×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / دروس المصلح / دروس منوعة / رسالة الذل والانكسار / الدرس(5)"قال أبو عمران الجوني: والله لقد صرف ..".

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

يقول ابن رجب رحمه الله بعد ذلك:"وقال تعالى:{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}([1]). قال أبو عمران الجوني: والله لقد صرف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرفه إلى الجبال لمحاها ودحاها". وكان مالك بن دينار رحمه الله يقرأ هذه الآية ثم يقول : أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه". وروي عن الحسن رحمه الله تعالى قال :"يا ابن آدم إذا وسوس لك الشيطان بخطيئة أو حدثت بها نفسك فاذكر ذلك ما حملك الله في كتابه، مما لو حملته الجبال الرواسي لخشعت وتصدعت أما سمعته يقول {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}.  فإنما ضرب لك الأمثال لتتفكر فيها وتعتبر بها وتزدجر عن المعاصي لله عز وجل، وأنت يا ابن آدم أحق أن تخشع لذكر الله وما حملك في كتابه وما أتاك من حكمة لأن عليك الحساب ولك الجنة أو النار". هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله بين فيه أعظم ما يحصل به خشوع القلب فإنه ذكر رحمه الله فيما تقدم أن الخشية إنما تكون بقدر العلم بالله تعالى ومعرفته، ولذلك يقول رحمه الله في بيان كيف يدرك الخشوع يقول:"وأصل الخشوع  الحاصل في القلب إنما هو من معرفة الله تعالى". ولقائل أن يقول : كيف يعرف العبد الله جل وعلا يقبل على كتابه، ولهذا بين في هذا المقطع أن القرآن أعظم ما تلين به القلوب وتخشع. قال الله تعالى{لو أنزلنا هذا القرآن}، أي الذي يتلى ويقرأ ويحفظ في الصدور، {على جبل}، تصور أعظم جبل، هنا جبل نكرة في سياق الشرط يشمل كل جبل، صغير أو كبير، عظيم أو غيره، لكن هو في المعنى واحد. الجبل على صلابته وقوة رسوخه يقول{لرأيته خاشعا متصدعا}، فذكر الله تعالى وصفين: وصف خفي ووصف ظاهر {لرأيته خاشعا متصدعا}، فهو خشوع بمعنى الذل، وتصدع بمعنى التشقق، وذلك أن هذا القرآن يؤثر في القلوب تأثيرا عظيما، ويؤثر في الأشياء تأثيرا كبيرا، يقول الله جل وعلا {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض}([2])، الجواب: لكان هذا القرآن ، يعنيلو أن شيئا يتلى فتسير به الجبال وتقطع به الأرض لكان هذا القرآن. وهذا معنى قوله جل وعلا {لرأيته خاشعا متصدعا من}، هذه بيان للسبب {من خشية الله}، من أين أتت خشية الله؟ من هذا القرآن الذي يتلى، ولهذا من أراد الخشوع فعليه بكثرة قراءة كلام الله تعالى . لكن ..انظر ، ليس القراءة التي هي قراءة اللسان التي لا ينفذ بها المعاني إلى القلب، بل لابد أن يجمع إلى قراءة اللسان حضور القلب،{إن في ذلك لذكرى} يقول الله تعالى {لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}([3]). رأيت كيف أن الله تعالى قدم أولا حضور القلب على الإصغاء والاستماع، لأن الشأن كله في استعداد القلب وتهيئه للزكاة والصلاح، ولهذا يقول جل وعلا {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع} أي أنصت، واستمع، وأقبل على ما يقرأ ويتلى، {وهو شهيد}، أي حاضر في فهمه وذهنه. يقول :"قال أبو عمران الجوني: والله لقد صرف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرفه إلى الجبال لمحاها ودحاها"، المحو هو الإزالة بالكلية ، والدحو هو نقلها وجرفها من مكانها، كما قال تعالى {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض}، أي لكان هذا القرآن. قال :"وكان مالك بن دينار رحمه الله يقرأ هذه الآية ثم يقول : أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن"، أي لا يصدق به ويقبل عليه ويقر به "إلا صدع قلبه"، أي أنه لابد وأن يؤثر في قلبه فينكسر القلب. هنا الصدوع ليس معناه التشقق والبعد عن الطمأنينة والسكون ، إنما الصدع هنا بمعنى أنه ينكسر قلبه لله عز وجل ويذل ويخشع للرب جل وعلا. وذكر بعد ذلك كلام الحسن البصري رحمه الله "قال :"يا ابن آدم إذا وسوس لك الشيطان بخطيئة أو حدثت بها نفسك فاذكر ذلك ما حملك الله في كتابه"، ولو كان قليلا ، "ما لو حملته الجبال الرواسي لخشعت وتصدعت"، وهذا يكفي في الفاتحة، الفاتحة أم القرآن تكفي في علاج القلوب، فإذا تذكر الإنسان ما حمله من هذا القرآن لكان ذلك كافيا. وقوله "فاذكر"، إما أن يذكر بمعنى يتدبر، وإما أن يذكر بمعنى أنه يقرأ ويتلو تلك الآيات التي حفظها حتى يزجره عن المضي فيما أراده من الشيء. "أما سمعته يقول:{لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}، فإنما ضرب لك المثال لتتفكر بها وتعتبر بها وتزدجر عن المعاصي لله عز وجل، وأنت يا ابن آدم أحق أن تخشع"، من الجبال الصم "لذكر الله وما حملك من كتابه وما أتاك من حكمه لأن عليك الحساب"، تلك لا حساب عليها، "ولك الجنة أو النار"، وهي ليست كذلك. وقال رحمه الله :" وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من قلب لا يخشع، كما في "صحيح مسلم" عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم  كان يقول :« اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها»([4])، وقد روي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، ويروى عن كعب الأحبار قال : مكتوب في الإنجيل :" يا عيسى قلب لا يخشع؛ عمله لا ينفع، وصوته لا يسمع، ودعاؤه لا يرفع". هذه الأمور المرتبطة بحديث زيد بن أرقم في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم  وهي أربعة أمور استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم، ليست مفككة، إنما هي مقترنة، وقرن النبي صلى الله عليه وسلم بين اتصال بعضها ببعض هو ما بينه خبر كعب الأحبار، ولو لم يبينه لكان المعنى ظاهرا، يقول "أن النبي صلى الله عليه وسلم  كان يقول :« اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع"، وثق أن العلم الذي لا ينفع لا يثمر شيئا ولهذا قال: "ومن قلب لا يخشع"، لأن القلب الذي يخشع إنما هو ثمرة العلم النافع، القلب الذي يخشع هو ثمرة العلم النافع، وإذا خشع القلب زهدت النفس، ولذلك قال :"ومن نفس لا تشبع"، أي تتطلب من متع الدنيا وتستفيض فيها بحيث لا ينتهي ذلك عند حد. ثم إذا حصل للإنسان هذا بأن كان غير ذي قلب خاشع ونفسه مقبلة على الدنيا فإنه لا يسمع له دعاء، ولذلك قال :"ومن دعوة لا يستجاب لها"، لأن الإشكالية ليست في المدعو فالله تعالى هو الغني الحميد الذي له الأمر كله {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}([5])، سبحانه وبحمده. إنما الإشكالية في الداعي الذي خلا قلبه عن الذل والانكسار لله جل وعلا، خلا عمله من الزكاة والاستقامة، فنفس لا تشبع أي أنها أسرفت على نفسها بألوان الملاذ والشهوات، ولهذا يقول في ما ذكره عن كعب الأحبار "مكتوب في الإنجيل :" يا عيسى قلب لا يخشع- وفي بعض النسخ لا يخشى -عمله لا ينفع " هذا واحد، "وصوته لا يسمع"، هذا اثنين، "ودعاؤه لا يرفع"، وكل هذا من ثمرة غفلة القلب نعوذ بالله من الخسران. قال رحمه الله :"قال أسد بن موسى في كتاب "الورع" حدثنا مبارك بن فضالة قال : كان الحسن رحمه الله تعالى يقول : إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها وأفضى يقينها إلى قلوبهم وخشعت لذلك قلوبهم وأبدانهم وأبصارهم، وكنت والله إذا رأيتهم رأيت قوما كأنهم رأي عين فوالله ما كانوا بأهل جدل ولا باطل، ولا اطمأنوا إلا إلى كتاب الله، ولا أظهروا ما ليس في قلوبهم، ولكن جاءهم عن الله أمر فصدقوا به، فنعتهم الله تعالى في القرآن أحسن نعت، فقال :{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا}([6])، قال الحسن:الهون في كلام العرب اللين والسكينة والوقار، قال: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}، قال : حلماء لا يجهلون، وإذا جهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهارا بما يسمعون، ثم ذكر ليلهم خير ليل فقال :{والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما}، ينتصبون لله على أقدامهم ويفترشون وجوههم لربهم سجدا تجري دموعهم على خدودهم فرقا من ربهم، قال الحسن رحمه الله تعالى : لأمر ما أسهروا له ليلهم، ولأمر ما خشعوا له نهارهم.  ثم قال:{والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما}، قال: وكل شيء  يصيب ابن آدم ثم يزول عنه فليس بغرام، إنما الغرام الملازم له ما دامت السموات والأرض، قال: صدق القوم والله الذي لا إله إلا هو فعملوا ولم يتمنوا ، وإياكم رحمكم الله وهذه الأماني فإن الله لم يعط عبدا بأمنيته خيرا قط في الدنيا والآخرة، وكان يقول: يا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة لوعتها، وقد شرع الله تعالى لعباده من أنواع العبادات ما يظهر فيه خشوع الأبدان". هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله بين فيه ما ذكره مما نقل عن الحسن البصري وهو من الأئمة الزهاد أصحاب الكلمات ذات النور وهو من التابعين الذين أدركوا جملة من الصحابة رضي الله عنهم، وكان له من الفقه والنظر والعلم والسلوك ما ميزه عن كثير من طبقته رضي الله عنه ورحمه. يقول :"يقول : إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله"، الدعوة لهذا القرآن الكريم الذي فيه دعوتهم إلى كل بر ، وتحذيرهم من كل شر، يقول :"صدقوا بها وأفضى يقينها إلى قلوبهم وخشعت لذلك قلوبهم وأبدانهم وأبصارهم"، يقول :"وكنت والله إذا رأيتهم رأيت قوما كأنهم رأي عين"، يعني كأنهم يؤمنون بما أخبروا به كالذي يراه بعينه، هذا معنى "كأنهم رأي عين"، أي كأنهم رأوا ما أخبروا به بأعينهم، وهذا أعلى ما يكون من مراتب العلم، واليقين وإن كان أعلى منه حق اليقين، لكن هذا من أعلى مراتب العلم الذي لا يباشر به الإنسان الشيء،"فوالله ما كانوا بأهل جدل ولا باطل"، لأي شيء؟ لأنهم أيقنوا واشتغلوا بما ينفعهم، فلم يكن لديهم وقت يصرفونه في المجادلات ولا في الباطل، يقول "ولا اطمأنوا إلا إلى كتاب الله، ولا أظهروا ما ليس في قلوبهم"، بل كانت ظواهرهم موافقة لبواطنهم، بل ما في بواطنهم من الخير أعظم بكثير مما ظهر منهم. يقول :"ولكن جاءهم عن الله أمر فصدقوا به، فنعتهم الله تعالى في القرآن أحسن نعت، فقال :{وعباد الرحمن}"، أضافهم إليه إضافة تشريف وتكريم، يقول : "{الذين يمشون على الأرض هونا}"، أي برفق وذل، لا باستكبار وعلو، "{وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}"، فهم سلام في أحوالهم ومسيرهم، وسلام في أقوالهم، قال :"حلماء لا يجهلون، وإذا جهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهارا بما يسمعون، ثم ذكر ليلهم خير ليل فقال :{ والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما}"، ثم ذكر المؤلف رحمه الله من كلام الحسن ما يبين السر، هؤلاء لماذا أقاموا ليلهم، إنهم أقاموا الليل وأمضوه في طاعة الله تعالى طلبا لما عنده من المرضاة، ثم هم - يا إخواني - تلذذوا بالقيام، ولهذا الإنسان الذي ما جرب هذا ولا عرفه يجد أن القيام مشقة وعناء، ولكن إذا ذاق ما فيه من طعم وجد أن القوم إنما أجهدوا أنفسهم للذة أدركوها، حظ قريب، وهذا من عون الله تعالى للعبد. ولذلك انظر كيف يصفهم الله تعالى في منامهم،{تتجافى جنوبهمعن المضاجع}([7])، تتجافى أي تبعد، وتظنون أن هذا شيء فقط يدركه الإنسان في الآخرة فقط، لا، هناك شيء أدركوه في الدنيا أعانهم على هذا النصب والتعب مع ما يؤملونه من الخير في الآخرة ، ولهذا لابد من التنبه لهذا الأمر ، إن هذه العبادات مع ما فيها من المشاق الظاهرة لكنها ملاذ لأصحابها، ولذلك يقول شيخ الإسلام :" في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"([8]). هذه الجنة هي طعم الإيمان وهي لذته التي يتذوقها من من الله تعالى وفتح عليه من فيوضه وإنعامه فأدرك شيئا من النعيم الذي يكون في الآخرة. ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله :"إن قوله تعالى :{إن الأبرار لفينعيم}([9])، يقول هذا النعيم في الدنيا، ونعيم في البرزخ، ونعيم يكمل في الدار الآخرة. فليس نعيما فقط في الدار الآخرة ونصب وكد في الدنيا، لا، هناك نعيم تعجز الكلمات عن بيانه، ونحن ليس لنا كما قال ابن القيم في بعض كلامه " ليس لنا من هذا الكلام إلا الوصف"، نصف شيئا سمعنا به، أما أن نكون قد ذقناه فنسأل الله من فضله، ونسأله أن يفتح علينا من فتوح رحمته وفيوض إنعامه ما يذيقنا طعم الإيمان ويستعملنا فيما يحب ويرضى إنه جواد كريم. إذا "لأمر ما أسهروا له ليلهم، ولأمر ما خشعوا له نهارهم، ثم قال :{والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما}"، ثم فسر الغرام، الغرام هو الملازم للشيء، كالغريم، غريمك فلان أي الذي يلازمك في الطلب، وهنا يقول جل وعلا {إن عذابها كان غراما}، أي لازما لأهلها الذين دخلوها دخولا مؤبدا لا ينفكون عنها . بعد ذلك يقول رحمه الله :"وقد شرع الله تعالى لعباده من أنواع العبادات ما يظهر فيه خشوع الأبدان الناتج عن خشوع القلب وذله وانكساره، ومن أعظم ما يظهر فيه خشوع الأبدان لله تعالى من العبادات الصلاة، وقد مدح الله تعالى الخاشعين فيها بقوله عز وجل:{قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون}([10])، وقد سبق بعض ما قاله السلف بتفسير الخشوع في الصلاة، وقال ابن لهيعة عن عطاء بن يسار رحمه الله تعالى، عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى:{الذين هم في صلاتهم خاشعون}، يعني متواضعين لا يعرف من عن يمينه ولا من عن شماله، ولا يلتفت من الخشوع لله عز وجل". هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله بين فيه من الخشوع العملي ما يوافق ما في القلب من الذل والانكسار إلى الله تعالى، أي أن ما في القلب من الخشوع شرع الله تعالى إظهاره في بعض الأعمال ومن أبرز ذلك الصلاة. "{قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون}"، والخشوع تقدم أنه لين القلب ورقته وذله وانكساره وخضوعه لله جل وعلا، كل هذه المعاني مما يفسر بها خشوع القلب، فالخشوع في الصلاة هو ذله وانكساره ورقته وحضوره ، وخضوعه لله جل وعلا ، وما ذكره من كلام سعيد بن جبير، "{الذين هم في صلاتهم خاشعون}، يعني متواضعين"، في هيئتهم ووقوفهم "لا يعرف من عن يمينه ولا من عن شماله"، المقصود أنه يستغرق فيما هو فيه، يستغرق في إقباله على الله تعالى، يشتغل به عمن سواه جل في علاه، فلا يأبه بمن عن يمينه ولا من عن يساره، لكن إذا احتاج أن يتنبه إلى من عن يمينه أو عن يساره فلا حرج، فالنبي  صلى الله عليه وسلم كان يصلي الليل وهو أكمل الخاشعين، فجاء ابن عباس فوقف عن يساره فأخذ برأسه وأداره فأتى به عن يمينه([11]) وليس المعنى أنه لا يدري ولا يشعر بشيء بالكلية، إنما المقصود أنه يقبل على صلاته إقبال المشتغل بها عن كل شيء. هذا هو الشأن الذي ينبغي أن يعرف في معنى الخشوع، وليس المعنى أنه لو انهدم سور المسجد كما يقول بعض أصحاب التأليفات في الزهد والخشوع أنه إذا صلى الإنسان فلو انهدم طرف المسجد ما شعر، هذا نوع من الاستغراق الذي لا يطلب من الإنسان. النبي  صلى الله عليه وسلم كان يسلم عليه أصحابه فيرد عليهم ولو كان مشتغلا عن الدنيا بحيث أنه لا يدري لما رد عليهم بإشارة ولا بغيرها، وكان إذا سجد  صلى الله عليه وسلم كانت عائشة بين يديه فغمزها حتى تزيل رجليها حتى يتمكن من السجود صلى الله عليه وسلم . فليس الخشوع هو الغياب الكلي عن المحيط، إنما الخشوع هو الاشتغال بالله تعالى عمن سواه، ولكن لا يعني أنه يغيب عن إدراك ما يجري حوله. ثم ذكر رحمه الله :"وقال ابن المبارك عن أبي جعفر ، عن ليث، عن مجاهد {وقوموا لله قانتين}([12])، قال القنوت يكون والخشوع وغض البر وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل، قال : وكان العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن عز وجل أن يشذ نظره أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث - يعني نفسه - بشيء من الدنيا، إلا ناسيا، ما دام في صلاته. وقال منصور عن مجاهد رحمه الله تعالى في قوله تعالى {سيماهم في وجوههم من أثر السجود}([13])،قال: الخشوع في الصلاة .   ([1]) سورة الحشر:21. ([2]) سورة الرعد:31. ([3]) سورة ق: 37. ([4]) "صحيح مسلم"(2722). ([5]) سورة يس:82. ([6]) سورة الفرقان: 63. ([7]) سورة السجدة: 16. ([8]) انظر "الوابل الصيب"ص(67). ([9]) سورة الانفطار: 13. ([10]) سورة المؤمنون. ([11]) الحديث أخرجه البخاري (117)، ومسلم (763). ([12]) سورة البقرة:238. ([13]) سورة الفتح:29.

المشاهدات:3271

يقول ابن رجب رحمه الله بعد ذلك:"وقال تعالى:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}([1]).

قال أبو عمران الجوني: والله لقد صرف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرفه إلى الجبال لمحاها ودحاها".

وكان مالك بن دينار رحمه الله يقرأ هذه الآية ثم يقول : أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه".

وروي عن الحسن رحمه الله تعالى قال :"يا ابن آدم إذا وسوس لك الشيطان بخطيئة أو حدَّثت بها نفسك فاذكر ذلك ما حمَّلك الله في كتابه، مما لو حملته الجبال الرواسي لخشعت وتصدعت أما سمعته يقول {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.

 فإنما ضرب لك الأمثال لتتفكر فيها وتعتبر بها وتزدجر عن المعاصي لله عز وجل، وأنت يا ابن آدم أحق أن تخشع لذكر الله وما حملك في كتابه وما أتاك من حكمة لأن عليك الحساب ولك الجنة أو النار".

هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله بيَّن فيه أعظم ما يحصل به خشوع القلب فإنه ذكر رحمه الله فيما تقدم أن الخشية إنما تكون بقدر العلم بالله تعالى ومعرفته، ولذلك يقول رحمه الله في بيان كيف يدرك الخشوع يقول:"وأصل الخشوع  الحاصل في القلب إنما هو من معرفة الله تعالى".

ولقائل أن يقول : كيف يعرف العبد الله جل وعلا يقبل على كتابه، ولهذا بيَّن في هذا المقطع أن القرآن أعظم ما تلين به القلوب وتخشع.

قال الله تعالى{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ}، أي الذي يتلى ويقرأ ويحفظ في الصدور، {عَلَى جَبَلٍ}، تصور أعظم جبل، هنا جبل نكرة في سياق الشرط يشمل كل جبل، صغير أو كبير، عظيم أو غيره، لكن هو في المعنى واحد.

الجبل على صلابته وقوة رسوخه يقول{لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا}، فذكر الله تعالى وصفين: وصف خفي ووصف ظاهر {لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا}، فهو خشوع بمعنى الذل، وتصدع بمعنى التشقق، وذلك أن هذا القرآن يؤثر في القلوب تأثيراً عظيماً، ويؤثر في الأشياء تأثيراً كبيراً، يقول الله جل وعلا {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ}([2])، الجواب: لكان هذا القرآن ، يعنيلو أن شيئاً يتلى فتسير به الجبال وتقطع به الأرض لكان هذا القرآن.

وهذا معنى قوله جل وعلا {لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ}، هذه بيان للسبب {مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}، من أين أتت خشية الله؟ من هذا القرآن الذي يتلى، ولهذا من أراد الخشوع فعليه بكثرة قراءة كلام الله تعالى .

لكن ..انظر ، ليس القراءة التي هي قراءة اللسان التي لا ينفذ بها المعاني إلى القلب، بل لابد أن يجمع إلى قراءة اللسان حضور القلب،{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} يقول الله تعالى {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}([3]).

رأيت كيف أن الله تعالى قدم أولاً حضور القلب على الإصغاء والاستماع، لأن الشأن كله في استعداد القلب وتهيئه للزكاة والصلاح، ولهذا يقول جل وعلا {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي أنصت، واستمع، وأقبل على ما يقرأ ويتلى، {وَهُوَ شَهِيدٌ}، أي حاضر في فهمه وذهنه.

يقول :"قال أبو عمران الجوني: والله لقد صرَّف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرَّفه إلى الجبال لمحاها ودحاها"، المحو هو الإزالة بالكلية ، والدحو هو نقلها وجرفها من مكانها، كما قال تعالى {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ}، أي لكان هذا القرآن.

قال :"وكان مالك بن دينار رحمه الله يقرأ هذه الآية ثم يقول : أقسم لكم لا يؤمن عبد بهذا القرآن"، أي لا يصدق به ويقبل عليه ويقر به "إلا صدع قلبه"، أي أنه لابد وأن يؤثر في قلبه فينكسر القلب.

هنا الصدوع ليس معناه التشقق والبعد عن الطمأنينة والسكون ، إنما الصدع هنا بمعنى أنه ينكسر قلبه لله عز وجل ويذل ويخشع للرب جل وعلا.

وذكر بعد ذلك كلام الحسن البصري رحمه الله "قال :"يا ابن آدم إذا وسوس لك الشيطان بخطيئة أو حدَّثت بها نفسك فاذكر ذلك ما حمَّلك الله في كتابه"، ولو كان قليلاً ، "ما لو حملته الجبال الرواسي لخشعت وتصدعت"، وهذا يكفي في الفاتحة، الفاتحة أم القرآن تكفي في علاج القلوب، فإذا تذكر الإنسان ما حمَّله من هذا القرآن لكان ذلك كافياً.

وقوله "فاذكر"، إما أن يذكر بمعنى يتدبر، وإما أن يذكر بمعنى أنه يقرأ ويتلو تلك الآيات التي حفظها حتى يزجره عن المضي فيما أراده من الشيء.

"أما سمعته يقول:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، فإنما ضرب لك المثال لتتفكر بها وتعتبر بها وتزدجر عن المعاصي لله عز وجل، وأنت يا ابن آدم أحق أن تخشع"، من الجبال الصم "لذكر الله وما حملك من كتابه وما أتاك من حكمه لأن عليك الحساب"، تلك لا حساب عليها، "ولك الجنة أو النار"، وهي ليست كذلك.

وقال رحمه الله :" وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يستعيذ بالله من قلب لا يخشع، كما في "صحيح مسلم" عن زيد بن أرقم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  كان يقول :« اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخشَعُ وَمِنْ نَفسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ دَعوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا»([4])، وقد روي نحوه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجوه متعددة، ويروى عن كعب الأحبار قال : مكتوب في الإنجيل :" يا عيسى قلب لا يخشع؛ عمله لا ينفع، وصوته لا يسمع، ودعاؤه لا يرفع".

هذه الأمور المرتبطة بحديث زيد بن أرقم في دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  وهي أربعة أمور استعاذ منها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليست مفككة، إنما هي مقترنة، وقرن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَّن اتصال بعضها ببعض هو ما بينه خبر كعب الأحبار، ولو لم يبينه لكان المعنى ظاهراً، يقول "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ  كان يقول :« اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ"، وثق أن العلم الذي لا ينفع لا يثمر شيئاً ولهذا قال: "وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخشَعُ"، لأن القلب الذي يخشع إنما هو ثمرة العلم النافع، القلب الذي يخشع هو ثمرة العلم النافع، وإذا خشع القلب زهدت النفس، ولذلك قال :"وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ"، أي تتطلب من متع الدنيا وتستفيض فيها بحيث لا ينتهي ذلك عند حد.

ثم إذا حصل للإنسان هذا بأن كان غير ذي قلب خاشع ونفسه مقبلة على الدنيا فإنه لا يُسمع له دعاء، ولذلك قال :"وَمِنْ دَعوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا"، لأن الإشكالية ليست في المدعو فالله تعالى هو الغني الحميد الذي له الأمر كله {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}([5])، سبحانه وبحمده.

إنما الإشكالية في الداعي الذي خلا قلبه عن الذل والانكسار لله جل وعلا، خلا عمله من الزكاة والاستقامة، فنفس لا تشبع أي أنها أسرفت على نفسها بألوان الملاذ والشهوات، ولهذا يقول في ما ذكره عن كعب الأحبار "مكتوب في الإنجيل :" يا عيسى قلب لا يخشع- وفي بعض النسخ لا يخشى -عمله لا ينفع " هذا واحد، "وصوته لا يسمع"، هذا اثنين، "ودعاؤه لا يرفع"، وكل هذا من ثمرة غفلة القلب نعوذ بالله من الخسران.

قال رحمه الله :"قال أسد بن موسى في كتاب "الورع" حدثنا مبارك بن فضالة قال : كان الحسن رحمه الله تعالى يقول : إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها وأفضى يقينها إلى قلوبهم وخشعت لذلك قلوبهم وأبدانهم وأبصارهم، وكنت والله إذا رأيتهم رأيت قوماً كأنهم رأي عين فوالله ما كانوا بأهل جدل ولا باطل، ولا اطمأنوا إلا إلى كتاب الله، ولا أظهروا ما ليس في قلوبهم، ولكن جاءهم عن الله أمر فصدقوا به، فنعتهم الله تعالى في القرآن أحسن نعت، فقال :{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}([6])، قال الحسن:الهون في كلام العرب اللين والسكينة والوقار، قال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}، قال : حلماء لا يجهلون، وإذا جهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهارا بما يسمعون، ثم ذكر ليلهم خير ليل فقال :{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}، ينتصبون لله على أقدامهم ويفترشون وجوههم لربهم سجداً تجري دموعهم على خدودهم فرقاً من ربهم، قال الحسن رحمه الله تعالى : لأمر ما أسهروا له ليلهم، ولأمر ما خشعوا له نهارهم.

 ثم قال:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}، قال: وكل شيء  يصيب ابن آدم ثم يزول عنه فليس بغرام، إنما الغرام الملازم له ما دامت السموات والأرض، قال: صدق القوم والله الذي لا إله إلا هو فعملوا ولم يتمنوا ، وإياكم رحمكم الله وهذه الأماني فإن الله لم يعط عبداً بأمنيته خيرا قط في الدنيا والآخرة، وكان يقول: يا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة لوعتها، وقد شرع الله تعالى لعباده من أنواع العبادات ما يظهر فيه خشوع الأبدان".

هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله بيَّن فيه ما ذكره مما نقل عن الحسن البصري وهو من الأئمة الزهاد أصحاب الكلمات ذات النور وهو من التابعين الذين أدركوا جملة من الصحابة رضي الله عنهم، وكان له من الفقه والنظر والعلم والسلوك ما ميزه عن كثير من طبقته رضي الله عنه ورحمه.

يقول :"يقول : إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله"، الدعوة لهذا القرآن الكريم الذي فيه دعوتهم إلى كل بر ، وتحذيرهم من كل شر، يقول :"صدقوا بها وأفضى يقينها إلى قلوبهم وخشعت لذلك قلوبهم وأبدانهم وأبصارهم"، يقول :"وكنت والله إذا رأيتهم رأيت قوماً كأنهم رأي عين"، يعني كأنهم يؤمنون بما أخبروا به كالذي يراه بعينه، هذا معنى "كأنهم رأي عين"، أي كأنهم رأوا ما أخبروا به بأعينهم، وهذا أعلى ما يكون من مراتب العلم، واليقين وإن كان أعلى منه حق اليقين، لكن هذا من أعلى مراتب العلم الذي لا يباشر به الإنسان الشيء،"فوالله ما كانوا بأهل جدل ولا باطل"، لأي شيء؟ لأنهم أيقنوا واشتغلوا بما ينفعهم، فلم يكن لديهم وقت يصرفونه في المجادلات ولا في الباطل، يقول "ولا اطمأنوا إلا إلى كتاب الله، ولا أظهروا ما ليس في قلوبهم"، بل كانت ظواهرهم موافقة لبواطنهم، بل ما في بواطنهم من الخير أعظم بكثير مما ظهر منهم.

يقول :"ولكن جاءهم عن الله أمر فصدقوا به، فنعتهم الله تعالى في القرآن أحسن نعت، فقال :{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}"، أضافهم إليه إضافة تشريف وتكريم، يقول : "{الَّذِينَ يَمشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا}"، أي برفق وذل، لا باستكبار وعلو، "{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}"، فهم سلام في أحوالهم ومسيرهم، وسلام في أقوالهم، قال :"حلماء لا يجهلون، وإذا جهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهارا بما يسمعون، ثم ذكر ليلهم خير ليل فقال :{ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}"، ثم ذكر المؤلف رحمه الله من كلام الحسن ما يبين السر، هؤلاء لماذا أقاموا ليلهم، إنهم أقاموا الليل وأمضوه في طاعة الله تعالى طلباً لما عنده من المرضاة، ثم هم - يا إخواني - تلذذوا بالقيام، ولهذا الإنسان الذي ما جرَّب هذا ولا عرفه يجد أن القيام مشقة وعناء، ولكن إذا ذاق ما فيه من طعم وجد أن القوم إنما أجهدوا أنفسهم للذة أدركوها، حظ قريب، وهذا من عون الله تعالى للعبد.

ولذلك انظر كيف يصفهم الله تعالى في منامهم،{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْعَنِ الْمَضَاجِعِ}([7])، تتجافى أي تبعد، وتظنون أن هذا شيء فقط يدركه الإنسان في الآخرة فقط، لا، هناك شيء أدركوه في الدنيا أعانهم على هذا النصب والتعب مع ما يؤملونه من الخير في الآخرة ، ولهذا لابد من التنبه لهذا الأمر ، إن هذه العبادات مع ما فيها من المشاق الظاهرة لكنها ملاذ لأصحابها، ولذلك يقول شيخ الإسلام :" في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"([8]).

هذه الجنة هي طعم الإيمان وهي لذته التي يتذوقها من منَّ الله تعالى وفتح عليه من فيوضه وإنعامه فأدرك شيئاً من النعيم الذي يكون في الآخرة.

ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله :"إن قوله تعالى :{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِينَعِيمٍ}([9])، يقول هذا النعيم في الدنيا، ونعيم في البرزخ، ونعيم يكمل في الدار الآخرة.

فليس نعيماً فقط في الدار الآخرة ونصب وكد في الدنيا، لا، هناك نعيم تعجز الكلمات عن بيانه، ونحن ليس لنا كما قال ابن القيم في بعض كلامه " ليس لنا من هذا الكلام إلا الوصف"، نصف شيئاً سمعنا به، أما أن نكون قد ذقناه فنسأل الله من فضله، ونسأله أن يفتح علينا من فتوح رحمته وفيوض إنعامه ما يذيقنا طعم الإيمان ويستعملنا فيما يحب ويرضى إنه جواد كريم.

إذاً "لأمر ما أسهروا له ليلهم، ولأمر ما خشعوا له نهارهم، ثم قال :{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}"، ثم فسَّر الغرام، الغرام هو الملازم للشيء، كالغريم، غريمك فلان أي الذي يلازمك في الطلب، وهنا يقول جل وعلا {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}، أي لازماً لأهلها الذين دخلوها دخولاً مؤبداً لا ينفكون عنها .

بعد ذلك يقول رحمه الله :"وقد شرع الله تعالى لعباده من أنواع العبادات ما يظهر فيه خشوع الأبدان الناتج عن خشوع القلب وذله وانكساره، ومن أعظم ما يظهر فيه خشوع الأبدان لله تعالى من العبادات الصلاة، وقد مدح الله تعالى الخاشعين فيها بقوله عز وجل:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}([10])، وقد سبق بعض ما قاله السلف بتفسير الخشوع في الصلاة، وقال ابن لهيعة عن عطاء بن يسار رحمه الله تعالى، عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى:{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}، يعني متواضعين لا يعرف من عن يمينه ولا من عن شماله، ولا يلتفت من الخشوع لله عز وجل".

هذا المقطع من كلام المؤلف رحمه الله بيَّن فيه من الخشوع العملي ما يوافق ما في القلب من الذل والانكسار إلى الله تعالى، أي أن ما في القلب من الخشوع شرع الله تعالى إظهاره في بعض الأعمال ومن أبرز ذلك الصلاة.

"{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}"، والخشوع تقدم أنه لين القلب ورقته وذله وانكساره وخضوعه لله جل وعلا، كل هذه المعاني مما يفسر بها خشوع القلب، فالخشوع في الصلاة هو ذله وانكساره ورقته وحضوره ، وخضوعه لله جل وعلا ، وما ذكره من كلام سعيد بن جبير، "{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}، يعني متواضعين"، في هيئتهم ووقوفهم "لا يعرف من عن يمينه ولا من عن شماله"، المقصود أنه يستغرق فيما هو فيه، يستغرق في إقباله على الله تعالى، يشتغل به عمن سواه جل في علاه، فلا يأبه بمن عن يمينه ولا من عن يساره، لكن إذا احتاج أن يتنبه إلى من عن يمينه أو عن يساره فلا حرج، فالنبي  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي الليل وهو أكمل الخاشعين، فجاء ابن عباس فوقف عن يساره فأخذ برأسه وأداره فأتى به عن يمينه([11]) وليس المعنى أنه لا يدري ولا يشعر بشيء بالكلية، إنما المقصود أنه يقبل على صلاته إقبال المشتغل بها عن كل شيء.

هذا هو الشأن الذي ينبغي أن يُعرف في معنى الخشوع، وليس المعنى أنه لو انهدم سور المسجد كما يقول بعض أصحاب التأليفات في الزهد والخشوع أنه إذا صلى الإنسان فلو انهدم طرف المسجد ما شعر، هذا نوع من الاستغراق الذي لا يطلب من الإنسان.

النبي  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسلم عليه أصحابه فيرد عليهم ولو كان مشتغلاً عن الدنيا بحيث أنه لا يدري لما رد عليهم بإشارة ولا بغيرها، وكان إذا سجد  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت عائشة بين يديه فغمزها حتى تزيل رجليها حتى يتمكن من السجود صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

فليس الخشوع هو الغياب الكلي عن المحيط، إنما الخشوع هو الاشتغال بالله تعالى عمن سواه، ولكن لا يعني أنه يغيب عن إدراك ما يجري حوله.

ثم ذكر رحمه الله :"وقال ابن المبارك عن أبي جعفر ، عن ليث، عن مجاهد {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}([12])، قال القنوت يكون والخشوع وغض البر وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل، قال : وكان العلماء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن عز وجل أن يشذ نظره أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث - يعني نفسه - بشيء من الدنيا، إلا ناسياً، ما دام في صلاته.

وقال منصور عن مجاهد رحمه الله تعالى في قوله تعالى {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}([13])،قال: الخشوع في الصلاة .

 


([1]) سورة الحشر:21.

([2]) سورة الرعد:31.

([3]) سورة ق: 37.

([4]) "صحيح مسلم"(2722).

([5]) سورة يس:82.

([6]) سورة الفرقان: 63.

([7]) سورة السجدة: 16.

([8]) انظر "الوابل الصيب"ص(67).

([9]) سورة الانفطار: 13.

([10]) سورة المؤمنون.

([11]) الحديث أخرجه البخاري (117)، ومسلم (763).

([12]) سورة البقرة:238.

([13]) سورة الفتح:29.

الاكثر مشاهدة

3. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات89969 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات86965 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف