×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مرئيات المصلح / دروس المصلح / دروس منوعة / كشف الكربة / الدرس(6) وإنما أنس هؤلاء بما استوحش منه الجاهلون

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

قال المؤلف رحمه الله :" وإنما أنس هؤلاء بما استوحش منه الجاهلون؛ لأن الجاهلين بالله يستوحشون من ترك الدنيا وشهواتها؛ لأنهم لا يعرفون سواها فهي أنسهم، وهؤلاء يستوحشون من ذلك ويستأنسون بالله وبذكره، ومعرفته، ومحبته، وتلاوة كتابه.. والجاهلون بالله يستوحشون من ذلك ولا يجدون الأنس به. ومن صفاتهم التي وصفهم بها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنهم صحبوا الدنيا بأبدان، أرواحها معلقة بالنظر الأعلى، وهذا إشارة إلى أنهم لم يتخذوها وطنا، ولا رضوا بها إقامة ولا مسكنا، إنما اتخذوها ممرا ولم يجعلوها مقرا.  وجميع الكتب والرسل أوصت بهذا، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه في وعظه لهم: ﴿يقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار﴾ [غافر: 39]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم  لابن عمر: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، فكأنك بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل»+++ أخرج البخاري شطره الأول رقم (6416).---... وفي رواية: «وعد نفسك من أهل القبور». ومن وصايا المسيح المروية عنه عليه السلام، أنه قال لأصحابه: «اعبروها ولا تعمروها». وعنه عليه السلام أنه قال: «من الذي يبني على موج البحر دارا؟! تلك الدنيا فلا تتخذوها قرارا»". هذا صلة بيان ما ذكره الإمام علي رضي الله عنه في وصف حملة العلم وأقسام الناس، يقول :"وإنما أنس هؤلاء بما استوحش منه الجاهلون؛ لأن الجاهلين بالله يستوحشون من ترك الدنيا وشهواتها؛ لأنهم لا يعرفون سواها فهي أنسهم"، هذه حال هؤلاء لا يعرفون إلا المتع والملذات ، يعرفون تنعيم الأبدان، وليس لهم من لذة القلوب وبهجتها، ليس لهم من تنعيم القلوب وطمأنينتها، ليس لهم من سكونها وسرورها نصيب. ولذلك اشتغلوا بعمارة أبدانهم وتنعيم هذه الأبدان بما يستطيعونه من الملاذ . فلذلك إذا قيل لهم انظروا إلى ما في القلوب من ملاذ، وما في الطاعة من طمأنينة وما فيها من سكون وأمان استوحشوا، لم يجدوا في الطاعات إلا أنها آصار، إلا أنها أثقال، إلا أنها حواجز وموانع.  وشتان بين من يقبل على الطاعة وهو يعلم أنها غذاء لقلبه، يطيب بها القلب ويقر، ويسكن ويطمئن، وبين من يقدم عليها وهو يشعر بأنها حمل على ظهره يريد أن يزيحه عنه بأسرع ما يكون. وهذا سر جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين النوعين من الملاذ يقول:«حبب إلي من الدنيا : النساء، والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة»+++ أخرجه أحمد (3/128)، والنسائي(3939)، من حديث أنس، وصححه الألباني.---. يعني النبي لم يهمل التمتع بالدنيا، ولم يجعل الدنيا منصرفا عنها بالكلية، بل قال:«حبب إلي من الدنيا : النساء ، والطيب»، وهذا أمر طبيعي تهواه النفوس وتميل إليه القلوب، لكن أين الملذة الحقيقية الدائمة الثابتة التي هي غاية القرار والسكون يقول :« وجعل قرة عيني في الصلاة»، قرة العين هو سكونها، هو بهجتها، هو طمأنينتها، لا يوصف شيء بأنه قر عينه إلا إذا أدرك مطلوبه على الغاية والمنتهى . فهؤلاء جمعوا بين الخيرين، بين خير الدنيا وخير الآخرة، وعرفوا منزلة ملاذ الدنيا وملاذ الآخرة ، بخلاف أولئك الذين أقبلوا على الدنيا فليس في قلوبهم من الآخرة نصيب، ولا من الطاعة لذة، ولا من الطمأنينة نصيب، هؤلاء أبعد ما يكونون عن السكون والقرار، ولهذا هم في أمر مريج، قلوبهم ملئ بمراجل الحريق الذي لا يسكنه ولا يطفئه إلا السكون واللجوء إلى الله جل وعلا. يقول رحمه الله:" لأنهم لا يعرفون سواها فهي أنسهم، وهؤلاء يستوحشون من ذلك"، يستوحشون من الدنيا وملاذها، "ويستأنسون بالله وبذكره، ومعرفته، ومحبته، وتلاوة كتابه"، هذه لذتهم، وهذه طمأنينتهم، لا يسكون إلا بذلك. يقول :" والجاهلون بالله يستوحشون من ذلك ولا يجدون الأنس به"، وهذا صنف بعض الناس تقول له : اقرأ القرآن يطيب قلبك، يقول : قرأت ولم أجد. لأنه قرأ بلسانه ولم يجعل لهذه القراءة تأثيرا على قلبه. يقول رحمه الله :"ومن صفاتهم التي وصفهم بها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنهم صحبوا الدنيا بأبدان، أرواحها معلقة بالنظر الأعلى"، أي بالنظر إلى الجنة، والنظر إلى الله تعالى وما أعده لأوليائه. فمحط أنظارهم ما أعده الله تعالى لعباده الصالحين، وأوليائه المتقين، ليس لهم نظر إلى الدنيا وملاذها. ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نظر من الدنيا إلى ما يعجبه قال:«لبيك، إن العيش عيش الآخرة»+++ أخرجه ابن خزيمة (4/260)، ح(2831)، والحاكم (1/465)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/45)، من حديث داود عن عكرمة عن ابن عباس ، قال الحاكم:" قد احتج البخاري بعكرمة واحتج مسلم بداود، وهذا الحديث صحيح ولم يخرجاه".---، ليصرف النفس أن تميل أو تتعلق بهذه المظاهر والزخارف . فهي مهما كانت بهيجة  فهي لا تعادل شيئا مما يكون في الآخرة من النعيم والملاذ. « لبيك، إن العيش عيش الآخرة»، قلوبهم وأرواحهم معلقة بما عند الله تعالى مما أعده لأوليائه. يقول :"وهذا إشارة إلى أنهم لم يتخذوها وطنا "، ما جعلوها وطنا ومقرا ومسكنا. " ولا رضوا بها إقامة ولا مسكنا، إنما اتخذوها ممرا ولم يجعلوها مقرا". " وجميع الكتب والرسل أوصت بهذا، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه في وعظه لهم: ﴿يقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار﴾". وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم  لابن عمر :" كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، فكأنك بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل» ، وفي رواية: «وعد نفسك من أهل القبور»". ثم ذكر جملة من الوصايا. ما معنى الغربة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها في قوله:«كن في الدنيا كأنك غريب»، أي حالك كحال الغريب الوافد على مكان لا يعهده ولا يسكن فيه ولا يقر، لأن المتاع الذي فيها ليس له فيه حظ. الآن لو قام مزاد - أنتم يا إخواني الذين جئتم لهذه الدورة- لو سمعتم أن في حراج على قطع أراضي، يهمكم هذا؟ لا يهمكم هذا ولو بيع بتراب الفلوس، لماذا؟ لأنه ليس من شأنكم، وأنتم مرار، عما قريب تنصرفون، فأنتم غرباء، فلا يهمكم ما فيها من رخص وفرص شراء،وما إلى ذلك، لا يهمكم هذا، لماذا؟ لأنك إنسان غريب. بخلاف هذا الذي وطن قلبه ووطن نفسه في مكان يهمه فيها الشاردة والواردة والقليل والكثير، لأنه من أهل الإقامة. هكذا ينبغي أن يكون الإنسان في دنيا كالغريب ، لا يلتفت إلى غير غايته ومقصوده وهدفه وهو الوصول إلى قصده. فلو مر الإنسان بهذه البلدة وهو في طريقه إلى المدينة أو إلى مكة ما تجده يتلفت يجلس هنا قليلا، ويذهب يمينا ويشوف ماذا صار للأسواق، وما هي حال البيع والشراء، وما هي حال بيع العقار، ما يهمه. إذا كان سيفعل هذا بكل منزل ينزله لن يصل . لكنه يقضي حاجته على وجه سريع ويدرك مقصوده وغايته ولا ينقطع عن سيره، بل إذا وجد الناس قد أغلقوا لعارض ضاقه ذلك أنه سيحبه عن الوصول إلى هدفه. هكذا ينبغي أن يكون الإنسان في مسيرة في الدنيا ، هذه الدنيا لم نأتها لنقيم فيها، إنما جئناها لنعمرها بالطاعة والإحسان، لنغتنم منها ما يسره الله تعالى من أنواع البر والطاعة وفعل الخير الذي نتزود به إلى اللقاء الأعظم ، لقاء رب العالمين،﴿وتزودوا فإن خير الزاد التقوى﴾+++ سورة البقرة:197.---. فلذلك ينبغي أن يكون هذا هو الهم ، وكل ما يكون من الأمور الأخرى إنما هي حواشي، إنما هي من فضول الاهتمام، وليس من صلب الهم، ومن صلب ما يعتني به الإنسان. لذلك يقول:"فالمؤمن في الدنيا كالغريب المجتاز ببلدة غير مستوطن فيها يشتاق إلى بلده وهمه الرجوع إليها، والتزود بما يوصله في طريقه إلى وطنه، ولا ينافس أهل ذلك البلد المستوطنين فيه في عزهم، ولا يجزع مما أصابه عندهم من الذل"، لأنه ليس مقيما وعما قريب مرتحل. قال رحمه الله :" قال الفضيل بن عياض: «المؤمن في الدنيا مهموم حزين همه مرمة جهازه»"، مرمة إي إصلاح وترميم وإعداد جهازه الذي يتجهز به في مسيره، والجهاز  هنا ما يتجهز به إلى لقاء ربه. " المؤمن في الدنيا مهموم حزين همه مرمة "، يعني غاية ما يهتم به هو التهيئة والإعداد لما يعينه في وصوله إلى غايته. وقوله :" مهموم"، أي أنه يحمل هما. و"حزين"، المقصود بالحزن هنا أنه منصرف عن كل ما يشغله، وليس المقصود بالحزن هنا الكآبة، والكدر، فإن الكآبة والكدر ليست من صفات المؤمنين، بل الله تعالى شرح الصدور بالطاعة والإحسان،﴿أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله﴾+++ سورة الزمر:22.---. والآية الأخرى:﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء﴾+++ سورة الأنعام:125.---. فالقرآن والهداية هي من أعظم ملاذ القلوب وسعادتها. والله تعالى يقول:﴿ إن الأبرار لفي نعيم﴾+++ سورة الانفطار:13.---، وهم في نعيم في الدنيا قبل الآخرة. وقد قال جماعة من العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمة :" إن في الدنيا لجنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"+++ انظر "المستدرك على مجموع الفتاوى" (1/154).---. جنة الدنيا هي ما يجده المؤمنون من لذة الطاعة والإحسان، ومن لذة العبادة، ومن لذة الإقبال على الله تعالى ، هذه لذة لا يعدلها شيء، وكل من قام بالطاعة وترك المعصية وترك المحرم، فإن كانت الطاعة من أشق ما يكون، ولو كانت المعصية من ألذ ما يكون إذا فعل الطاعة وتحمل مشاقها وترك المعصية وصبر على بريقها فسيعقبه الله في قلبه من النعيم ما لا يدرك شأوه، ولا يوازن قدرة بقدر ما يدركه من الراحة بترك الطاعة، أو الملذة بفعل المعصية. لهذا يقول الله تعالى في كتابه ﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم﴾+++ سورة النور:30.---، إطلاق البصر في الملذات هو مما تميل إليه النفوس، وبعض الناس إذا فات عليه المنظر وشعر أنه فات منه شيء من هذه الملاذ المحرمة شعر أنه فقد شيئا. لذلك تجده يبحث عن تعويض هذا الذي فقده. في حين أنه إذا رأى ما يحرم عليه فصرف بصره، أو تسهل له النظر إلى ما يحرم عليه فغض بصره، أدرك من اللذة في قلبه أضعاف ما يدركه من اللذة بنظره إلى ما حرم الله. لذلك يقول الله تعالى:﴿ ذلك أزكى لهم﴾، انظر النتيجة من غض البصر. يقول الله تعالى ﴿ ذلك﴾ أي غض البصر ، وحفظ الفرج ﴿أزكى لهم﴾، أزكى لقلوبهم وأطهر لها.  وليس الطهارة هنا المقصود بها أنها تستقيم على الطاعة فقط، بل ألذ وأسر وأنعم وأبهج وأطيب وأصلح لقلبه من أن يدرك ما يشتهيه من المحرمات، لأن هذه المحرمات سهام تصيب قلبه. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:«تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء»+++ أخرجه مسلم (144).---. الثوب الأبيض تنكت فيه نكتة سوداء أكيد أنها ستؤثر عليه، ثم ثانية، ثم ثالثة، حتى يسود كما قال النبي  صلى الله عليه وسلم «حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا»، أبيض في اللون، والصفا في القوة، «والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا». ثم قال رحمه الله:"وقال الحسن: «المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن»"، وهذا حال الغريب "لا يجزع من ذلها"، لأنه عما قريب مرتحل، "ولا ينافس في عزها"، لأن عزها مهما ارتفع وعلا فهو إلى زوال، بخلاف عز الآخرة وذلها، فإنه عز لا ينقطع، وذل لا يرتفع، نسأل الله أن يعزنا وإياكم بطاعته. قال رحمه الله:"وفي الحقيقة فالمؤمن في الدنيا غريب لأن أباه لما كان في دار البقاء ثم خرج منها فهمه الرجوع إلى مسكنه الأول، فهو أبدا يحن إلى وطنه الذي أخرج منه، كما يقال: حب الوطن من الإيمان، وكما قيل: كم منزل في الأرض يألفه الف   ***     تى وحنينه أبدا لأول منزل   ولبعض شيوخنا في هذا المعنى: فحي على جنات عدن فإنها     *** منازلك الأولى وفيها المخيم   ولكننا سبي العدو فهل ترى  *** نعود إلى أوطاننا ونسلم   وقد زعموا أن الغريب إذا نأى *** وشطت به أوطانه فهو مغرم   فأي اغتراب فوق غربتنا التي ***لها أضحت الأعداء فينا تحكم+++ انظر "طريق الهجرتين"لابن القيم ص(92).---   هذا المقطع بين وجه أن الشعور بالغربة هو شعور فطري، وذلك أن الإنسان في هذه الأرض طارئ وليس أصليا، فوجوده في هذه الأرض طارئ. فالله تعالى خلق آدم وأسكنه جنته، وعلى خلاف في أقوال العلماء في الجنة التي سكنها آدم هل هي جنة الخلد أو جنة أخرى خلقها الله تعالى الله أعلم بها.  على قولين، وغالب العلماء على أنها جنة الخلد، وأن دخوله كان دخول امتحان واختبار، إذ أن الله تعالى منعه من أكل الشجرة، فخرج منها لما خالف أمر الله تعالى وأطاع عدوه، فمجيئه إلى هذه الدنيا هو مجيء ابتلاء، ثم هو صائر إما إلى داره الأولى ، وإما إلى عذاب وجحيم، نسأل الله السلامة والعافية. وهذا في الآخرة فإن الناس ينقسمون إلى هذين القسمين: ﴿فريق في الجنة وفريق في السعير﴾+++ سورة الشورى: 7.---. يقول المؤلف رحمه الله:"وفي الحقيقة فالمؤمن في الدنيا غريب"، هذا بيان تأصل الغربة في وصف الإنسان، أنه شيء متأصل في وصف الإنسان، وأنه يخرج عنه بأنواع من الانحرافات. قال:"لأن أباه لما كان في دار البقاء"، وهي الجنة التي أدخلها "ثم خرج منها فهمه الرجوع إلى مسكنه الأول، فهو أبدا يحن إلى وطنه الذي أخرج منه، كما يقال: حب الوطن من الإيمان"، وهذا ليس حديثا ولا يثبت، وإنما حكاه على وجه الاشتهار في كلام الناس، "حب الوطن من الإيمان". " وكما قيل: كم منزل في الأرض يألفه الفتى"، يألفه أي يعتاد عليه، ويتمرس في الإقامة فيه. "وحنينه أبدا لأول منزل"، أي يجد في قلبه اشتياقا وميلا إلى أن يعود إلى منزله الأول. "ولبعض شيوخنا في هذا المعنى"، هو ابن القيم رحمه الله، هذه الأبيات في "ميمية ابن القيم" وهي مشهورة. فحي على جنات عدن فإنها *** منازلك الأولى وفيها المخيم      أي الإقامة. " ولكننا سبي العدو"، وهو الشيطان نعوذ بالله منه. " فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم"،  الناس في هذه الدنيا سبي للعدو ، إما أن ينعتقوا منه وينفكوا من شره ويسلموا من ضرره فيعودون إلى أوطانهم، وإما أن يستحوذ عليهم فيكبهم على وجوههم في النار نسأل الله السلامة والعافية. ولكننا سبي العدو -وهو الشيطان- فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا ونسلم   وقد زعموا أن الغريب إذا نأى *** وشطت به أوطانه فهو مغرم   من الغرام، وهو الاشتياق ، وشدة الوجد. فأي اغتراب فوق غربتنا التي  *** لها أضحت الأعداء فينا تحكم   يقول رحمه الله بعد هذا :"والمؤمنون في هذا القسم أقسام: منهم من قلبه معلق بالجنة، ومنهم من قلبه معلق عند خالقه وهم العارفون. ولعل أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه إنما أشار إلى هذا القسم؛ فالعارفون أبدانهم في الدنيا وقلوبهم عند المولى. وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه: «علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي معلقا، فإذا كان كذلك لم ينسني على كل حال، وإذا كان كذلك مننت عليه بالاشتغال بي كيلا ينساني، فإذا لم ينسني حركت قلبه، فإذا تكلم تكلم بي، وإذا سكت سكت بي، فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي»". يقول رحمه الله :" والمؤمنون في هذا القسم أقسام"، يعني المؤمنون ليسوا على حال واحدة في نظرهم وتعلق قلوبهم بالآخرة، وتعلق قلوبهم بالنظر الأعلى، والنظر الأعلى قلنا إما إلى الجنة وما أعده الله لأوليائه أو إلى الله جل في علاه. يقول :" والمؤمنون في هذا القسم أقسام: منهم من قلبه معلق بالجنة"، وهي ما أعده الله تعالى لأوليائه وحزبه. "ومنهم من قلبه معلق عند خالقه وهم العارفون"، فهذا قلبه معلق بالنظر إلى الله يرقب ذاك النعيم ويأمل ذاك اللقاء. قال:"ولعل أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه إنما أشار إلى هذا القسم"، يعني الذين تعلقت قلوبهم بالله تعالى. "فالعارفون أبدانهم في الدنيا وقلوبهم عند المولى"، قلوبهم عند المولى اهتماما ونظرا وارتقابا وفكرا وأملا، وما إلى ذلك. يقول :"وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه"، وهذا من أضعف المراسيل، مراسيل الحسن من أوهى المراسيل مراسيل الحسن رحمه الله. "علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي معلقا، فإذا كان كذلك لم ينسني على كل حال"، يعني لا ينسى ما أمره الله تعالى به، ولا ينسى ذكره على كل حال. "وإذا كان كذلك مننت عليه بالاشتغال بي كيلا ينساني"، فيشغل بدنه بطاعة ربه . "فإذا لم ينسني حركت قلبه، فإذا تكلم تكلم بي، وإذا سكت سكت بي، فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي". وهم الذين بلغو الغاية في الولاية، هذا وصف للذين بلغوا الغاية في الولاية، كما جاء في "صحيح البخاري" من حديث شريك بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« إن الله قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه -وهذه منزلة الواجبات-  وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه ...»+++ "صحيح البخاري"(6502).--- وهذا يدل على ولاية الله تعالى لأوليائه ، ومصداق ما ذكر هنا. "فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي"، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل المعونة.

المشاهدات:4116

قال المؤلف رحمه الله :" وإنما أَنِسَ هؤلاء بما استوحش منه الجاهلون؛ لأن الجاهلين بالله يستوحشون من ترك الدنيا وشهواتها؛ لأنهم لا يعرفون سواها فهي أُنسهم، وهؤلاء يستوحشون من ذلك ويستأنسون بالله وبذكره، ومعرفته، ومحبته، وتلاوة كتابه.. والجاهلون بالله يستوحشون من ذلك ولا يجدون الأنس به.

ومن صفاتهم التي وصفهم بها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنهم صحبوا الدنيا بأبدان، أرواحها معلقة بالنظر الأعلى، وهذا إشارة إلى أنهم لم يتخذوها وطنًا، ولا رضوا بها إقامة ولا مسكنًا، إنما اتخذوها ممرًا ولم يجعلوها مقرًا. 
وجميع الكتب والرسل أوصت بهذا، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه في وعظه لهم: ﴿يقَوْم إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ [غافر: 39].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم  لابن عمر: «كُنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، فكأنك بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل» أخرج البخاري شطره الأول رقم (6416).... وفي رواية: «وعدَّ نفسك من أهل القبور».
ومن وصايا المسيح المروية عنه عليه السلام، أنه قال لأصحابه: «اعبروها ولا تعمروها».
وعنه عليه السلام أنه قال: «من الذي يبني على موج البحر دارًا؟! تلك الدنيا فلا تتخذوها قرارًا»".
هذا صلة بيان ما ذكره الإمام علي رضي الله عنه في وصف حملة العلم وأقسام الناس، يقول :"وإنما أَنِسَ هؤلاء بما استوحش منه الجاهلون؛ لأن الجاهلين بالله يستوحشون من ترك الدنيا وشهواتها؛ لأنهم لا يعرفون سواها فهي أُنسهم"، هذه حال هؤلاء لا يعرفون إلا المتع والملذات ، يعرفون تنعيم الأبدان، وليس لهم من لذة القلوب وبهجتها، ليس لهم من تنعيم القلوب وطمأنينتها، ليس لهم من سكونها وسرورها نصيب.
ولذلك اشتغلوا بعمارة أبدانهم وتنعيم هذه الأبدان بما يستطيعونه من الملاذ .
فلذلك إذا قيل لهم انظروا إلى ما في القلوب من ملاذ، وما في الطاعة من طمأنينة وما فيها من سكون وأمان استوحشوا، لم يجدوا في الطاعات إلا أنها آصار، إلا أنها أثقال، إلا أنها حواجز وموانع.
 وشتَّان بين من يقبل على الطاعة وهو يعلم أنها غذاء لقلبه، يطيب بها القلب ويقر، ويسكن ويطمئن، وبين من يقدم عليها وهو يشعر بأنها حمل على ظهره يريد أن يزيحه عنه بأسرع ما يكون.
وهذا سر جمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين النوعين من الملاذ يقول:«حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا : النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ» أخرجه أحمد (3/128)، والنسائي(3939)، من حديث أنس، وصححه الألباني..
يعني النبي لم يهمل التمتع بالدنيا، ولم يجعل الدنيا منصَرفا عنها بالكلية، بل قال:«حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا : النِّسَاءُ ، وَالطِّيبُ»، وهذا أمر طبيعي تهواه النفوس وتميل إليه القلوب، لكن أين الملذة الحقيقية الدائمة الثابتة التي هي غاية القرار والسكون يقول :« وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ»، قرة العين هو سكونها، هو بهجتها، هو طمأنينتها، لا يوصف شيء بأنه قر عينه إلا إذا أدرك مطلوبه على الغاية والمنتهى .
فهؤلاء جمعوا بين الخيرين، بين خير الدنيا وخير الآخرة، وعرفوا منزلة ملاذ الدنيا وملاذ الآخرة ، بخلاف أولئك الذين أقبلوا على الدنيا فليس في قلوبهم من الآخرة نصيب، ولا من الطاعة لذة، ولا من الطمأنينة نصيب، هؤلاء أبعد ما يكونون عن السكون والقرار، ولهذا هم في أمر مريج، قلوبهم ملئ بمراجل الحريق الذي لا يسكنه ولا يطفئه إلا السكون واللجوء إلى الله جل وعلا.
يقول رحمه الله:" لأنهم لا يعرفون سواها فهي أُنسهم، وهؤلاء يستوحشون من ذلك"، يستوحشون من الدنيا وملاذها، "ويستأنسون بالله وبذكره، ومعرفته، ومحبته، وتلاوة كتابه"، هذه لذتهم، وهذه طمأنينتهم، لا يسكون إلا بذلك.
يقول :" والجاهلون بالله يستوحشون من ذلك ولا يجدون الأنس به"، وهذا صنف بعض الناس تقول له : اقرأ القرآن يطيب قلبك، يقول : قرأت ولم أجد.
لأنه قرأ بلسانه ولم يجعل لهذه القراءة تأثيرا على قلبه.
يقول رحمه الله :"ومن صفاتهم التي وصفهم بها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنهم صحبوا الدنيا بأبدان، أرواحها معلقة بالنظر الأعلى"، أي بالنظر إلى الجنة، والنظر إلى الله تعالى وما أعده لأوليائه.
فمحط أنظارهم ما أعده الله تعالى لعباده الصالحين، وأوليائه المتقين، ليس لهم نظر إلى الدنيا وملاذها.
ولذلك كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نظر من الدنيا إلى ما يعجبه قال:«لبيْك، إِن الْعَيْش عَيْش الْآخِرَة» أخرجه ابن خزيمة (4/260)، ح(2831)، والحاكم (1/465)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/45)، من حديث داود عن عكرمة عن ابن عباس ، قال الحاكم:" قد احتج البخاري بعكرمة واحتج مسلم بداود، وهذا الحديث صحيح ولم يخرجاه".، ليصرف النفس أن تميل أو تتعلق بهذه المظاهر والزخارف .
فهي مهما كانت بهيجة  فهي لا تعادل شيئاً مما يكون في الآخرة من النعيم والملاذ.
« لبيْك، إِن الْعَيْش عَيْش الْآخِرَة»، قلوبهم وأرواحهم معلقة بما عند الله تعالى مما أعده لأوليائه.
يقول :"وهذا إشارة إلى أنهم لم يتخذوها وطنًا "، ما جعلوها وطنا ومقرا ومسكنا.
" ولا رضوا بها إقامة ولا مسكنًا، إنما اتخذوها ممرًا ولم يجعلوها مقرًا".
" وجميع الكتب والرسل أوصت بهذا، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه في وعظه لهم: ﴿يقَوْم إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾".
وفي وصية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  لابن عمر :" كُنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، فكأنك بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل» ، وفي رواية: «وعدَّ نفسك من أهل القبور»".
ثم ذكر جملة من الوصايا.
ما معنى الغربة التي أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها في قوله:«كُنْ في الدنيا كأنك غريب»، أي حالك كحال الغريب الوافد على مكان لا يعهده ولا يسكن فيه ولا يقر، لأن المتاع الذي فيها ليس له فيه حظ.
الآن لو قام مزاد - أنتم يا إخواني الذين جئتم لهذه الدورة- لو سمعتم أن في حراج على قطع أراضي، يهمكم هذا؟ لا يهمكم هذا ولو بيع بتراب الفلوس، لماذا؟ لأنه ليس من شأنكم، وأنتم مرار، عما قريب تنصرفون، فأنتم غرباء، فلا يهمكم ما فيها من رخص وفرص شراء،وما إلى ذلك، لا يهمكم هذا، لماذا؟ لأنك إنسان غريب.
بخلاف هذا الذي وطَّن قلبه ووطن نفسه في مكان يهمه فيها الشاردة والواردة والقليل والكثير، لأنه من أهل الإقامة.
هكذا ينبغي أن يكون الإنسان في دنيا كالغريب ، لا يلتفت إلى غير غايته ومقصوده وهدفه وهو الوصول إلى قصده.
فلو مر الإنسان بهذه البلدة وهو في طريقه إلى المدينة أو إلى مكة ما تجده يتلفت يجلس هنا قليلاً، ويذهب يميناً ويشوف ماذا صار للأسواق، وما هي حال البيع والشراء، وما هي حال بيع العقار، ما يهمه.
إذا كان سيفعل هذا بكل منزل ينزله لن يصل .
لكنه يقضي حاجته على وجه سريع ويدرك مقصوده وغايته ولا ينقطع عن سيره، بل إذا وجد الناس قد أغلقوا لعارض ضاقه ذلك أنه سيحبه عن الوصول إلى هدفه.
هكذا ينبغي أن يكون الإنسان في مسيرة في الدنيا ، هذه الدنيا لم نأتها لنقيم فيها، إنما جئناها لنعمرها بالطاعة والإحسان، لنغتنم منها ما يسره الله تعالى من أنواع البر والطاعة وفعل الخير الذي نتزود به إلى اللقاء الأعظم ، لقاء رب العالمين،﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ سورة البقرة:197..
فلذلك ينبغي أن يكون هذا هو الهم ، وكل ما يكون من الأمور الأخرى إنما هي حواشي، إنما هي من فضول الاهتمام، وليس من صلب الهم، ومن صلب ما يعتني به الإنسان.
لذلك يقول:"فالمؤمن في الدنيا كالغريب المجتاز ببلدة غير مستوطن فيها يشتاق إلى بلده وهمه الرجوع إليها، والتزود بما يوصله في طريقه إلى وطنه، ولا ينافس أهل ذلك البلد المستوطنين فيه في عزهم، ولا يجزع مما أصابه عندهم من الذل"، لأنه ليس مقيماً وعما قريب مرتحل.
قال رحمه الله :" قال الفضيل بن عياض: «المؤمن في الدنيا مهموم حزين همه مَرَمَّةُ جهازه»"، مَرَمَّة إي إصلاح وترميم وإعداد جهازه الذي يتجهز به في مسيره، والجهاز  هنا ما يتجهز به إلى لقاء ربه.
" المؤمن في الدنيا مهموم حزين همه مَرَمة "، يعني غاية ما يهتم به هو التهيئة والإعداد لما يعينه في وصوله إلى غايته.
وقوله :" مهموم"، أي أنه يحمل هماً.
و"حزين"، المقصود بالحزن هنا أنه منصرف عن كل ما يشغله، وليس المقصود بالحزن هنا الكآبة، والكدر، فإن الكآبة والكدر ليست من صفات المؤمنين، بل الله تعالى شرح الصدور بالطاعة والإحسان،﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ سورة الزمر:22..
والآية الأخرى:﴿ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ سورة الأنعام:125..
فالقرآن والهداية هي من أعظم ملاذ القلوب وسعادتها.
والله تعالى يقول:﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ سورة الانفطار:13.، وهم في نعيم في الدنيا قبل الآخرة.
وقد قال جماعة من العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمة :" إن في الدنيا لجنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة" انظر "المستدرك على مجموع الفتاوى" (1/154)..
جنة الدنيا هي ما يجده المؤمنون من لذة الطاعة والإحسان، ومن لذة العبادة، ومن لذة الإقبال على الله تعالى ، هذه لذة لا يعدلها شيء، وكل من قام بالطاعة وترك المعصية وترك المحرم، فإن كانت الطاعة من أشق ما يكون، ولو كانت المعصية من ألذ ما يكون إذا فعل الطاعة وتحمل مشاقها وترك المعصية وصبر على بريقها فسيعقبه الله في قلبه من النعيم ما لا يدرك شأوه، ولا يوازن قدرة بقدر ما يدركه من الراحة بترك الطاعة، أو الملذة بفعل المعصية.
لهذا يقول الله تعالى في كتابه ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ سورة النور:30.، إطلاق البصر في الملذات هو مما تميل إليه النفوس، وبعض الناس إذا فات عليه المنظر وشعر أنه فات منه شيء من هذه الملاذ المحرمة شعر أنه فَقَد شيئاً.
لذلك تجده يبحث عن تعويض هذا الذي فقده.
في حين أنه إذا رأى ما يحرم عليه فصرف بصره، أو تسهل له النظر إلى ما يحرم عليه فغض بصره، أدرك من اللذة في قلبه أضعاف ما يدركه من اللذة بنظره إلى ما حرم الله.
لذلك يقول الله تعالى:﴿ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾، انظر النتيجة من غض البصر.
يقول الله تعالى ﴿ ذَلِكَ﴾ أي غض البصر ، وحفظ الفرج ﴿أَزْكَى لَهُمْ﴾، أزكى لقلوبهم وأطهر لها.
 وليس الطهارة هنا المقصود بها أنها تستقيم على الطاعة فقط، بل ألذ وأسر وأنعم وأبهج وأطيب وأصلح لقلبه من أن يدرك ما يشتهيه من المحرمات، لأن هذه المحرمات سهام تصيب قلبه.
ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ» أخرجه مسلم (144)..
الثوب الأبيض تنكت فيه نكتة سوداء أكيد أنها ستؤثر عليه، ثم ثانية، ثم ثالثة، حتى يسود كما قال النبي  صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا»، أبيض في اللون، والصفا في القوة، «وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا».
ثم قال رحمه الله:"وقال الحسن: «المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن»"، وهذا حال الغريب "لا يجزع من ذلها"، لأنه عما قريب مرتحل، "ولا ينافس في عزها"، لأن عزها مهما ارتفع وعلا فهو إلى زوال، بخلاف عز الآخرة وذلها، فإنه عز لا ينقطع، وذل لا يرتفع، نسأل الله أن يعزنا وإياكم بطاعته.
قال رحمه الله:"وفي الحقيقة فالمؤمن في الدنيا غريب لأن أباه لما كان في دار البقاء ثم خرج منها فهمُّه الرجوع إلى مسكنه الأول، فهو أبدًا يحن إلى وطنه الذي أُخرج منه، كما يقال: حب الوطن من الإيمان، وكما قيل:
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفـ   ***     ـتى وحنينه أبدًا لأوَّل مَنْزِلِ
 
ولبعض شيوخنا في هذا المعنى:
فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنها     *** منازلُكَ الأُولى وفيها المخيَّمُ
 
ولكنَّنا سَبْي العدوِّ فهل ترى  *** نعود إلى أوطاننا وَنسْلَمُ
 
وقد زعموا أن الغريبَ إذا نأى *** وشطت به أوطانه فهو مغرم
 
فأي اغتراب فوق غربتنا التي ***لها أضحت الأعداءُ فينا تَحْكُمُ انظر "طريق الهجرتين"لابن القيم ص(92).
 
هذا المقطع بيَّن وجه أن الشعور بالغربة هو شعور فطري، وذلك أن الإنسان في هذه الأرض طارئ وليس أصلياً، فوجوده في هذه الأرض طارئ.
فالله تعالى خلق آدم وأسكنه جنته، وعلى خلاف في أقوال العلماء في الجنة التي سكنها آدم هل هي جنة الخلد أو جنة أخرى خلقها الله تعالى الله أعلم بها.
 على قولين، وغالب العلماء على أنها جنة الخلد، وأن دخوله كان دخول امتحان واختبار، إذ أن الله تعالى منعه من أكل الشجرة، فخرج منها لما خالف أمر الله تعالى وأطاع عدوه، فمجيئه إلى هذه الدنيا هو مجيء ابتلاء، ثم هو صائر إما إلى داره الأولى ، وإما إلى عذاب وجحيم، نسأل الله السلامة والعافية.
وهذا في الآخرة فإن الناس ينقسمون إلى هذين القسمين: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ سورة الشورى: 7..
يقول المؤلف رحمه الله:"وفي الحقيقة فالمؤمن في الدنيا غريب"، هذا بيان تأصل الغربة في وصف الإنسان، أنه شيء متأصل في وصف الإنسان، وأنه يخرج عنه بأنواع من الانحرافات.
قال:"لأن أباه لما كان في دار البقاء"، وهي الجنة التي أدخلها "ثم خرج منها فهمُّه الرجوع إلى مسكنه الأول، فهو أبدًا يحن إلى وطنه الذي أُخرج منه، كما يقال: حب الوطن من الإيمان"، وهذا ليس حديثاً ولا يثبت، وإنما حكاه على وجه الاشتهار في كلام الناس، "حب الوطن من الإيمان".
" وكما قيل: كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى"، يألفه أي يعتاد عليه، ويتمرس في الإقامة فيه.
"وحنينه أبدًا لأوَّل مَنْزِلِ"، أي يجد في قلبه اشتياقاً وميلاً إلى أن يعود إلى منزله الأول.
"ولبعض شيوخنا في هذا المعنى"، هو ابن القيم رحمه الله، هذه الأبيات في "ميمية ابن القيم" وهي مشهورة.
فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنها *** منازلُكَ الأُولى وفيها المخيَّمُ
 
   أي الإقامة.
" ولكنَّنا سَبْي العدوِّ"، وهو الشيطان نعوذ بالله منه.
" فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا وَنسْلَمُ"، 
الناس في هذه الدنيا سبي للعدو ، إما أن ينعتقوا منه وينفكوا من شره ويسلموا من ضرره فيعودون إلى أوطانهم، وإما أن يستحوذ عليهم فيكبهم على وجوههم في النار نسأل الله السلامة والعافية.
ولكنَّنا سَبْي العدوِّ -وهو الشيطان- فهل ترى *** نعود إلى أوطاننا وَنسْلَمُ
 
وقد زعموا أن الغريبَ إذا نأى *** وشطت به أوطانه فهو مغرم
 
من الغرام، وهو الاشتياق ، وشدة الوجد.
فأي اغتراب فوق غربتنا التي  *** لها أضحت الأعداءُ فينا تَحْكُمُ
 
يقول رحمه الله بعد هذا :"والمؤمنون في هذا القسم أقسام: منهم من قلبه معلق بالجنة، ومنهم من قلبه معلق عند خالقه وهم العارفون. ولعل أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه إنما أشار إلى هذا القسم؛ فالعارفون أبدانهم في الدنيا وقلوبهم عند المولى.
وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه: «علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي معلقًا، فإذا كان كذلك لم ينسني على كل حال، وإذا كان كذلك مننت عليه بالاشتغال بي كيلا ينساني، فإذا لم ينسني حركت قلبه، فإذا تكلَّم تكلم بي، وإذا سكتَ سكت بي، فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي»".
يقول رحمه الله :" والمؤمنون في هذا القسم أقسام"، يعني المؤمنون ليسوا على حال واحدة في نظرهم وتعلق قلوبهم بالآخرة، وتعلق قلوبهم بالنظر الأعلى، والنظر الأعلى قلنا إما إلى الجنة وما أعده الله لأوليائه أو إلى الله جل في علاه.
يقول :" والمؤمنون في هذا القسم أقسام: منهم من قلبه معلق بالجنة"، وهي ما أعده الله تعالى لأوليائه وحزبه.
"ومنهم من قلبه معلق عند خالقه وهم العارفون"، فهذا قلبه معلق بالنظر إلى الله يرقب ذاك النعيم ويأمل ذاك اللقاء.
قال:"ولعل أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه إنما أشار إلى هذا القسم"، يعني الذين تعلقت قلوبهم بالله تعالى.
"فالعارفون أبدانهم في الدنيا وقلوبهم عند المولى"، قلوبهم عند المولى اهتماماً ونظراً وارتقاباً وفكراً وأملاً، وما إلى ذلك.
يقول :"وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه"، وهذا من أضعف المراسيل، مراسيل الحسن من أوهى المراسيل مراسيل الحسن رحمه الله.
"علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي معلقًا، فإذا كان كذلك لم ينسني على كل حال"، يعني لا ينسى ما أمره الله تعالى به، ولا ينسى ذكره على كل حال.
"وإذا كان كذلك مننت عليه بالاشتغال بي كيلا ينساني"، فيشغل بدنه بطاعة ربه .
"فإذا لم ينسني حركت قلبه، فإذا تكلَّم تكلم بي، وإذا سكتَ سكت بي، فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي".
وهم الذين بلغو الغاية في الولاية، هذا وصف للذين بلغوا الغاية في الولاية، كما جاء في "صحيح البخاري" من حديث شريك بن أبي نمر، عن عطاء، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:« إنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ -وهذه منزلة الواجبات-  وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ ...» "صحيح البخاري"(6502). وهذا يدل على ولاية الله تعالى لأوليائه ، ومصداق ما ذكر هنا.
"فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي"، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل المعونة.

الاكثر مشاهدة

3. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات89951 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات86962 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف