×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

صوتيات المصلح / برامج / رسلا مبشرين / الحلقة (13) واذكر في الكتاب إبراهيم,

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis
الحلقة (13) واذكر في الكتاب إبراهيم,
00:00:01

الحلقة الثالثة عشر (( واذكر في الكتاب إبراهيم )) إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته، واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلا وسهلا ومرحبا بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم (رسلا مبشرين). حديثنا في هذه الحلقة وما يليها من حلقات سيكون -إن شاء الله تعالى- عن إمام من أئمة الأنبياء، عن إبراهيم عليه السلام. إبراهيم عليه السلام ولد في أرض العراق أو الشام، وقد اختلف في موضع ولادته، فقيل: ولد في بابل، وقيل: ولد في حران، وقيل: ولد في غوطة دمشق، وقيل غير ذلك، وليس ثمة برهان يقطع هذا الخلاف، ويبين موضع ولادته عليه الصلاة والسلام، وليس وراء ذلك كبير نفع. المقصود أنه ولد في هذه المنطقة، والشأن كل الشأن في معرفة دعوته، وما كان عليه صلى الله عليه وسلم . إبراهيم ميزه الله تعالى بمزايا وخصائص جعلته في الذروة من سيرة النبيين، ومن ذكر المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، فقد وصفه الله تعالى بالإمامة: {إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين} +++[النحل: 120]---. هكذا جعله الله تعالى في الذروة من صفات البر والخير والتوحيد، إنه أبو الأنبياء الثالث، فالأبوة الأولى لآدم، ثم لنوح عليه السلام الذي جعل الله تعالى البشر جميعا من ذريته، كما قال: {وجعلنا ذريته هم الباقين} +++[الصافات: 77]---، ثم بعد ذلك إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: {ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب} +++[الحديد: 26]---. فكل الرسل بعد إبراهيم عليه السلام من ذريته، سواء أكانوا من ذرية إسحاق أم من ذرية إسماعيل. إبراهيم عليه السلام ولد في زمن ملك جبار، إنه النمرود، الذي قص الله تعالى خبره في كتابه، وقص محاورة إبراهيم له. النمرود أخبر من قبل الكهنة بأن ولدا سيولد، ويقال له: إبراهيم، وأن ملكه سينتهي على يديه، فكان متربصا بكل ولادة، كما هو الشأن في نبأ ولادة موسى عليه السلام، إلا أن الله تعالى {غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون} +++[يوسف: 21]---. فسلم إبراهيم عليه السلام، وترعرع ونشأ في بيئة كانت تموج بالشرك والكفر، إلا أن الله تعالى سلمه، كما أخبر جل في علاه: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين} +++[الأنبياء: 51]---. فقد من الله على إبراهيم بسلامة فطرته أن جاف ما كان عليه قومه من الشرك، وذاك على أحد القولين في تفسير الآية: {ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل}، قال مجاهد وقتادة: أي يوم كان صغيرا قبل أن يوحى إليه. وأما قوله: {وكنا به عالمين}، أي: كنا عالمين باستحقاقه، وتأهله للرسالة، وأنه صالح لها، كما قال تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} +++[الأنعام: 124]---. القرآن ملئ بذكر إبراهيم، فلم يذكر نبي من الأنبياء كما ذكر إبراهيم عليه السلام، فذكر قريبا من سبعين مرة في آي الكتاب الحكيم. كل ذلك إشادة بذكره، وبيانا لعظيم منزلته، وما كان عليه من التوحيد والإيمان، والإمامة في الدين والتقى. إبراهيم عليه السلام بدأ دعوته بدعوة أبيه، ولقد كان أبو إبراهيم (تارح) على شرك وكفر، حيث كان يصنع الأصنام، ويزين عبادتها، ويبيعها على الناس. فجاء إبراهيم عليه السلام بدعوة الحق والهدى، فدعا أباه أولا، كما قال المؤرخون، دعا أباه أولا إلى عبادة الله وحده، وإلى أن يفرده جل وعلا بالعبادة، وقد قص الله تعالى في كتابه خبر دعوة إبراهيم لأبيه آزر في مواضع إجمالا وتفصيلا. ومن المواضع التي فصلت فيها دعوة إبراهيم لأبيه ما ذكره الله تعالى في سورة مريم، حيث قال: {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا}، لقد ترقى وبلغ درجة عليا في الإيمان والهدى {كان صديقا نبيا * إذ قال لأبيه ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } +++[مريم: 41-42]---. ما أجمل هذا البيان! وما أرقى هذه العبارات! وما أوضح هذه الحجة! وما أقوى هذا البرهان! بدأه متلطفا بدعوته بوصفه الذي يبين عظيم الشفقة، والرغبة في إيصال الهداية إليه: {ياأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا}+++ [مريم: 42]---. فلا سمع ولا بصر ولا نفع يرجى أو يؤمل لا في الحاضر ولا في المستقبل، لا في الشدة ولا في الرخاء، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فقوله: {شيئا} نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء. {ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك}+++ [مريم: 43]---، وهنا إشارة وتلطف في بيان الحجة والبرهان، الذي استند إليه إبراهيم فيما يقول، فإن إبراهيم لما دعا أباه ابتدأ أولا بالدليل العقلي، وهو أن هذه الأصنام لا تنفع، هذه الأصنام لا تسمع، هذه الأصنام لا تبصر، هذه الأصنام لا تقدم لك شيئا. وكل هذه أدلة عقلية، وهو استنهاض للفكر لمعرفة خطأ هذا الطريق، وأن العقل ولو لم يأت وحي يدل أن سلوك هذا السبيل إنما هو خروج عما اقتضته الفطرة، وهدى إليه نور العقل؛ لكن العقول قد تتفاوت في إدراك المقاصد، وقد تختلف في إصابة الصواب، وترجيح المسالك. فأخبره بحجته، وأن ذاك لم يكن فقط اعتمادا على دليل عقلي؛ بل إنه قد أوحي إليه، حيث قال: {ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك}، فعندي من العلم بالله، ومعرفة طريق الهداية، ومعرفة من يستحق العبادة ما لم تدركه يا أبت، فسلم لي، {فاتبعني أهدك صراطا سويا} +++ [مريم: 43]---.  اسلك السبيل الذي اسلكه، انقاد لما أدعوك إليه من عبادة الله وحده، إنك إذا فعلت ذلك فستسلك {صراطا سويا}، أي: طريقا مستويا لا عوج فيه ولا ميل، وهو الصراط المستقيم، الذي سلكه النبيون، والذي يسأله المسلمون في قولهم: {اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} +++[الفاتحة: 6-7]---. إن إبراهيم عليه السلام زاد في البيان والإيضاح، وأن هذا الطريق الذي يسلكه أبوه ويسلكه قومه في عبادة غير الله من عبادة الأصنام إنما هو طريق الشيطان، قال: {ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا}+++ [مريم: 44]---. فليس ثمة إلا طريقان: طريقة عبادة الله، وما عداه فهو عبادة للشيطان، قال: {ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا * ياأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا} +++[مريم: 44-45]---. وهنا جاء الترغيب والترهيب، الترغيب كان في أن سلوك هذا الصراط اتباع إبراهيم هو هداية إلى الطريق القويم، هو سلوك للدين القويم، وما عدا ذلك إنه طريق الشيطان، إنه الطريق الذي ينزل بأصحابه عذاب من الرحمن. كل هذا الاجتهاد في دعوة إبراهيم لأبيه، ومحاولة استنقاذه لم يأت بنتيجة؛  بل: {قال أراغب أنت عن آلهتي ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا}+++ [مريم: 46]---. تأمل إنه لم يناقش حجة، ولم يطرح شبهة، ولم يدل ببرهان، ولم يناقش في صحة طريقه، إنما قال: أتترك يا إبراهيم ما أنا عليه من العبادة؟ إن فعلت ذلك فسينالك مني أمرين: {لئن لم تنته لأرجمنك}، وهذا تهديد بالرجم، وهو من أشد العقوبات. {واهجرني مليا}: اعتزلني، وأبعد عني بعدا أبديا، لا صلة لي بك بعدها. فهي مفاصله، وهو تهديد له بهاتين العقوبتين، فما كان من إبراهيم عليه السلام إلا أن تلطف في دعوته لأبيه، ولم يغلق الباب: {قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا} +++[مريم: 47]---. فدعا له بالسلامة من هذا الطريق المنحرف، دعا له بالسلامة من هذا السبيل الضال، ثم طمع في الإجابة، ثم وعده بأن يسأل الله له المغفرة، وعطف على هذين الأمرين -الدعوة بالسلامة، والوعد بالدعاء بالمغفرة- أن ذاك كله مستند إلى حسن ظنه بربه {إنه كان بي حفيا}، أي: كان بي رحيما، كان بي لطيفا، كان لي مكرما، إجابته قريبة، وهذا من حسن ظنه بربه. ثم عاد إلى دعوته حتى يبين لأبيه موقفه بعد كل هذه المناقشة، وبعد هذا الرفض والتهديد، قال: {وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا} +++[مريم: 44]---، أي: راجيا أن يكون ما يصدر عني من عمل واقعا موقع القبول من الله عز وجل. فالدعاء هنا يشمل نوعين من الدعاء: دعاء العبادة، ودعاء المسألة. إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم (رسلا مبشرين) أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المشاهدات:3984
الحلقة الثالثة عشر
(( واذكر في الكتاب إبراهيم ))
إنَّ الحمد لله نحمدُهُ ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلن تجدَ له ولياً مُرشداً، وأشهدُ أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إلهَ إلا هو الرحمنُ الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبعَ سنته، واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فالسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم أيها الأخوة والأخوات، في هذه الحلقةِ الجديدة من برنامجكم (رسلاً مُبشرين).
حديثُنا في هذه الحلقةِ وما يليها من حلقات سيكونُ -إن شاءَ اللهُ تعالى- عن إمامٍ من أئمةِ الأنبياء، عن إبراهيمَ عليه السلام.
إبراهيمُ عليه السلام ولِدَ في أرضِ العراقِ أو الشام، وقد اختُلِفَ في موضِعِ ولادته، فقيل: ولِدَ في بابل، وقيل: ولِدَ في حرَّان، وقيل: ولِدَ في غُوطَةِ دمشق، وقيل غيرُ ذلك، وليسَ ثمةَ برهانٌ يقطعُ هذا الخلاف، ويبيِّنُ موضِعَ ولادته عليه الصلاة والسلام، وليس وراءَ ذلكَ كبيرُ نفع.
المقصود أنه ولِدَ في هذه المنطقة، والشأنُ كُلُّ الشأن في معرفةِ دعوته، وما كانَ عليه صلى الله عليه وسلم .
إبراهيم ميَّزَهُ اللهُ تعالى بمزايا وخصائص جعلتهُ في الذروةِ من سيرةِ النبيين، ومن ذكرِ المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، فقد وصفَهُ اللهُ تعالى بالإمامة: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120].
هكذا جعلهُ اللهُ تعالى في الذروةِ من صفاتِ البرِّ والخيرِ والتوحيد، إنه أبو الأنبياءِ الثالث، فالأبوَّةُ الأولى لآدم، ثم لنوحٍ عليه السلام الذي جعلَ اللهُ تعالى البَشَرَ جميعاً من ذُريته، كما قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 77]، ثم بعدَ ذلكَ إبراهيمُ عليه السلام، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26].
فكلُّ الرُّسُلِ بعدَ إبراهيمَ عليه السلام من ذريتهِ، سواءً أكانوا من ذريةِ إسحاق أم من ذرية إسماعيل.
إبراهيمُ عليه السلام ولِدَ في زمنِ مَلكٍ جبَّار، إنه النمرود، الذي قصَّ اللهُ تعالى خبَرَهُ في كتابه، وقصَّ محاورةَ إبراهيمَ له.
النمرود أُخبِرَ من قِبَلِ الكهنة بأنَّ ولَداً سيولد، ويقالُ له: إبراهيم، وأنَّ مُلكَهُ سينتهي على يديه، فكان متربصاً بكُلِّ ولادة، كما هو الشأن في نبأ ولادةِ موسى عليه السلام، إلا أنَّ اللهَ تعالى {غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
فَسلِمَ إبراهيمُ عليه السلام، وترعرعَ ونشأ في بيئةٍ كانت تموجُ بالشركِ والكُفر، إلا أنَّ اللهَ تعالى سلَّمهُ، كما أخبرَ جلَّ في علاه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51].
فقد منَّ اللهُ على إبراهيم بسلامةِ فطرته أن جاف ما كانَ عليه قومُهُ من الشرك، وذاكَ على أحد القولين في تفسيرِ الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ}، قال مُجاهد وقتادة: أي يومَ كانَ صغيراً قبلَ أن يوحى إليه.
وأمَّا قوله: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}، أي: كُنا عالمينَ باستحقاقه، وتأهُله للرسالة، وأنه صالحٌ لها، كما قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
القرآنُ ملئٌ بذكرِ إبراهيم، فلم يُذكر نبيٌّ من الأنبياء كما ذُكِرَ إبراهيمُ عليه السلام، فذُكِرَ قريباً من سبعينَ مرة في آي الكتابِ الحكيم.
كلُّ ذلكَ إشادةً بذكره، وبياناً لعظيمِ منزلته، وما كانَ عليه من التوحيد والإيمان، والإمامةِ في الدينِ والتُقى.
إبراهيمُ عليه السلام بدأ دعوتهُ بدعوةِ أبيه، ولقد كانَ أبو إبراهيم (تارح) على شركٍ وكُفر، حيثُ كانَ يصنعُ الأصنامَ، ويزينُ عبادتها، ويُبيعُها على الناس.
فجاءَ إبراهيمُ عليه السلام بدعوةِ الحقِّ والهدى، فدعا أباهُ أولاً، كما قالَ المؤرخون، دعا أباهُ أولاً إلى عبادةِ اللهِ وحده، وإلى أن يُفرِدَهُ جلَّ وعلا بالعبادة، وقد قصَّ اللهُ تعالى في كتابه خبرَ دعوةِ إبراهيم لأبيه آزر في مواضع إجمالاً وتفصيلاً.
ومن المواضع التي فُصِّلت فيها دعوةُ إبراهيمَ لأبيه ما ذكرهُ اللهُ تعالى في سورةِ مريم، حيثُ قال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا}، لقد ترَقَّى وبلغَ درجةً عُليا في الإيمانِ والهدى {كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } [مريم: 41-42].
ما أجملَ هذا البيان! وما أرَقَّى هذه العبارات! وما أوضحَ هذه الحُجة! وما أقوى هذا البرهان!
بدأه متلطِّفاً بدعوتهِ بوصفه الذي يُبينُ عظيمَ الشفقةِ، والرغبةِ في إيصالِ الهدايةِ إليه: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42].
فلا سمعَ ولا بصر ولا نفعَ يُرجى أو يُؤمَّل لا في الحاضرِ ولا في المستقبل، لا في الشدَّةِ ولا في الرخاء، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فقوله: {شَيْئًا} نكرة في سياقِ النفي، فتعمُّ كُلَّ شيء.
{يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم: 43]، وهنا إشارة وتلطُّف في بيانِ الحُجة والبرهان، الذي استندَ إليه إبراهيم فيما يقول، فإنَّ إبراهيم لمَّا دعا أباه ابتدأ أولاً بالدليل العقلي، وهو أنَّ هذه الأصنام لا تنفع، هذه الأصنام لا تسمع، هذه الأصنام لا تُبصر، هذه الأصنام لا تُقدِّمُ لكَ شيئاً.
وكُلُّ هذه أدلة عقليِّة، وهو استنهاض للفكر لمعرفةِ خطأ هذا الطريق، وأنَّ العقلَ ولو لم يأتِ وحي يدلُّ أنَّ سلوك هذا السبيل إنما هو خروجٌ عما اقتضتهُ الفطرة، وهدى إليه نورُ العقل؛ لكنَّ العقول قد تتفاوت في إدراكِ المقاصد، وقد تختلف في إصابةِ الصوابِ، وترجيحِ المسالك.
فأخبرهُ بحجته، وأنَّ ذاكَ لم يكن فقط اعتماداً على دليلٍ عقلي؛ بل إنه قد أوحيَ إليه، حيثُ قال: {يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ}، فعندي من العلمِ بالله، ومعرفةِ طريقِ الهداية، ومعرفةِ من يستحقُ العبادة ما لم تُدركُهُ يا أبتِ، فسلِّم لي، {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43].
 اسلك السبيلَ الذي اسلُكُه، انقاد لما أدعوكَ إليه من عبادةِ الله وحده، إنكَ إذا فعلتَ ذلك فستسلُكُ {صِرَاطًا سَوِيًّا}، أي: طريقاً مستوياً لا عوجَ فيه ولا ميل، وهو الصراط المستقيم، الذي سلَكَهُ النبيُّون، والذي يسألُهُ المسلمون في قولهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6-7].
إنَّ إبراهيمَ عليه السلام زادَ في البيانِ والإيضاح، وأنَّ هذا الطريقَ الذي يسلُكُهُ أبوه ويسلُكُهُ قومه في عبادةِ غيرِ الله من عبادةِ الأصنام إنما هو طريقُ الشيطان، قال: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: 44].
فليس ثمةَ إلا طريقان: طريقةُ عبادةِ الله، وما عداه فهو عبادةٌ للشيطان، قال: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 44-45].
وهنا جاءَ الترغيب والترهيب، الترغيب كانَ في أنَّ سلوك هذا الصراط اتباعَ إبراهيم هو هدايةٌ إلى الطريقِ القويم، هو سلوكٌ للدينِ القويم، وما عدا ذلك إنه طريقُ الشيطان، إنه الطريق الذي ينزلُ بأصحابه عذابٌ من الرحمن.
كُلُّ هذا الاجتهاد في دعوةِ إبراهيم لأبيه، ومحاولةِ استنقاذه لم يأتِ بنتيجة؛  بل: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 46].
تأمَّل إنه لم يُناقش حُجةً، ولم يطرح شُبهةً، ولم يُدلِ ببرهانٍ، ولم يُناقش في صحةِ طريقه، إنما قالَ: أتتركُ يا إبراهيم ما أنا عليه من العبادة؟ إن فعلتَ ذلك فسينالُكَ منِّي أمرين:
{لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ}، وهذا تهديدٌ بالرجمِ، وهو من أشدِ العقوبات.
{وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}: اعتزلني، وأبعد عنِّي بُعداً أبدياً، لا صلةَ لي بكَ بعدها.
فهي مفاصلَه، وهو تهديدٌ لهُ بهاتين العقوبتين، فما كانَ من إبراهيم عليه السلام إلا أن تلطَّفَ في دعوته لأبيه، ولم يُغلق الباب: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 47].
فدعا له بالسلامة من هذا الطريقِ المنحرف، دعا له بالسلامة من هذا السبيلِ الضال، ثم طَمِعَ في الإجابة، ثم وعدَهُ بأن يسأل اللهَ لهُ المغفرة، وعطَفَ على هذينِ الأمرين -الدعوة بالسلامة، والوعد بالدعاء بالمغفِرَة- أنَّ ذاكَ كُلَّهُ مُستنِدٌ إلى حُسنِ ظنه بربه {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}، أي: كانَ بي رحيماً، كان بي لطيفاً، كانَ لي مُكرِماً، إجابتهُ قريبة، وهذا من حُسنِ ظنهِ بربه.
ثم عادَ إلى دعوته حتى يُبيِّنَ لأبيهِ موقِفه بعدَ كُلِّ هذه المناقشة، وبعدَ هذا الرفضِ والتهديد، قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم: 44]، أي: راجياً أن يكونَ ما يصدرُ عنِّي من عمل واقعاً موقع القبولِ من اللهِ عزَّ وجل.
فالدعاء هنا يشملُ نوعين من الدعاء: دعاءَ العبادةِ، ودعاءَ المسألة.
إلى أن نلقاكم في حلقةٍ قادمة من برنامجكم (رسلاً مبشرين) أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : فابتغوا عند الله الرزق ( عدد المشاهدات18627 )
4. خطبة: يسألونك عن الخمر ( عدد المشاهدات11951 )
8. خطبة : عجبا لأمر المؤمن ( عدد المشاهدات9100 )
12. الاجتهاد في الطاعة ( عدد المشاهدات7993 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف