×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

نموذج طلب الفتوى

لم تنقل الارقام بشكل صحيح
مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:4322

الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مُبارَكًا فيهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضَى، لهُ الحمدُ كلُّه أولُه وآخرُه ظاهرُه وباطِنُه، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ إلهُ الأولينَ والآخِرينَ، لا إلهَ إلَّا هُو الرحمنُ الرحيمُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وصحبِه، ومَنِ اتبعَ سُنتَه واقتَفَى أثرَه بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ، أمَّا بعدُ:

فإنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- اصطفَى مِنْ خَلقِه ما جعلَ لهُم مِنَ الخاصيةِ والميزةِ ما ميَّزَه بهِ عَنْ غيرِه مِنْ خَلقِه قالَ اللهُ -جلَّ وعَلا-: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[القصصِ:68]، فاللهُ ـ جلَّ في عُلاه ـ يختارُ مِنْ خَلقِه  ما يشاءُ، ويجعلُ لهُم مِنَ الخصائصِ والميزاتِ ما ليسَ لغيرِه مما هُو نظيرُه وشبيهُه.

فاصطفَى اللهُ -عزَّ وجلَّ- الملائكةَ مِنَ الخلقِ فجعلَهم عَلَى نحوٍ مِنَ الطاعةِ والعبادةِ لا يشابهُهم أحدٌ، فهُم لا يَعصون اللهَ ما أمرَهم ويفعَلونَ ما يُأمَرون.

كما خلَقَ اللهُ ـ تعالَى ـ خلْقًا مِنَ البشرِ واصطَفاهُم بأنْ جعلَ لهمُ القدرةَ عَلَى الطاعةِ والاستقامةِ، والانحرافِ والغوايةِ، وفضَّلَهم بما فضلَهم بِهِ عَلَى خَلقِه كما قالَ ـ تعالَى ـ: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[الإسراءِ:70].

كما خلقَ اللهُ ـ تعالَى ـ الأماكنَ، واصطفَى مِنها ما شاءَ، ومِن أعظمِ ما اصطفاهُ اللهُ ـ تعالى ـ مِنَ الأماكنِ مكةُ البلدُ الحرامُ، فإنَّ اللهَ ـ تعالى ـ اصطفَى هذهِ البقعةَ مِن بينِ سائرِ بقاعِ الدنيا فحرَّمها يومَ خلقَ السماواتِ والأرضَ فحرَّمها اللهُ ولم يحرِّمْها الناسُ كما قالَ النبيُّ --صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- فجعَلها حرامًا قبلَ أنْ يخلقَ السماواتِ والأرضَ، وذاكَ بفضلِه وإحسانِه واصطفائِه، واللهُ أعلمُ حيثُ يصطَفي ومَن يصطَفي؛ ولذلكَ حقُّ هذهِ الأشياءِ التي اصطَفاها اللهُ -عزَّ وجلَّ- أنْ تُصانَ وأنْ تُعظمَ.

وكذلكَ اصطَفى مِنْ سائرِ البلادِ المساجدَ، فأحبُّ البلادِ إلى اللهِ مساجدُها كما قالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- وهَذا يعني أنها مِنَ البقاعِ المَحبوبةِ للهِ؛ لأنها محلُّ طاعتِه، ومحلُّ التقربِ إلَيهِ، ومحلُّ ذكرِه وشكرِه كما قالَ -جلَّ وعَلا-: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (37) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ[النورِ:36، 37] فزكَّى اللهُ هذهِ البقاعَ بما يكونُ فيها مِنْ طاعةِ اللهِ والتقربِ إلَيهِ؛ ولذلكَ جاءَ في الصحيحِ أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- قالَ «أحَبُّ البقاعِ إلى اللهِ أحبُّ البلادِ إلى اللهِ مَساجدُها»صحيحُ مسلمٍ (671) ذاكَ لِما فيها مِنْ تعظيمِه، وذِكْرِه والتقربِ إلَيهِ بألوانِ القُرباتِ، هَذا مِنَ الاصطفاءِ المكانيِّ.

 أما الزمانُ فقَدِ اصطَفَى اللهُ ـ تعالَى ـ مِنَ الزمانِ ما شاءَ فجعلَ يومَ الجمعةِ بينَ سائرِ أيامِ الأسبوعِ مميَّزًا بحوادثَ قدريةٍ عُظمَى لم تقَعْ في غيرِه، فيومُ الجمعةِ فيهِ خلَقَ اللهُ آدمَ، وفيهِ أدخلَهُ الجنةَ وفيهِ أخرَجَه مِنها، وفيهِ تقومُ الساعةُ، هَذا الاصطفاءُ ليومِ الجمعةِ اصطفاءٌ قدَريٌّ كونيٌّ.

 ومِنَ الاصطفاءِ الزمانيِّ أيضًا اصطفاءُ اللهِ ـ تعالَى ـ لرمضانَ حيثُ جعلَه محلًّا لنزولِ القرآنِ قالَ اللهُ ـ تعالَى ـ: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[البقرةِ:185]، فذكرَ اصطفاءً وتخصيصًا لهَذا الشهرِ بإنزالِ القرآنِ وهذا قدريٌّ، ثُم عطفَ عَلَيهِ اصطفاءً شرعيًّا وخاصيةً شرعيةً وهيَ أنهُ محلُّ هذا الركنِ العظيمِ مِنْ أركانِ الإسلامِ وهُو الصومُ، فإنَّ صومَ رمضانَ ركنٌ مِن أركانٍ الإسلامِ.

ومِنَ الاصطفاءِ الزمانيِّ أيضًا ما اصطفاهُ اللهُ ـ تعالَى ـ في العشرِ الأوَلِ من ذي الحَجةِ، فهيَ خيرُ أيامِ الزمانِ كما جاءَ في الصحيحِ مِنْ حديثِ ابنِ عباسٍ «ما مِنْ أيامٍ العملُ الصالحُ فيهِنَّ أحبُّ إلى اللهِ مِنْ هذهِ العشْرِ» سُنن الترمذيَِّ (757)، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ يعني: العشرُ الأوَلُ مِنْ ذي الحَجةِ، وهَذا اصطفاءٌ اصطفاهُ اللهُ ـ تعالى ـ لهَذا الوقتِ مِنْ بينِ سائرِ الزمانِ.

والمقصودُ أنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- يصطفي مِنْ خلقِه ما يشاءُ، وهَذا الاصطفاءُ يترتبُ عَلَيهِ في حقِّ المؤمنِ أمورٌ:

الأمرُ الأولُ:كلُّ اصطفاءٍ اصطفاهُ اللهُ -عزَّ وجلَّ- يترتبُ عَلَيهِ أمورٌ:

الأمرُ الأولُ:الإقرارُ بهَذا الاصطفاءِ فيما ثبتَ بهِ الكتابُ والسنةُ، الإقرارُ بهَذا التميُّزِ وأنَّ ذاكَ مما ميزَهُ اللهُ ـ تعالى ـ عَنْ سائرِ الأيامِ وسائرِ جنسِه، سواءٌ كانَ الاصطفاءُ زمانيًّا أو مكانيًّا أو خَلقيًّا عينيًّا أو حاليًّا وصفيًّا، فكلُّ هَذا الاصطفاءِ إذا ثبتَ بهِ الكتابُ والسنةُ وجبَ الإقرارُ بهِ، لكِنْ هَذا ليسَ ذاكَ محلُّ الاقتراحِ، ومحلٌّ أنْ يضيفَ الإنسانُ إلى شيءٍ مِنَ الأشياءِ اصطفاءً لم يثبُتْ بهِ الكتابُ والسنةُ، بلْ لا بُدَّ أنْ يكونَ ذلكَ ثابتًا بالكتابِ والسنةِ، إذًا الأمرُ الأولُ إثباتُ ما أثبتَهُ اللهُ ـ تعالى ـ مِنَ الاصطفاءِ.

الأمرُ الثاني:فعْلُ ما جعَلَه اللهُ ـ تعالى ـ محلًّا، فعلُ ما جعلَه اللهُ ـ تعالى ـ مرافِقًا لذلكَ الاصطفاءِ مِنَ الأحكامِ الشرعيةِ، فقدْ يخصُّ اللهُ ـ تعالى ـ تلكَ الحوادثَ الكونيةَ، أو تلكَ الاصطفاءاتِ القدَريةَ بأنْ يجعلَ معَها ما يُرافِقُها غالبًا مِنَ الأحكامِ الشرعيةِ، فمثلًا اصطفَى اللهُ -عزَّ وجلَّ- رمضانَ مِنْ بينِ الشهورِ فجعَلَه محلًّا لإنزالِ القرآنِ، وجعلَ لهُ خاصيةً شرعيةً وهُو وجوبُ صومِه، فيجبُ عَلَى المؤمنِ أنْ يرعَى ما جعلَه اللهُ ـ تعالى ـ مِنَ الأحكامِ المقترنةِ بالاصطفاءِ القدريِّ سواءٌ أنْ كانَ ذلكَ لزمانٍ أو مكانٍ أو شخصٍ أو حالٍ أو عملٍ أو ما إلى ذلكَ مِنْ أوجُهِ الاصطفاءِ التي ذكَرْنا بعضَها فيها تقدمَ، إذًا ما يجبُ علَينا تجاهَ هَذا الاصطفاءِ أنْ نحفظَ حقَّ اللهِ فيهِ فيما يتعلقُ بالأحكامِ الشرعيةِ.

كذلكَ مما يترتبُ عَلَى الاصطفاءِ تعظيمُ ما عظَّمَه اللهُ، فإنَّ تعظيمَ ما عظمَه اللهُ واصطفاهُ هُو مِنَ التقوَى، ومِنْ دلائلِ الصدقِ والإيمانِ يقولُ اللهُ -جلَّ في عُلاه- : ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ[الحجِّ:30]، وقولُه: ﴿حُرُمَاتِ﴾ جمْعُ حُرمةٍ وهُو ما جعلَه اللهُ ـ تعالى ـ محرَّمًا، ما جعلَ لهُ مكانةً ومنزلةً وشرفًا سواءٌ كانَ ذلكَ في زمانٍ أو كانَ ذلكَ في مكانٍ، أو كانَ ذلكَ في شخصٍ أو كانَ ذلك في حالٍ أو كانَ ذلك في عملٍ، ينبَغي للمؤمنِ أنْ يحفظَ حرمةَ اللهِ إذا أضافَ اللهُ ـ تعالى ـ إلى ذلكَ منزلةً أو مكانةً أو حرمةً ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ[الحجِّ:30]خيرٌ لهُ في الدنيا بزيادةِ الإيمانِ وصلاحِ الحالِ، وخيرٌ لهُ في الآخرةِ بما يترتبُ عَلَى ذلكَ التعظيمِ مِنَ الأجورِ والثوابِ، ومما يُدرِكُ الإنسانُ بهِ خيرًا كثيرًا أنْ يعظِّمَ ما عظمَه اللهُ -عزَّ وجلَّ- قالَ اللهُ -عزَّ وجلَّ-: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[الحجِّ:32] وشعائرُ اللهِ هِي كلُّ ما جعلَه اللهُ ـ تعالَى ـ علامةً عَلَى تقواهُ، علامةً علَى محبتِه، علامةً على تعظيمِه.

فكلُّ مَنْ عظَّمَ ما عظمَه اللهُ، وصانَ ما حرمَه اللهُ، وحفِظَ ما أجلَّهُ اللهُ فإنَّ ذلكَ مِنْ تقوَى قلبِه، هُو إشارةٌ إلى أنَّ قلبَه قدْ عُمِّرَ بالتقوَى، وأفضلُ وأكملُ وأجوَدُ وأحسنُ ما تُعمَّرُ بهِ القلوبُ تقوَى اللهِ ـ جلَّ في عُلاه ـ فإنَّ تقوَى اللهِ إذا عُمِّرَتْ بها القلوبُ دانَتْ للهِ الحيِّ القيومِ ـ جلَّ في عُلاه ـ واستقامَتْ عَلَى شرعِه وقامَتْ بحقِّهِ سُبحانَه وبحمدِه.

لذلكَ مِنَ المُهمِّ يا أخي أنْ تفتشَ عَنْ ذلكَ في مسلَكِك وفي عملِك وأنْ ترعَى حقوقَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- فيما جعلَ لهُ حقًّا يجبُ أنْ يُصانَ.

وإنَّ مما جعلَ اللهُ  لهُ حقًّا بيوتُ اللهِ -عزَّ وجلَّ- التي عظَّمَها وهيَ أحبُّ البقاعِ إلَيهِ وإنَّ كثيرًا مِنَ الناسِ قدْ يُقصِّرُ في ذلكَ، ولا يحفظُ لهذهِ البيوتِ لاسيما المسجدُ الحرامُ حقَّه بالاحترامِ والصيانةِ وإنَّ تعظيمَ البقعةِ مِنْ تعظيمِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- إنَّ تعظيمَ الحرمِ مِنْ تعظيمِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- وهُو مِنْ تقوَى اللهِ -عزَّ وجلَّ-؛ لذلكَ ينبَغي للمؤمنِ أنْ يحرصَ عَلَى تعظيمِ بيوتِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- كيفَ يعظِّمُ بيتَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- ؟ أنْ يطيعَه فيما أمرَ فيقومَ فيهِ بما شرعَ جلَّ في عُلاه مما بُنيَ لأجلِه، وذلكَ بأنْ يقيمَ فيهِ الصلاةَ، والذكْرَ وتلاوةَ القرآنِ قالَ اللهُ ـ تعالَى ـ: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ[النور:36]، ﴿بِالْغُدُوِّ﴾ أي: في أولِ النهارِ، ﴿وَالآصَالِ﴾ يعني في آخرِ النهارِ، ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ[النورِ:37]، فجَمَعوا بينَ الطمعِ والخوفِ، المحبةِ والخوفِ، والرجاءِ لفضلِه وإحسانِه سبحانَه وبحمدِه.

ومما جاءَ في الصحيحِ مِنْ حديثِ أنسٍ -رضيَ اللهُ تعالَى عنهُ- «أنَّ أعرابيًّا  دخلَ مسجدَ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- فبالَ في ناحيةِ المسجدِ فنبَّهَه الصحابةُ عَلَى ذلكَ» فقالَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- «لا تُزرِموهُ» يعني لا تقطَعوا عَلَيهِ حاجتَه «حتَّى إذا قضَى حاجتَه أمَرَ بذَنوبٍ مِنْ ماءٍ فأُهريقَ عَلَيهِ» وعاءٌ مِنْ ماءٍ صُبَّ عَلَى موضعِ البولِ ليزولَ أثرُ النجاسةِ، ثُم دعاهُ فقالَ وهُنا الشاهدُ قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ -: «إنَّ هذهِ المساجدَ لا تصلحُ لشيءٍ مِنَ البولِ» ثُم قالَ «ولا القذرِ»صحيحُ البخاريِّ (6128)، ومسلمٍ (284) يعني ولا ما يستقذَرُ، والقذَرُ أوسعُ مِنْ النجاسةِ؛ لأنَّ القذرَ يكونُ فيما لا نجاسةَ فيهِ كالأوساخِ التي يتنزَّهُ مِنها الإنسانُ، ويتنزهُ مِنها الناسُ، كالبُصاقِ والمُخاطِ؛ ولذلكَ جاءَ عَنِ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ ـ: «أنَّ البُصاقَ في المسجدِ خطيئةٌ، وكفارتُها إزالتُها»صحيحُ البخاريِّ (415)، ومسلمٍ (552) فيجبُ عَلَى المؤمنِ أنْ يعرفَ أنَّ هذهِ المساجدَ لا تصلحُ لشيءٍ مِنْ ذلكَ لا فقَطْ النجاساتُ بلْ حتى ما يُستقذَرُ، كلُّ ما تستقذِرُه في بيتِك، وفي محلِّك فنزِّهْ بيتَ اللهِ ـ تعالى ـ عَنهُ.

وإنَّ بعضَ المعتكِفينَ لإقامتِهم في المسجدِ يتهاوَنونَ في رعايةِ وصيانةِ المسجدِ الحرامِ وغيرِه مِنَ المساجدِ لكِنْ بما أننا في المسجدِ الحرامِ نتحدثُ عنهُ، فتجدُه يُبقِي ما تبقَّى مِنْ طعامٍ أو شرابٍ أو غيرِ ذلكَ مما يكونُ مِنَ الفضلاتِ دونَ وضعِه في مواضَعِه التي خُصِّصتْ، ولا يتحرَّى تنظيفَ البقعةِ التي هُو فيها، ثُم يرجوا بهَذا الاعتكافِ أجرًا وثوابًا، يُقالُ لهُ يا أخي الأجرُ والثوابُ إنما هُو في طاعةِ اللهِ وتعظيمِ ما عظَّمَه، وأنتَ لو كنتَ في بيتِك لَما رَضيتَه أنْ يكونَ مثلَ هَذا في محلِّ جلوسِك أو محلِّ ضيافتِك أو محلِّ إقامتِك؛ لذلكَ ينبَغي أنْ يتحرزَ المؤمنُ في بيتِ اللهِ أكثرَ مِنْ تحرُّزِه في بيتِه؛ لأنهُ في ضيافةِ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ فليكُنْ عَلَى أحسنِ حالٍ وأقومِ سبيلٍ، والنبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وسَلَّمَ-كانَ يعتَني بنفسِه حتَّى في اعتكافِه، فكانَ يترجَّلُ معَ أنَّ الترجلَ يغفُلُ عَنهُ الإنسانُ ويقولُ ما حاجةُ أنْ يترجلَ وأنْ ينظفَ شعرَه، النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- كما جاءَ عنهُ في الصحيحَيْنِ «كانَ يُصغي برأسِه إلى عائشةَ وهيَ في حُجرتِها وهُو في المسجدِ فتُرجِّلُه»صحيحُ البخاريِّ (296) -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وعَلَى آلِه وسَلَّمَ- وذاك عنايةٌ منهُ بطيبِ مظهَرِه، وجمالِ منظرِه حتَّى لا يظنَّ ظانٌّ أنَّ مِن لوازمِ العبادةِ نقصَ المظهرِ وقبحَ المنظرِ، فإنَّ العبادةَ لا تلازُمَ بينَها وبينَ ذلكَ بلْ «اللهُ جميلٌ يحِبُّ الجمالَ» كما جاءَ في الصحيحِ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍصحيحُ مسلمٍ (91).

ولذلكَ يا إخوَتي ينبَغي لنا أنْ نعيَ هَذا المعنَى وأنْ نحرصَ علَى أنْ يكونَ لباسُنا حسَنًا قالَ اللهُ ـ تعالَى ـ: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ[الأعرافِ:31]، وكانَ الإنسانُ في المصلَّى، ويأتي بثوبِ نومٍ هَذا لا يليقُ، أنتَ تقابِلُ اللهَ وفي بيتِه، إذا كانَ عندَك ثوبُ نومٍ فالبَسْه في وقتِ النومِ أمَّا في صلاتِك وفي قيامِك وفي قراءتِك وفي سائرِ حالِك احرِصْ علَى أنْ تكونَ في أبهَى منظرٍ ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ وأنتمُ اليومَ في أطيبِ مسجدٍ وأكرمِ مسجدٍ وأعظمِ مسجدٍ عندَ اللهِ -عزَّ وجلَّ- أنتُم في المسجدِ الحرامِ فحَقُّه أنْ يؤخذَ لهُ مِنَ الزينةِ ما يناسِبُه، والاعتكافُ ليسَ مبرِّرًا للتهاونِ في هَذا الأمرِ، فإنَّ العنايةَ بذلكَ مما يؤجَرُ عَلَيهِ الإنسانُ، وهُو مِنْ تعظيمِ شعائرِ اللهِ، لو أرادَ أحدُنا إلى زيارةِ صديقٍ للبِسَ أطيبَ ما يكونُ، فكيفَ وأنتَ تأتي لبيتٍ مِنْ بيوتِ اللهِ عزَّ وجلَّ.

نحنُ نقولُ لا يتكلفُ الإنسانُ مالا يجدُ لكِنْ ينبَغي لهُ أنْ يلبسَ وأنْ يتهيأَ للاعتكافِ بأحسنِ ما يجدُ حسبَ القدرةِ، والناسُ في ذلكَ عَلَى درجاتٍ ومراتبَ وكلٌّ عَلَى حسبِ طاقتِه، ليسَ المقصودُ أنْ يكونَ في الغايةِ مِنَ الكمالِ وأنْ يتكَلَّفوا مالا يُطيقونَ، لكِنْ بالتأكيدِ أنَّ الفقيرَ عندَه لباسُ زينةٍ ولباسٌ للتبدلِ وسائرِ شأنِه والتصرفِ في بيتِه، فليلبَسْ أجودَ ما يكونُ لقولِه ـ تعالَى ـ: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ فوصيَّتي لإخواني وهُم مُعتكِفونَ في هذهِ الليالي المباركةِ وفي هَذا الزمانِ الفاضلِ الشريفِ أنْ يحرِصوا عَلَى تعظيمِ شعائرِ اللهِ، أنْ يَجتهِدوا  في ذِكرِه، وأنْ يكونوا عَلَى غايةِ ما يستطيعونَ مِنَ الكمالِ في المظهرِ والجوهرِ، في الصورةِ وفي الروحِ فهيَ فرصةٌ يُقبِلُ بها الناسُ عَلَى اللهِ ويُدرِكون خيرًا عظيمًا بإقبالِهم عَلَيهِ.

اللهُم اجعَلْنا مِن عبادِك المُتقينَ، وحزبِك المفلِحينَ، وأوليائِك الصالحينَ يا ربَّ العالَمينَ، أعِنَّا عَلَى ذِكرِك وشُكرِك وحُسنِ عبادتِك.

الاكثر مشاهدة

4. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات94740 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات90415 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف