما عمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنبهم. كما في صحيح البخاري. ولاشك أن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا صلى الإنسان خلف فاسق فإنه شاركه في خير وبر، لم يشاركه في إثم ومعصية. وهٰذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله هو عقد أهل السنة والجماعة، وأما ما ورد من الخلاف بين الفقهاء في جواز الصلاة خلف الفاسق فإنه خلاف موجود بين الفقهاء، لكن الصحيح ما ذكره المؤلف رحمه الله من أن السلف كانوا يصلون خلف كل بر وفاجر. والإمام لا يخلو من أحوال: الحال الأولى: أن يكون مستور الحال ما نعلم حاله، فهٰذا يجب الصلاة خلفه على كل حال، وترك الصلاة خلفه من البدع التي يخالف الإنسان بها طريق أهل السنة والجماعة، ولم يقل أحد من أهل العلم: إنه يجب أن يسأل عن عقيدة الإمام التي تصلي خلفه، أو أن تفتش عن باطنه، وأن تسأل عن حاله، فإن هٰذا لم يقله أحد من أهل العلم. الحال الثانية: أن يكون من أهل الطاعة، وهٰذا لا إشكال في أن الصلاة خلفه من عمل أهل السنة والجماعة. الحال الثالثة: أن يكون من أهل الفسق والمعصية، وهٰذا فيه الخلاف بين العلماء، لكن الصحيح أنه يصلى خلفه، لا سيما إذا كان إماما، وعلى هٰذا يخرج البحث الذي ذكره الفقهاء في مسألة صحة إمامة الفاسق، فإن بحث الفقهاء في صحة إمامة الفاسق في غير الأئمة، أي غير الأمراء والمقدمين، فإن الصلاة خلفهم ديانة ولو كانوا على فسق؛ لأن الصحابة أحرص منا على الخير وأعلم منا بالشرع، ومع ذلك كانوا يصلون خلف الأمراء أبرارا أو فجارا، بل نقل عنهم أنهم صلوا خلف الحجاج، والحجاج مشهور ظلمه ومعروف حاله عند الصحابة، صلى خلفه عبد الله بن عمر، وصلى خلفه أنس بن مالك، بل إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلى خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان شرابا للخمر، حتى إنه صلى بهم صلاة الفجر أربع ركعات، فلما سلم قال: هل أزيدكم؟ قال عبد الله بن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة. ولم ير هجره وترك الصلاة خلفه؛ لأنه كان الأمير في الجهة التي فيها ابن مسعود رضي الله عنه، المهم أنه مسألة الخلاف في صلاة الفاسق يخرج عنها ما إذا كان النظر في الصلاة خلف من ولاه الله أمر المسلمين، فإنه يصلى خلفه ولو كان فاجرا، وهٰذا من عقد أهل السنة والجماعة الذي تميزوا به عن أهل البدعة. الحال الرابعة من أحوال الإمام: أن يكون مبتدعا، فسقه وفجوره في بدعة لا في معصية، وهٰذا يصلى خلفه أيضا إذا كان لا يجد الإنسان غيره، وإذا كان هو المتولي للجمعة والجماعة ولو كان داعية إلى بدعته، فإن الصحابة والتابعين صلوا خلف ابن أبي عبيد وكان متهما بالإلحاد والبدعة. وكل هٰذا إنما هو لتحقيق معنى الجماعة وعدم الفرقة، وبه نعلم خطأ الذين يفرقون بين الناس، ويدعون إلى المنابذة والمخالفة والتحزب والتشرذم والتفرق، فإن هٰذا خلاف ما كان عليه سلف الأمة. ويشهد لهٰذا -أي للصلاة خلف المبتدع ولو كان داعية إلى بدعته- أن عثمان رضي الله عنه لما خرج عليه الخوارج وحاصروه في بيته، جاءه أحد السائلين فقال له: يا عثمان أنت إمام جماعة، وهٰذا الذي يصلي بنا إمام بدعة، فهل نصلي خلفه؟ فقال المقولة التي ذكرناها قبل قليل، قال: يا ابن أخي إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنبهم. مع أنه رضي الله عنه محصور، والذي يصلي بالناس من أعدائه وخصومه الذين خرجوا عليه، ومع ذلك لم يقل: لا تصل خلفه، بل قال: إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم- يعني صل معهم- وإذا أساؤوا فاجتنبهم. وهٰذا يدل على كمال ورعه رضي الله عنه وعظيم منزلته، و إلا لو كان شخصا من عموم الناس أو من غير عثمان، المتوقع أن يقول: لا تصل خلفه، أقل الأحوال لأنه نازعه حقه وإمامته، مع ذلك قال: صل خلفه، إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس. وهٰذا يدل على كمال فقهه رضي الله عنه . المراد أنه يصلى خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، لكن عند الاختيار إذا أردت أن تختار بين أن تصلي خلف إمام مبتدع وبين إمام من أهل السنة، فعند الاختيار لا إشكال أنه تذهب إلى إمام أهل السنة، لكن في بعض البلاد التي يظهر فيها قول من أقوال المبتدعة، ولا يكون في المكان الذي هو فيه أحد من أهل السنة، فنقول: صل مع الناس، لا تترك الجمعة والجماعة، فإن ترك الجمعة والجماعة هو البدعة، وهو المخالف لطريق أهل السنة والجماعة. يقول: (وعلى من مات منهم). أي من أهل القبلة، فإن أهل السنة والجماعة يرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة، سواء كان فاسقا، مبتدعا، مستور الحال، لا فرق، لكن إن رأى أصحاب المكانة والمنزلة أن يعتزلوا الصلاة على أهل الفجور وأهل البدعة ردعا لبدعتهم، فهٰذا الأمر سائغ ولا بأس به، لكن من حيث العموم يصلي أهل السنة والجماعة على كل من مات من أهل القبلة، يعني ممن ينتسب إلى الإسلام، طيب ولو كان منتسبا إلىٰ الجهمية أو إلى القدرية أو إلى الرافضة؟ الجواب: نعم؛ لأن انتسابه إلى هٰذه البدع المغلظة لا يسوغ الحكم عليه بالكفر عينا؛ لأنه فرق بين أن نقول: الجهمية كفار، وبين أن نقول: هٰذا كافر، فإن المسألة فيها تفريق واضح وبين عند أهل السنة والجماعة، فرق بين التكفير العام وبين الحكم بالكفر على المعين. فيصلى على كل من كان من أهل الإسلام، ولو كان من أهل البدع. يقول: (ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا). لا ننزل أي لا نشهد ولا نحكم لأحد من أهل القبلة بأنه في جنة ولا نار، وتقدم تقييد هٰذا الإطلاق بأي شيء؟ إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بجنة أو نار، إلا من دلت النصوص على أنه من أهل الجنة فهو من أهل الجنة، أو من أهل النار فهو من أهل النار، من عدا من دلت عليه النصوص فإننا نمسك عن الشهادة له؛ لأن شهادتنا له بجنة أو نار لا تنفع. وقوله: (ولا ننزل أحدا منهم) أي من أهل القبلة،طيب، غير أهل القبلة هل ننزلهم النار؟ الجواب: لا، ظاهر عقد أهل السنة والجماعة وما صرح به بعضهم أنه لا يشهد للكفار بالنار على وجه التعيين. انتبه! على وجه التعيين، أما على وجه العموم فكل كافر في النار، لكن على وجه التعيين لا نشهد لمعين بالنار، إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم. يقول: (ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق)؛ لأن هٰذه أحكام مبنية على نصوص، ف(لا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك) يعني من الشرك والكفر والنفاق، ويجب فيما إذا ظهر منهم شيء من ذلك أن نقيم عليهم الحجة، وأن نبين لهم الخطأ، فإن أصروا عليه ولم يرتدعوا عن الكفر أو عن الشرك أو عن النفاق، فعند ذلك حكمنا لهم بما تقتضيه أحوالهم وأفعالهم، لكن بعد إقامة الحجة، وبعد البيان والتوضيح. يقول رحمه الله: (ونذر سرائرهم إلى الله تعالى). نذر أي نكل سرائرهم إلى الله تعالىٰ؛ لأن السرائر لا سبيل إلى معرفتها ولا إدراك ما فيها، فإنها خفايا مستورة لا يعلمها إلا الله جل وعلا، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {يعلم السر وأخفى (7)} ( ).فالسر من علمه سبحانه وتعالى ليس من علم غيره، ما أكنته القلوب وأخفته الأفئدة وأسرته الضمائر علمه إلى الله جل وعلا، ولا يكشف ولا يتبين إلا يوم تبلى السرائر، فيجب ترك السرائر إلى الله، فالبحث في النيات، البحث في المقاصد أمره إلى الله جل وعلا، ليس إليك، لكن من ظهر منه أمر عاملناه وحكمنا عليه بما ظهر منه، لا بما أخفاه صدره، ما لم يعتذر بأمر يوجب رفع الحكم عنه. بالنسبة للصلاة على المبتدع ذكرنا أن كلام المؤلف رحمه الله يشمل كل المبتدعة الذين لم نشهد بكفرهم، الذين لا نعتقد كفرهم، أما من كان كافرا فإنه لا يصلى عليه، في قوله: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم). هٰذا يشمل كل من لم يكفر ببدعته، ولا فرق بين أن تكون البدعة مكفرة وبين أن لا تكون مكفرة، بمعنى أنه قد تكون البدعة مكفرة ويكون القول كفرا، لكن لا نحكم على القائل بأنه كافر، فهنا يدخل في عموم قوله رحمه الله: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم). وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في حكايته للصلاة خلف المبتدعة والتفصيل في ذلك، قال: ويدخل في هٰذا الجهمي والرافضي، وذكر... وذكر في موضع آخر أنه لا يصلى خلف من لا يرى الجمعة والجماعة كأئمة الرافضة. فالمسألة على عمومها في كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم). ولا يعني هٰذا أن يتقصد الإنسان الصلاة على هؤلاء، أو يطلب الصلاة على هؤلاء، ولا يخالف هٰذا ما قرره أهل السنة والجماعة من هجر المبتدع، وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله قال: لا أشهد جنازة جهمي ولا رافضي، ومن أحب أن يشهدهم فليشهد. وهٰذا يدل على أن المسألة فيها خيار، وأنه للإنسان أن يختار أن لا يصلي عليه من باب هجره، لكن فرق بين مسألة الصلاة خلف كل بر وفاجر وبين الصلاة عليه؛ لأن الصلاة عليه ليست لازمة، فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وأما الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة فإنه يصلى خلفهم، إذا كان لا يمكن أن تقام الجماعة والجمعة إلا بالصلاة خلفهم، بل ترك الجماعة والجمعة خلف أهل البدع من البدع. قال رحمه الله: (ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف). (ولا نرى السيف) أي لا نرى القتل (على أحد من أمة محمد) وهم أمة الإسلام الذين عصم الله دماءهم وأموالهم وأعراضهم بكلمة الإسلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام)).( ) فكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فهو معصوم الدم لا يجوز التعرض له بقتل، إلا إذا فعل ما يوجب القتل، ولذلك استثنى المؤلف بقوله: (إلا من وجب عليه السيف). ولا يلزم من وجوب السيف أن يخرج عن الأمة وعن الإسلام، بل هو في الأمة وفي الإسلام وإن وجب عليه السيف، كالذي يقتل بغير حق، يقتل نفسا بغير حق، وكالذي يزني وهو محصن، وما أشبه ذلك من موجبات القتل في شريعة الإسلام: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).( ) ثم قال رحمه الله: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزوجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة). يقول رحمه الله في بيان عقد أهل السنة والجماعة: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا). (لا نرى) أي لا نعتقد ولا نجيز الخروج على أئمتنا، الأئمة هنا هم ولاة الأمر، ولذلك قال في بيانهم: (وولاة أمورنا). أي من ولاه الله أمر المسلمين من أهل الإسلام، فإنه لا يجوز الخروج عليه. يقول: (وإن جاروا). أي وإن ظلموا فإنه لا يجوز الخروج عليهم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ذلك، وأمر بالصبر على جور الولاة أصحابه، وأمر بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين ولو ظهر منه ما يخالف، وهٰذا يدل على أن من عقائد أهل السنة والجماعة التزام الجماعة، ولذلك سموا بالجماعة لأنهم يجتمعون على ولاة أمرهم، ولا تخلو عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة -فيما أدركت ونظرت- من ذكر هٰذا الأمر، وذلك أن فتنة الخروج من أول ما حصل من البدع في هٰذه الأمة، وهي من شر البدع؛ لأنه ترتب عليها من البدع الشيء الكثير، وقد ذكرنا فيما تقدم أن بدعة الخوارج من البدع التي جاء التحذير منها والتنفير منها في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم تحظ بدعة بالتحذير والتنفير كبدعة الخوارج؛ لشدة شرها، ولأنها تفسد ما جاءت به الشريعة، فالشريعة جاءت بالاجتماع والائتلاف والتعاون على البر والتقوى والتناهي عن الإثم والعدوان، والخروج يحصل به الفساد في هٰذا كله وانتفاء هٰذه المصالح كلها. (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا). أي وإن وقع منهم جور سواء بقصد أو بتأويل، لا فرق بين ذلك، يعني سواء كان الجور بتأويل أو بتعمد الظلم، فإنه لا يجوز، بل يجب الصبر والاحتساب على الله عزوجل ما جرى من جور، قال: (ولا ندعو عليهم) أي لا يجوز أن ندعو عليهم؛ لأن الدعاء عليهم منابذة لهم، وهو من أوائل الخروج؛ لأنه خروج بالقول عليهم. وأما قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذكر الولاة: ((خير ولاتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتدعون لهم ويدعون لكم، وشر ولاتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتدعون عليهم ويدعون عليكم)).( ) فهٰذا ليس فيه تجويز الدعاء عليهم؛ لأن بعض الناس يحتج بمثل هٰذا، هٰذا ليس فيه تجويز الدعاء عليهم، إنما هو بيان لعلامة وأمارة وليس فيه أنه يجوز الدعاء عليهم، بل الواجب ما ذكر المؤلف رحمه الله في قوله: (وندعو لهم بالصلاح والمعافاة)؛ لأن في صلاحهم صلاح الأمة. قال رحمه الله: (ولا ننزع يدا من طاعتهم). يعني إذا وقع منهم الجور فلا ننزع يدا من طاعتهم، بل يجب الصبر والطاعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى فيما أوصى أمته بذلك: ((عليكم بالسمع والطاعة ولو تأمر عليكم عبد حبشي)).( ) ومعلوم أن العرب كان تولي مثل هٰذا عليهم من أعظم ما يكون في نفوسهم، ومن أعظم أسباب النفرة وعدم الطاعة، مع ذلك أمرهم بالطاعة ولو كان المتولي عليهم من كان بالأمس رقيقا عندهم يتصرفون به تصرفهم في سائر أموالهم، ومع ذلك أمرهم بالسمع والطاعة، وهٰذا فيه بيان عظم هٰذا الأمر، وأنه لا يجوز الخروج مهما كان الأمر، مادام الحال لم يبلغ ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ((إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه سلطان))( ). يقول: (ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عزوجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية). يعني طاعة ولي الأمر فريضة واجبة يؤجر عليها الإنسان ويأثم بالمخالفة، والطاعة هنا ليست فقط فيما إذا أمروا بالطاعة، بل فيما إذا أمروا بالطاعة وفيما إذا أمروا بما يرون أنه مصلحة وليس فيه معصية مما يحصل به تنظيم أمور الناس، ومن هٰذا نفهم خطأ الذين يقولون في بعض المسائل التي تتبع التنظيمات الإدارية والترتيبات، يقولون: علمنا هل هٰذا يجوز أو لا يجوز؟ إذا قلت لهم مثلا: هٰذا لا يجوز؛ لأنه مخالف للنظام. قالوا: لا،هين اترك النظام، نريد الشرع. هٰذا جهل منهم؛ لأنهم ظنوا أن الطاعة في النظام الذي لا يخالف الشرع ليست من الشرع، وهٰذا خطأ، بل الطاعة في النظام الذي لا يخالف الشرع من الشرع يؤجر عليها الإنسان ويأثم بمخالفته، وهٰذا مما يدخل في كلامه رحمه الله: (ونرى طاعتهم من طاعة الله عزوجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية). فإذا أمروا بالمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والمعصية إما أن تكون معصية عند كل أحد، كأن يأمر مثلا بالزنى فهنا لا يجوز أن تطيعه؛ لأن هٰذا معصية عند كل أحد، طيب إذا كان معصية عندك وليس معصية عند غيرك؟ يعني من مسائل الاجتهاد فهل تطيع أو لا تطيع؟ الجواب: تطيع؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، فإذا كان حكم الحاكم القاضي في المحكمة يرفع الخلاف في قضية من القضايا، قد يقضي عليك القاضي بما ترى أنه خلاف الصواب، لكن قضاء القاضي يرفع الخلاف، فكيف بما هو حكم لمن هو أعلى من القاضي وهو ولي أمر المسلمين؟ فإذا حكم ولي أمر المسلمين بحكم ترى أنت أنه معصية والمسألة من مسائل الخلاف، فيجب عليك طاعته ولا إثم عليك؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، وهٰذه من المسائل المهمة التي يقع السؤال عنها. فقوله رحمه الله: (ونرى طاعتهم من طاعة الله عزوجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية). إذا كانت المعصية عامة فلا إشكال في أنه لا طاعة لأحد في معصية الخالق. أما إذا كانت المعصية مما فيه اجتهاد واختلاف فالواجب الطاعة، ويمكن أن يعتذر الإنسان ويترخص ممن أمره بالأمر بأنه لا يرى هٰذا، أو أنه يرى أنه معصية، فإن أذن له فالحمد لله، وإن لم يؤذن له فوجب عليه أن يطيع. يقول رحمه الله: (وندعو لهم بالصلاح والمعافاة)؛ لأن الدعاء بالصلاح والمعافاة ليس خيره خاصا بهؤلاء، بل خيره في هؤلاء الذين هم ولاة الأمر وللأمة؛ لأن صلاحهم من صلاح الأمة؛ ولذلك ورد عن السلف كالإمام أحمد رحمه الله قوله: لو علمت أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان؛ لما يترتب على صلاحه من صلاح الأمة، وبعض الناس يبخل بالدعاء على ولاة الأمر، ويظن أن هٰذا من الحكمة، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو جهل؛ لأن صلاحهم صلاح للأمة، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء لهم، وليس هٰذا فقط في الأدعية العامة، يعني كالخطب وغيرها، بل حتى في الدعاء الخاص، فإنه من أسباب صلاح الأمة، ومن أسباب خروجها من البلايا. نقف على هٰذا، والله تعالى أعلم.

المشاهدات:2958

بسم الله الرحمـٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ، ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ الَّذِينَ خَابُوا مِنْ هِدَايَتِهِ، وَلَمْ يَنَالُوا وَلايَتَهُ. اللَّهُمَّ يَا وَلِيَّ الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ ثَبِّتْنَا عَلَى الإِسْلامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ). آمين يا رب العالمين. التعليق: الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. يقول المؤلف رحمه الله في تتمة ما تكلم به في مسائل الإيمان، يقول: (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا بِرَحْمَتِهِ). يخرجهم أي يخرج أهل الكبائر؛ لأنه قال رحمه الله: (وَأَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي النَّارِ لا يُخَلَّدُونَ، إِذَا مَاتُوا وَهُمْ مُوَحِّدُونَ). يقول: (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا). أي من دخل من أهل القبلة من أمة محمد، والمقصود بالأمة هنا أمة الإجابة، من دخل منهم النار بذنبه فإنه لا يخلد فيها كما تقدم، بل مآله إلى الجنة، كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة الدالة على عدم خلود أهل الإسلام في النار، وأن الله يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، وهٰذا يدل على أنه لا يبقى في النار من أهل التوحيد أحد، بل قضى الله جل وعلا أن لا يخلد فيها إلا أهل الكفر والشرك دون أهل المعصية من أهل التوحيد والإيمان. (ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا). خروجهم منها أي من النار برحمته وشفاعة الشافعين، ذكر المؤلف رحمه الله أسباب خروج أهل الكبائر من النار: برحمته التي وسعت كل شيء، وقدّم الرحمة، مع أن الحديث الذي ذكر فيه الشفاعة أخّر ذكرها، حيث يقول الرب جل وعلا بعد شفاعة من يشفع:((شفع النبيون، شفع الصالحون، شفعت الملائكة، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين)).( ) قدمها في الذكر لأن الشفاعة برحمته، فالشفاعة إنما هي بإذنه ورضاه: بإذنه للشافع، ورضاه عن المشفوع، وذلك من رحمته سبحانه وتعالى بعباده، فرحمته سابقة لاحقة، بل لا يصل الإنسان من الخير إلا برحمة الله عزوجل ، فإن الرحمة دائرة على إيصال الخير ودفع الضر، وهو جل وعلا الرحمـن الرحيم، كلا الاسمين مشتق من صفة الرحمة التي هي إيصال النفع ودفع الضر، فإيصال الخير ودفع الضر كله من رحمة الله جل وعلا، والشفاعة إيصال خير إلى المشفوع له، وهو خير للشافع؛ لأنه إكرام له وإظهار لمنزلته، فهو رحمة من الله جل وعلا لعباده الشافع والمشفوع له. (يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا) سبحانه وتعالى (بِرَحْمَتِهِ وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ). والشفاعة هي التوسط في إيصال الخير ودفع الضر عن الغير، وقد تقدم الكلام عليها فيما مضى، وهي ثابتة يثبتها أهل السنة والجماعة بجميع أنواعها التي دلت النصوص من الكتاب والسنة عليها. فالشفاعة العظمى ثابتة، وشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في رفع الدرجات، وفي دخول أهل الجنة، وفيمن استحق النار أن لا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها، كل هٰذا مما جاءت به النصوص، ودلت عليه دلالة واضحة لا يمتري فيها إلا أهل التشبيه. يقول: (وَشَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ). هٰذا بيان لمن هو مستحق لأن يشفع، فالشفاعة فضل وكرامة، وهي لا تكون إلا لأهل السبق والطاعة من الملائكة ومن الإنس ومن غيرهم ممن يقدر الله جل وعلا أنه يشفع. قال رحمه الله: (ثُمَّ يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ). البعث مضمن معنى الإثارة في اللغة، والمقصود (يَبْعَثُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ) أي يدخلهم في جنته، فإنهم يخرجون من النار، ويلقون في نهر الحياة فينبتون فيه، أي في هٰذا النهر ثم يمن الله جل وعلا عليهم بدخول الجنة، ولا تقل: كيف؟ أحوال الآخرة مختلفة عن أحوال الدنيا. يقول: (وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ). ذلك، المشار إليه ما منّ به على هٰذه الأمة من إخراج أهل الكبائر من النار، وعدم خلودهم فيها، فالمشار إليه هو عدم خلود أهل الكبائر في النار (وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ). والمؤلف رحمه الله استعمل هٰذا اللفظ وإن كان قد يدل دلالة فاسدة عند بعض المنحرفين ،كغلاة المرجئة الذين يقولون: يكفي في التوحيد المعرفة، وإن الإيمان هو معرفة الرب. لكن المؤلف لا يريد هٰذا، يقصد بـ (أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ) أي أهل طاعته كما تقدم في كلامه؛ لأنهم أهل كبائر ولم يفقدوا الإيمان، ولم يخرجوا عن دائرة الإسلام، وهو مستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة)).( ) والتعرف على الله في الرخاء هو أن يقوم الإنسان بما فرض الله عليه من العبادات الواجبة، وأن يسارع فيما شرع له وندب إليه من العبادات المستحبة. (تَوَلَّى أَهْلَ مَعْرِفَتِهِ) والولاية تقتضي القرب والمحبة والنصر، فإن الله جل وعلا تولّى أهل الإيمان، وتوليه لهم يكون بمحبته لهم وتقريبهم ودفع ما يضرهم، ونصرهم في المواطن التي يحبون النصر فيها. يقول: (وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ) يعني في دار الدنيا وفي دار الآخرة (كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ) يعني كأهل الكفر به من أهل الجحود، وغير ذلك مما يدخل به الإنسان في دائرة الكفر، ويخرج به عن دائرة الإسلام. ولاشك أن الله جل وعلا فرق بين الفريقين، ولم يسوِّ بين أهل الجنة وأهل النار لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل أنكر التسوية بين الفريقين: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} ( ). {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (21)} ( ). فنفى الله جل وعلا التسوية بين هذين الفريقين في الدنيا والآخرة، وهم مفترقون في أحكام الدنيا، مفترقون أعظم الافتراق في أحكام الآخرة، فإن كان هناك شيء من الاتفاق بين أهل النعيم وأهل الإسلام والإيمان، وأهل الإجرام في الدنيا وأهل الكفر في الدنيا، لكنه في الحقيقة لا يستويان مثلاً، ولا يستويان في الأحكام، وفي الآخرة يكون الافتراق واضحاً بيناً يدركه كل أحد، فإن أهل الإسلام يعطون من النور في الموقف ما يتميزون به عن أهل الكفر والنفاق. ثم إذا آل الأمر واستقر الفريقان عظم الافتراق وتبين تبيناً لا لبس فيه ولا امتراء فيه: فريق في الجنة وفريق في السعير. فلم يسوِّ الله جل وعلا بين الفريقين، بل فرق بينهما كما دلت على ذلك النصوص. يقول رحمه الله: (وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ) أي يجعل أهل الإيمان ولو كانوا من أهل الكبائر وأهل التقصير والمعصية (وَلَمْ يَجْعَلْهُمْ فِي الدَّارَيْنِ كَأَهْلِ نُكْرَتِهِ) أي أهل جحوده (الَّذِينَ خَابُوا مِنْ هِدَايَتِهِ) أي لم يحصّلوا هدايته، وخسروا سلوك هٰذا الصراط القويم الذي يحصل به للعبد الفضل والمنن. قال (وَلَمْ يَنَالُوا مِنْ وَلايَتِهِ) أي لم يدركوا من ولايته، والولاية المنفية هنا هي ولاية النصر والتقريب؛ لأن الولاية في القرآن نوعان: ولاية عامة لا يخرج منها أحد، وولاية خاصة. الولاية العامة هي التي يرزق الله جل وعلا بها كل أحد، ويدفع عنه السوء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله جل وعلا: ينسبون له الولد وهو يرزقهم ويعافيهم)).( ) فالرزق والمعافاة والإمداد بكل خير لأهل الكفر هٰذا من ولاية الله جل وعلا لهم، لكنها الولاية العامة وليست هي الولاية التي نفاها المؤلف رحمه الله، الولاية التي نفاها المؤلف رحمه الله في هٰذا الموطن وفي هٰذا المقطع هي الولاية الخاصة، التي يحصل بها نصر الله عزوجل لعبده وتقريره وإنجاؤه من مواطن الهلكة ومحبته سبحانه وتعالى، وهي المشار إليها في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)) إلى آخر الحديث. ( ) وفي الرواية الثانية المفسرة لهٰذا الحديث: ((فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يمشي، وبي يبطش)). هٰذه هي الولاية التي تنتفي عن هؤلاء. ثم قال رحمه الله سائلاً الله جل وعلا: (اللَّهُمَّ يَا وَلِيَّ الإِسْلامِ وَأَهْلِهِ). فهو جل وعلا نعم المولى ونعم النصير، هو ولي الإسلام، صاحبه وناصره ومظهره ومحبه، وهو ولي أهل الإسلام، ناصرهم ومحبهم ومقربهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالىٰ، فتوسل إليه بما هو سبب للنصر والنجاة (ثَبِّتْنَا عَلَى الإِسْلامِ حَتَّى نَلْقَاكَ بِهِ) اللهم آمين. والثبات يكون باستقرار القدم على ما جاء في الكتاب والسنة، بلزوم ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم سبيلاً للنجاة: ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله)). ( ) فكتاب الله جل وعلا من تمسك به هدي، والمؤلف رحمه الله قد ذكر قبل فقرات قريبة أن أكرم الخلق عند الله عزوجل قال: (وَأَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَطْوَعُهُمْ وَأَتْبَعُهُمْ لِلْقُرْآنِ) فكلما كان الإنسان أتبع للقرآن ثبتت قدمه على الإسلام، فالإسلام لا تثبت فيه القدم إلا بالعلم النافع والعمل الصالح، والعلم النافع والعمل الصالح هما اللذان جاء بهما النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} ( ). الهدى: العلم النافع، دين الحق: العمل الصالح، وبهما يحصل الثبات على الإسلام، نسأل الله عزوجل أن يتوفانا وإياكم مسلمين، وأن يلحقنا بعباده الصالحين. (وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ. وَلا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّةً وَلا نَارًا، وَلا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلا بِشِرْكٍ وَلا بِنِفَاقٍ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَنَذَرُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى). يقول رحمه الله: (وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ). نرى أي نعتقد، والرؤية هنا رؤية العلم والاعتقاد (وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ). الصلاة هنا الصلاة المفروضة والصلاة التي يشرع لها الاجتماع من الصلوات المسنونة، يشمل هٰذا وهٰذا، المراد نرى ونعتقد وجوب الصلاة خلف كل بر وفاجر، بر أي صاحب طاعة، فاجر أي مسرف بالمعصية. ولكن المؤلف رحمه الله قيد الفجور بقوله: (مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ). يعني من أهل الإسلام، وأهل القبلة تقدم لنا أنهم هم أهل الإسلام الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري منفرداً: ((من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذاك المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا)).( ) فالمؤلف رحمه الله يقول: نصلي خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة. يدخل في هٰذا الكلام الصلاة خلف العصاة والفساق والفجار، فإننا نصلي خلفهم؛ لقول عثمان رضي الله عنه: إن الصلاة من أحسن ما عمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنبهم. كما في صحيح البخاري. ولاشك أن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا صلى الإنسان خلف فاسق فإنه شاركه في خير وبر، لم يشاركه في إثم ومعصية. وهٰذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله هو عقد أهل السنة والجماعة، وأما ما ورد من الخلاف بين الفقهاء في جواز الصلاة خلف الفاسق فإنه خلاف موجود بين الفقهاء، لكن الصحيح ما ذكره المؤلف رحمه الله من أن السلف كانوا يصلون خلف كل بر وفاجر. والإمام لا يخلو من أحوال: الحال الأولى: أن يكون مستور الحال ما نعلم حاله، فهٰذا يجب الصلاة خلفه على كل حال، وترك الصلاة خلفه من البدع التي يخالف الإنسان بها طريق أهل السنة والجماعة، ولم يقل أحد من أهل العلم: إنه يجب أن يسأل عن عقيدة الإمام التي تصلي خلفه، أو أن تفتش عن باطنه، وأن تسأل عن حاله، فإن هٰذا لم يقله أحد من أهل العلم. الحال الثانية: أن يكون من أهل الطاعة، وهٰذا لا إشكال في أن الصلاة خلفه من عمل أهل السنة والجماعة. الحال الثالثة: أن يكون من أهل الفسق والمعصية، وهٰذا فيه الخلاف بين العلماء، لكن الصحيح أنه يصلى خلفه، لا سيما إذا كان إماماً، وعلى هٰذا يخرج البحث الذي ذكره الفقهاء في مسألة صحة إمامة الفاسق، فإن بحث الفقهاء في صحة إمامة الفاسق في غير الأئمة، أي غير الأمراء والمقدمين، فإن الصلاة خلفهم ديانة ولو كانوا على فسق؛ لأن الصحابة أحرص منا على الخير وأعلم منا بالشرع، ومع ذلك كانوا يصلون خلف الأمراء أبراراً أو فجاراً، بل نقل عنهم أنهم صلوا خلف الحجاج، والحجاج مشهور ظلمه ومعروف حاله عند الصحابة، صلى خلفه عبد الله بن عمر، وصلى خلفه أنس بن مالك، بل إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلى خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان شرّاباً للخمر، حتى إنه صلى بهم صلاة الفجر أربع ركعات، فلما سلم قال: هل أزيدكم؟ قال عبد الله بن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة. ولم ير هجره وترك الصلاة خلفه؛ لأنه كان الأمير في الجهة التي فيها ابن مسعود رضي الله عنه، المهم أنه مسألة الخلاف في صلاة الفاسق يخرج عنها ما إذا كان النظر في الصلاة خلف من ولاه الله أمر المسلمين، فإنه يصلى خلفه ولو كان فاجراً، وهٰذا من عقد أهل السنة والجماعة الذي تميزوا به عن أهل البدعة. الحال الرابعة من أحوال الإمام: أن يكون مبتدعاً، فسقه وفجوره في بدعة لا في معصية، وهٰذا يصلى خلفه أيضاً إذا كان لا يجد الإنسان غيره، وإذا كان هو المتولي للجمعة والجماعة ولو كان داعية إلى بدعته، فإن الصحابة والتابعين صلوا خلف ابن أبي عبيد وكان متهماً بالإلحاد والبدعة. وكل هٰذا إنما هو لتحقيق معنى الجماعة وعدم الفرقة، وبه نعلم خطأ الذين يفرقون بين الناس، ويدعون إلى المنابذة والمخالفة والتحزب والتشرذم والتفرّق، فإن هٰذا خلاف ما كان عليه سلف الأمة. ويشهد لهٰذا -أي للصلاة خلف المبتدع ولو كان داعية إلى بدعته- أن عثمان رضي الله عنه لما خرج عليه الخوارج وحاصروه في بيته، جاءه أحد السائلين فقال له: يا عثمان أنت إمام جماعة، وهٰذا الذي يصلي بنا إمام بدعة، فهل نصلي خلفه؟ فقال المقولة التي ذكرناها قبل قليل، قال: يا ابن أخي إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنبهم. مع أنه رضي الله عنه محصور، والذي يصلي بالناس من أعدائه وخصومه الذين خرجوا عليه، ومع ذلك لم يقل: لا تصلِّ خلفه، بل قال: إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم- يعني صلِّ معهم- وإذا أساؤوا فاجتنبهم. وهٰذا يدل على كمال ورعه رضي الله عنه وعظيم منزلته، و إلا لو كان شخصاً من عموم الناس أو من غير عثمان، المتوقع أن يقول: لا تصلِّ خلفه، أقل الأحوال لأنه نازعه حقه وإمامته، مع ذلك قال: صلّ خلفه، إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس. وهٰذا يدل على كمال فقهه رضي الله عنه . المراد أنه يصلى خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، لكن عند الاختيار إذا أردت أن تختار بين أن تصلي خلف إمام مبتدع وبين إمام من أهل السنة، فعند الاختيار لا إشكال أنه تذهب إلى إمام أهل السنة، لكن في بعض البلاد التي يظهر فيها قول من أقوال المبتدعة، ولا يكون في المكان الذي هو فيه أحد من أهل السنة، فنقول: صلّ مع الناس، لا تترك الجمعة والجماعة، فإن ترك الجمعة والجماعة هو البدعة، وهو المخالف لطريق أهل السنة والجماعة. يقول: (وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ). أي من أهل القبلة، فإن أهل السنة والجماعة يرون الصلاة على كل من مات من أهل القبلة، سواء كان فاسقاً، مبتدعاً، مستور الحال، لا فرق، لكن إن رأى أصحاب المكانة والمنزلة أن يعتزلوا الصلاة على أهل الفجور وأهل البدعة ردعاً لبدعتهم، فهٰذا الأمر سائغ ولا بأس به، لكن من حيث العموم يصلي أهل السنة والجماعة على كل من مات من أهل القبلة، يعني ممن ينتسب إلى الإسلام، طيب ولو كان منتسباً إلىٰ الجهمية أو إلى القدرية أو إلى الرافضة؟ الجواب: نعم؛ لأن انتسابه إلى هٰذه البدع المغلظة لا يسوغ الحكم عليه بالكفر عيناً؛ لأنه فرق بين أن نقول: الجهمية كفار، وبين أن نقول: هٰذا كافر، فإن المسألة فيها تفريق واضح وبين عند أهل السنة والجماعة، فرق بين التكفير العام وبين الحكم بالكفر على المعين. فيصلَّى على كل من كان من أهل الإسلام، ولو كان من أهل البدع. يقول: (وَلا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ جَنَّةً وَلا نَارًا). لا ننزل أي لا نشهد ولا نحكم لأحد من أهل القبلة بأنه في جنة ولا نار، وتقدم تقييد هٰذا الإطلاق بأي شيء؟ إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بجنة أو نار، إلا من دلت النصوص على أنه من أهل الجنة فهو من أهل الجنة، أو من أهل النار فهو من أهل النار، من عدا من دلت عليه النصوص فإننا نمسك عن الشهادة له؛ لأن شهادتنا له بجنة أو نار لا تنفع. وقوله: (وَلا نُنَزِّلُ أَحَدًا مِنْهُمْ) أي من أهل القبلة،طيب، غير أهل القبلة هل ننزلهم النار؟ الجواب: لا، ظاهر عقد أهل السنة والجماعة وما صرّح به بعضهم أنه لا يُشهد للكفار بالنار على وجه التعيين. انتبه! على وجه التعيين، أما على وجه العموم فكل كافر في النار، لكن على وجه التعيين لا نشهد لمعين بالنار، إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم. يقول: (وَلا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلا بِشِرْكٍ وَلا بِنِفَاقٍ)؛ لأن هٰذه أحكام مبنية على نصوص، فـ(لا نَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِكُفْرٍ وَلا بِشِرْكٍ وَلا بِنِفَاقٍ، مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ) يعني من الشرك والكفر والنفاق، ويجب فيما إذا ظهر منهم شيء من ذلك أن نقيم عليهم الحجة، وأن نبين لهم الخطأ، فإن أصروا عليه ولم يرتدعوا عن الكفر أو عن الشرك أو عن النفاق، فعند ذلك حكمنا لهم بما تقتضيه أحوالهم وأفعالهم، لكن بعد إقامة الحجة، وبعد البيان والتوضيح. يقول رحمه الله: (وَنَذَرُ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى). نذر أي نكل سرائرهم إلى الله تعالىٰ؛ لأن السرائر لا سبيل إلى معرفتها ولا إدراك ما فيها، فإنها خفايا مستورة لا يعلمها إلا الله جل وعلا، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)} ( ).فالسر من علمه سبحانه وتعالى ليس من علم غيره، ما أكنته القلوب وأخفته الأفئدة وأسرته الضمائر علمه إلى الله جل وعلا، ولا يكشف ولا يتبين إلا يوم تبلى السرائر، فيجب ترك السرائر إلى الله، فالبحث في النيات، البحث في المقاصد أمره إلى الله جل وعلا، ليس إليك، لكن من ظهر منه أمر عاملناه وحكمنا عليه بما ظهر منه، لا بما أخفاه صدره، ما لم يعتذر بأمر يوجب رفع الحكم عنه. بالنسبة للصلاة على المبتدع ذكرنا أن كلام المؤلف رحمه الله يشمل كل المبتدعة الذين لم نشهد بكفرهم، الذين لا نعتقد كفرهم، أما من كان كافراً فإنه لا يصلى عليه، في قوله: (وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ). هٰذا يشمل كل من لم يكفّر ببدعته، ولا فرق بين أن تكون البدعة مكفرة وبين أن لا تكون مكفرة، بمعنى أنه قد تكون البدعة مكفرة ويكون القول كفراً، لكن لا نحكم على القائل بأنه كافر، فهنا يدخل في عموم قوله رحمه الله: (وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ). وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في حكايته للصلاة خلف المبتدعة والتفصيل في ذلك، قال: ويدخل في هٰذا الجهمي والرافضي، وذكر... وذكر في موضع آخر أنه لا يصلى خلف من لا يرى الجمعة والجماعة كأئمة الرافضة. فالمسألة على عمومها في كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (وَنَرَى الصَّلاةَ خَلْفَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وعَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ). ولا يعني هٰذا أن يتقصد الإنسان الصلاة على هؤلاء، أو يطلب الصلاة على هؤلاء، ولا يخالف هٰذا ما قرره أهل السنة والجماعة من هجر المبتدع، وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله قال: لا أشهد جنازة جهمي ولا رافضي، ومن أحب أن يشهدهم فليشهد. وهٰذا يدل على أن المسألة فيها خيار، وأنه للإنسان أن يختار أن لا يصلي عليه من باب هجره، لكن فرق بين مسألة الصلاة خلف كل بر وفاجر وبين الصلاة عليه؛ لأن الصلاة عليه ليست لازمة، فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وأما الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة فإنه يصلى خلفهم، إذا كان لا يمكن أن تقام الجماعة والجمعة إلا بالصلاة خلفهم، بل ترك الجماعة والجمعة خلف أهل البدع من البدع. قال رحمه الله: (وَلا نَرَى السَّيْفَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ). (وَلا نَرَى السَّيْفَ) أي لا نرى القتل (عَلَى أَحَدٍ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ) وهم أمة الإسلام الذين عصم الله دماءهم وأموالهم وأعراضهم بكلمة الإسلام: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام)).( ) فكل من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو معصوم الدم لا يجوز التعرض له بقتل، إلا إذا فعل ما يوجب القتل، ولذلك استثنى المؤلف بقوله: (إِلاَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ السَّيْفُ). ولا يلزم من وجوب السيف أن يخرج عن الأمة وعن الإسلام، بل هو في الأمة وفي الإسلام وإن وجب عليه السيف، كالذي يقتل بغير حق، يقتل نفساً بغير حق، وكالذي يزني وهو محصن، وما أشبه ذلك من موجبات القتل في شريعة الإسلام: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).( ) ثم قال رحمه الله: (وَلا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا، وَلا نَدْعُو عَلَيْهِمْ، وَلا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عزوجل فَرِيضَةً، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ، وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلاحِ وَالْمُعَافَاةِ). يقول رحمه الله في بيان عقد أهل السنة والجماعة: (وَلا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلاةِ أُمُورِنَا). (لا نَرَى) أي لا نعتقد ولا نجيز الخروج على أئمتنا، الأئمة هنا هم ولاة الأمر، ولذلك قال في بيانهم: (وَوُلاةِ أُمُورِنَا). أي من ولاه الله أمر المسلمين من أهل الإسلام، فإنه لا يجوز الخروج عليه. يقول: (وَإِنْ جَارُوا). أي وإن ظلموا فإنه لا يجوز الخروج عليهم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ذلك، وأمر بالصبر على جور الولاة أصحابه، وأمر بالسمع والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين ولو ظهر منه ما يخالف، وهٰذا يدلّ على أن من عقائد أهل السنة والجماعة التزام الجماعة، ولذلك سُمّوا بالجماعة لأنهم يجتمعون على ولاة أمرهم، ولا تخلو عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة -فيما أدركت ونظرت- من ذكر هٰذا الأمر، وذلك أن فتنة الخروج من أول ما حصل من البدع في هٰذه الأمة، وهي من شر البدع؛ لأنه ترتب عليها من البدع الشيء الكثير، وقد ذكرنا فيما تقدم أن بدعة الخوارج من البدع التي جاء التحذير منها والتنفير منها في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم تحظ بدعة بالتحذير والتنفير كبدعة الخوارج؛ لشدة شرها، ولأنها تفسد ما جاءت به الشريعة، فالشريعة جاءت بالاجتماع والائتلاف والتعاون على البر والتقوى والتناهي عن الإثم والعدوان، والخروج يحصل به الفساد في هٰذا كله وانتفاء هٰذه المصالح كلها. (وَلا نَرَى الْخُرُوجَ عَلَى أَئِمَّتِنَا وَوُلاةِ أُمُورِنَا وَإِنْ جَارُوا). أي وإن وقع منهم جور سواء بقصد أو بتأويل، لا فرق بين ذلك، يعني سواء كان الجور بتأويل أو بتعمد الظلم، فإنه لا يجوز، بل يجب الصبر والاحتساب على الله عزوجل ما جرى من جور، قال: (وَلا نَدْعُو عَلَيْهِمْ) أي لا يجوز أن ندعو عليهم؛ لأن الدعاء عليهم منابذة لهم، وهو من أوائل الخروج؛ لأنه خروج بالقول عليهم. وأما قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذكر الولاة: ((خير ولاتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتدعون لهم ويدعون لكم، وشر ولاتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتدعون عليهم ويدعون عليكم)).( ) فهٰذا ليس فيه تجويز الدعاء عليهم؛ لأن بعض الناس يحتج بمثل هٰذا، هٰذا ليس فيه تجويز الدعاء عليهم، إنما هو بيان لعلامة وأمارة وليس فيه أنه يجوز الدعاء عليهم، بل الواجب ما ذكر المؤلف رحمه الله في قوله: (وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلاحِ وَالْمُعَافَاةِ)؛ لأن في صلاحهم صلاح الأمة. قال رحمه الله: (وَلا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ). يعني إذا وقع منهم الجور فلا ننزع يداً من طاعتهم، بل يجب الصبر والطاعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى فيما أوصى أمته بذلك: ((عليكم بالسمع والطاعة ولو تأمر عليكم عبد حبشي)).( ) ومعلوم أن العرب كان تولي مثل هٰذا عليهم من أعظم ما يكون في نفوسهم، ومن أعظم أسباب النفرة وعدم الطاعة، مع ذلك أمرهم بالطاعة ولو كان المتولي عليهم من كان بالأمس رقيقاً عندهم يتصرفون به تصرفهم في سائر أموالهم، ومع ذلك أمرهم بالسمع والطاعة، وهٰذا فيه بيان عظم هٰذا الأمر، وأنه لا يجوز الخروج مهما كان الأمر، مادام الحال لم يبلغ ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه سلطان))( ). يقول: (وَلا نَنْزِعُ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عزوجل فَرِيضَةً، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ). يعني طاعة ولي الأمر فريضة واجبة يؤجر عليها الإنسان ويأثم بالمخالفة، والطاعة هنا ليست فقط فيما إذا أمروا بالطاعة، بل فيما إذا أمروا بالطاعة وفيما إذا أمروا بما يرون أنه مصلحة وليس فيه معصية مما يحصل به تنظيم أمور الناس، ومن هٰذا نفهم خطأ الذين يقولون في بعض المسائل التي تتبع التنظيمات الإدارية والترتيبات، يقولون: علمنا هل هٰذا يجوز أو لا يجوز؟ إذا قلت لهم مثلاً: هٰذا لا يجوز؛ لأنه مخالف للنظام. قالوا: لا،هين اترك النظام، نريد الشرع. هٰذا جهل منهم؛ لأنهم ظنوا أن الطاعة في النظام الذي لا يخالف الشرع ليست من الشرع، وهٰذا خطأ، بل الطاعة في النظام الذي لا يخالف الشرع من الشرع يؤجر عليها الإنسان ويأثم بمخالفته، وهٰذا مما يدخل في كلامه رحمه الله: (وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عزوجل فَرِيضَةً، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ). فإذا أمروا بالمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والمعصية إما أن تكون معصية عند كل أحد، كأن يأمر مثلاً بالزنى فهنا لا يجوز أن تطيعه؛ لأن هٰذا معصية عند كل أحد، طيب إذا كان معصية عندك وليس معصية عند غيرك؟ يعني من مسائل الاجتهاد فهل تطيع أو لا تطيع؟ الجواب: تطيع؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، فإذا كان حكم الحاكم القاضي في المحكمة يرفع الخلاف في قضية من القضايا، قد يقضي عليك القاضي بما ترى أنه خلاف الصواب، لكن قضاء القاضي يرفع الخلاف، فكيف بما هو حكم لمن هو أعلى من القاضي وهو ولي أمر المسلمين؟ فإذا حكم ولي أمر المسلمين بحكم ترى أنت أنه معصية والمسألة من مسائل الخلاف، فيجب عليك طاعته ولا إثم عليك؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، وهٰذه من المسائل المهمة التي يقع السؤال عنها. فقوله رحمه الله: (وَنَرَى طَاعَتَهُمْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ عزوجل فَرِيضَةً، مَا لَمْ يَأْمُرُوا بِمَعْصِيَةٍ). إذا كانت المعصية عامة فلا إشكال في أنه لا طاعة لأحد في معصية الخالق. أما إذا كانت المعصية مما فيه اجتهاد واختلاف فالواجب الطاعة، ويمكن أن يعتذر الإنسان ويترخص ممن أمره بالأمر بأنه لا يرى هٰذا، أو أنه يرى أنه معصية، فإن أُذِنَ له فالحمد لله، وإن لم يُؤْذَنْ له فوجب عليه أن يطيع. يقول رحمه الله: (وَنَدْعُو لَهُمْ بِالصَّلاحِ وَالْمُعَافَاةِ)؛ لأن الدعاء بالصلاح والمعافاة ليس خيره خاصّاً بهؤلاء، بل خيره في هؤلاء الذين هم ولاة الأمر وللأمة؛ لأن صلاحهم من صلاح الأمة؛ ولذلك ورد عن السلف كالإمام أحمد رحمه الله قوله: لو علمت أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للسلطان؛ لما يترتب على صلاحه من صلاح الأمة، وبعض الناس يبخل بالدعاء على ولاة الأمر، ويظن أن هٰذا من الحكمة، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو جهل؛ لأن صلاحهم صلاح للأمة، ولذلك ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء لهم، وليس هٰذا فقط في الأدعية العامة، يعني كالخطب وغيرها، بل حتى في الدعاء الخاص، فإنه من أسباب صلاح الأمة، ومن أسباب خروجها من البلايا. نقف على هٰذا، والله تعالى أعلم.

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : فابتغوا عند الله الرزق ( عدد المشاهدات18627 )
4. خطبة: يسألونك عن الخمر ( عدد المشاهدات11951 )
8. خطبة : عجبا لأمر المؤمن ( عدد المشاهدات9100 )
12. الاجتهاد في الطاعة ( عدد المشاهدات7992 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف