×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis
الدرس(7) أسباب حياة القلوب
00:00:01

بسم الله الرحمن الرحيم، قال المؤلف رحمه الله تعالى: ومنها إذا ما فاته الورد مرة *** تراه كئيبا نادما متألما ومنها اشتياق القلب في وقت خدمة ***إليها كمشتد به الجوع والظما ومنها ذهاب الهم وقت صلاته ***بدنياه مرتاحا بها متنعما ويشتد عنها بعده وخروجه ***وقد زال عنه الهم والغم فاستما فأكرم به قلبا سليما مقربا***إلى الله قد أضحى محبا متيما الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فما زال المؤلف رحمه الله يعدد ويذكر دلائل وعلامات وآيات القلب الصحيح؛ فذكر منها ارتحاله إلى الدار الآخرة، ومحبته لله تعالى، ودوام ذكره، ومصاحبته لمن يعينه في الخير، وبعد ذلك قال: ومنها إذا ما فاته الورد مرة ***تراه كئيبا نادما متألما "ومنها"أي: ومن علامات صحة القلب وسلامته "إذا ما فاته" الفوات هو عدم إدراك الشيء([1])، وقوله: "إذا ما فاته" الضمير يعود إلى القلب؛ أي: إذا فات القلب الورد، والورد: هو الحزب وزنا ومعنى، وهو في الأصل يطلق على النوبة في ورود الماء، ويطلق أيضا على نصيب الإنسان من القرآن أو الصلاة أو غيرها من الصالحات([2])، وهذا مراد المؤلف رحمه الله هنا في قوله: "ومنها إذا ما فاته الورد" أي: نصيبه من الطاعة والإحسان الذي قرره كقراءة أو صلاة أو غير ذلك، "إذا ما فاته الورد مرة *** تراه" أي: ترى صاحب هذا القلب "كئيبا نادما متألما" فذكر ثلاثة أوصاف "كئيبا" أي: سيئ الهيئة, فالكآبة هي سوء الهيئة والانكسار من الحزن, والكآبة غالبا لا تطلق إلا على ما يبدو على الوجه, فلا تقول: كئيبا إلا على وجهه, فالكآبة مظهر يعلو الوجه([3]). وقوله: "نادما" الندم أصله القلب، وهو تحسر وألم يصيب القلب على ما فات من الخير. وقوله: "متألما" أي: متوجعا من الألم وهو الوجع، وهذا يبين عظيم عنايته بورده، وأن ورده من المقام والمنزلة ما يتألم لفقده وفواته, ولا شك أن هذا من صحة القلب وسلامته؛ إذ القلب الصحيح يجد مشقة على فوات النصيب من الخير؛ لأن نصيبه من الخير وورده من الطاعة هو زاده الذي يتقوى به ويستعين به على قطع المفاوز والسير إلى الله تعالى, فإذا فاته نصيبه من ذلك تألم وعلته الكآبة ووجد حسرة وندما. ولا غرو ولا عجب في هذا؛ فإن الذكر والورد للقلب حياته؛ ولذلك جاء في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان منزلة الذكر وأثره على القلب قال: "الذكر للقلب مثل الماء للسمك"([4])، وكذلك الورد للقلوب نداها وطيبها وبهجتها وسرورها، فإذا فقدته فقدت حياتها. يقول المؤلف رحمه الله في علامات صحة القلب: ومنها اشتياق القلب في وقت خدمة***إليها كمشتد به الجوع والظما "ومنها" أي: من علامات صحة القلوب وحياتها "اشتياق القلب" الاشتياق مأخوذ من الشوق ومقصوده"باشتياق القلب" أي: شوقه وهو حركته وسعيه في إدراك محبوبه، فالشوق هو الحركة والسفر في إدراك المحبوب([5])، فقوله:"ومنها اشتياق القلب في وقت خدمة" أي: في وقت اشتغاله بما يحتاجه من أمر الدنيا مما لا غنى له عنه, فهو في شغل فيما يشتغل به من أمور الدنيا غير منقطع عن ذكر الله تعالى, بل هو في لهفة وشوق شديد لذلك, وصف ذلك الناظم رحمه الله تعالى بقوله:"إليها" أي: إلى الورد والذكر وما يحيي قلبه، "كمشتد به الجوع والظما" أي: كالذي اشتد به الجوع والظما، نظر هذا المعنى العقلي بأمر حسي, فكلنا يدرك حرارة الجوع عندما يجوع وشدة الظمأ عندما يظمأ, ينبغي أن يكون شوق القلب للورد والذكر أشد من شوق البطن والنفس للأكل والشرب عند شدة الجوع وشدة الظمأ؛ لأن الذكر والورد حياة القلب وطيبه، كما أن الأكل والشرب حياة الأبدان وطيبها, وهذا التنظير ليس ببعيد أي: ليس غريبا؛ فإن القلوب تغتذي بطاعة الله تعالى، وتغتذي بذكره؛ ولذلك قال غير ما واحد من السلف: "الذكر حياة القلوب"([6]), والذكر هنا يشمل ذكر اللسان وذكر القلب وذكر الجوارح بالطاعات، تحيا به القلوب, بل قد تستغني به عن الطعام والشراب إذا قوي حضورها واغتذاؤها من غذاء القلب، ومنه ما جاء في الصحيحين من وصال النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يواصل اليوم واليومين فيقال له في ذلك فيقول: «إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني»([7]). وفي بعض الروايات([8]): «إني أطعم وأسقى» ويقينا لم يرد صلى الله عليه وسلم أنه يأكل ويشرب, إنما المقصود كما ذكر ذلك أهل العلم من شراح الحديث أنه يحصل له بتمام عبوديته لله وامتلاء قلبه بمحبة الله تعالى حال يستغني بها عن الطعام والشراب([9]), وهذه حال مشاهدة معروفة؛ ولذلك يقول الشاعر: لها أحاديث من ذكراك تشغلها *** عن الطعام وتلهيها عن الزاد([10]) فالمحب إذا اشتغل بمحبوبه اشتغل عن حاجة بدنه من طعام وشراب، وهذا معلوم مشاهد، ويصدقه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني أطعم وأسقى»([11]). قال الناظم رحمه الله: "ومنها" أي: ومن علامات صحة القلوب وسلامتها "ذهاب الهم وقت صلاته" ذهاب الهم أي: زواله, والهم هو: ما يعتري القلب من الفكر في إزاله مكروه أو اجتلاب – أي تحصيل – محبوب([12]), هذا هو الهم, فإذا صح قلب العبد ذهب همه بصلاته، وجعلت صلاته قرة عينه؛ كما جاء ذلك في المسند عند أحمد والنسائي بإسناد صحيح: «حبب إلي من دنياكم النساء، والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة»([13]) أي: سكونها، سرورها، بهجتها «في الصلاة» أي: في هذه العبادة الجليلة، وهي الصلة بالله تعالى ومناجاته, وهذا من دلائل صحة الإيمان وكمال الإحسان وصلاح القلب واستقامته؛ ولذلك يقول:"ومنها ذهاب الهم وقت صلاته"، وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أرحنا بها يا بلال» كما في سنن أبي داود وغيره بإسناد لا بأس به([14])، فجعل الصلاة راحة, وفي مسند الإمام أحمد من حديث حذيفة أنه «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى»([15]) صلى الله عليه وسلم؛ فالصلاة طمأنينة للقلوب الصحيحة؛ ولذلك يقول:"ومنها ذهاب الهم وقت صلاته ***بدنياه" أي: ينقشع عن قلبه هم الدنيا"مرتاحا بها" أي: واجدا الراحة بسببها "بها" أي: بالصلاة"متنعما" أي: مدركا النعيم، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:«وجعلت قرة عيني في الصلاة»([16]), كما في الحديث الذي عند النسائي، وقرة العين هو نعيمها وسرورها وبهجتها كما تقدم، وهذا لا يكون إلا لمن أقبل عليها وكمل ما فيها من الحقوق والواجبات, والصلاة قرة عين للذين يقيمونها؛ فبقدر إقامة الإنسان لهذه الصلاة في شروطها وواجباتها وحضور قلب صاحبها يكون متنعما، ويجد فيها لذة وبهجة، حتى إنه يطيل صلاته ويود ألا ينفتل منها. يقول رحمه الله: "ويشتد عنها" الضمير يعود إلى الدنيا أي: يشتد عن الدنيا "بعده وخروجه" أي: انخلاعه منها وقت صلاته, "وقد زال عنه الهم والغم فاستما" أي: فعلا وارتفع([17]), وهذا يبين حال هذا المصلي الذي كانت الصلاة قرة عينه، وكانت الصلاة بهجة نفسه، وكانت الصلاة نعيم قلبه ف"يشتد عنها" أي: يذهب منها بسرعة وينفك عنها بأسرع ما يتمكن "ويشتد عنها بعده وخروجه وقد زال" أي: انكشف وارتحل عنه الهم والغم, الهم والغم هما أمران يصيبان القلوب, فالهم تقدم قبل قليل أنه ما يعتري القلب من الفكر في إزالة مكروه أو جلب محبوب, وأما الغم فهو نتاج الهم؛ إذ هو انقباض في القلب لوقوع ضرر أو توقعه, إذا الهم مقدمة والغم نتيجة, وهذا مما ذكره أصحاب الفروق، وذكر أيضا أن الهم يقال لما يعتري القلب من المخوفات قبل نزول الشيء, والغم ما يعتري القلب بعد نزول المكروه, فما يجده الإنسان في قلبه قبل نزول المكروه يسمى هما,  وأما بعد نزوله يسمى غما, وقيل في الفرق بين الهم والغم: إن الهم ما يقدر الإنسان على كشفه والتخلص منه, أما الغم فهو ما لا يقدر على إزالته, هذا جملة ما قيل من الفروق بين الهم والغم([18]). والمهم أن من جعلت قرة عينه في الصلاة فصح قلبه؛ انقشع عن قلبه كل مكدر سواء كان هذا خوفا مما يستقبل أو تألما مما حصل وكان مما وقع من الأضرار. يقول رحمه الله تعالى:"فأكرم به" أي: أكرم بهذا القلب الذي اتصف بهذه الصفات وتحلى بهذه الخلال، واتسم بهذه الخصال المباركة،"فأكرم به قلبا سليما مقربا" أي: أنه قد حاز القلب السليم، وبه تكتمل أسباب الصحة في القلب؛ أي: بما مضى تكتمل أسباب الصحة في القلب. وسلامة القلب هي أعلى المقامات، وصف بها الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام حيث قال: {إذ جاء ربه بقلب سليم}([19])، وأناط الله تعالى نجاح الآخرة وفوزها بسلامة القلب فقال: {يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم}([20]) والقلب السليم هو: - السالم من الشرك، هو السالم من البدعة، هو السالم من المعصية، وهذا تعريف من التعريفات. - القلب السليم هو السالم من الشبهات، هو السالم من الشهوات، هذا تعريف آخر. - القلب السليم هو الذي سلم قياده لرب العالمين، فخلص من كل آفة وتحلى بكل فضيلة. كل هذا مما ذكره أهل العلم في بيان حقيقة القلب السليم([21])، وأخصر ما يكون في تعريف القلب السليم هو التعريف الأول وهو: ما سلم من الشرك، ما سلم من البدعة، ما سلم من المعاصي. هذا هو القلب السليم؛ أن يسلم من هذه الآفات التي توبقه وتفسده, "فأكرم به قلبا سليما مقربا" هذا بيان للأجر والثواب أن القلب إذا تحلى بهذه الخصال فإنه سيكون قريبا من الله تعالى, والقلوب تقرب من الله وتبعد على حسب ما يقوم فيها من الإيمان، وقد جاء عن بعض السلف: أنه إذا مات المؤمن كان جسده تحت الثرى وقلبه عند رب العالمين([22]).  ومقصوده بقلبه أي: روحه، وهذا يدل على أن القلوب تقرب وتبعد على حسب ما يكون فيها من المحبة والتعظيم والخوف والرجاء والمعاني التي يصلح بها القلب ويستقيم, "فأكرم به قلبا سليما" أي: هذه الصفات والخلال علامات لسلامة القلب، وهي أسباب لقربه؛ فذكر الوصف وذكر الحكم؛ أي: الحكم الجزائي؛ وهو أنه قلب مقرب من الله تعالى؛ ولذلك يقول: "فأكرم به قلبا سليما مقربا إلى الله" فالتقريب هنا إلى رب العالمين, ومن قرب من الله فقد قرب منه كل خير، يقول:"قد أضحى" أي: أصبح وصار، "محبا متيما" أي: هذه علامات القلب المحب الذي يأنس بالطاعة، ويمتلئ بالذكر، ويرتحل عن الدنيا، ويصحب أهل الخير، ويتألم لفوات الصالحات، ويتنعم بالصلاة، ويجعلها قرة عينه؛ هذا هو القلب السليم الذي صدق في محبته لله واكتملت فيه خلال الصحة والسلامة: فأكرم به قلبا سليما مقربا *** إلى الله قد أضحى محبا متيما التتيم هو أعلى درجات الحب، أو هو من أعلى درجات الحب، ومنه تيم الله أي: محب الله؛ فهي مرتبة من مراتب الحب قيل: إنه أعلاها([23])، لكن هو أمر نسبي، والصحيح أن أعلى مراتب الحب هو الخلة([24]): {واتخذ الله إبراهيم خليلا}([25])، لكن هو من المراتب العالية الرفيعة في المحبة. ثم قال:"ومنها اجتماع الهم"هذا نجعله في الدرس القادم إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

المشاهدات:3826

بسم الله الرحمن الرحيم، قال المؤلف رحمه الله تعالى:

ومنها إذا ما فاتَه الوِرْدُ مرةً *** تَرَاهُ كئيبًا نادمًا متألما
ومنها اشتياقُ القلب في وقتِ خدمةٍ ***إليها كمُشْتدٍّ به الجوعُ والظَّما
ومنها ذهابُ الهَمِّ وقت صلاتهِ ***بدنياه مرتاحًا بها مُتَنَعِّمَا
ويَشْتَّد عنها بُعدُه وخروجُه ***وقد زالَ عنه الهمُّ والغمُّ فاستما
فأكْرِم به قلبًا سليمًا مقرّبا***إلى اللهِ قد أضْحى محُبِّا متيَّما
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فما زال المؤلف رحمه الله يعدِّد ويذكر دلائل وعلامات وآيات القلب الصحيح؛ فذكر منها ارتحاله إلى الدار الآخرة، ومحبته لله تعالى، ودوام ذكره، ومصاحبته لمن يعينه في الخير، وبعد ذلك قال:

ومنها إذا ما فاتَه الوِرْدُ مرةً ***تَرَاهُ كئيبًا نادمًا متألما
"ومنها"
أي: ومن علامات صحة القلب وسلامته "إذا ما فاته" الفوات هو عدم إدراك الشيء([1])، وقوله: "إذا ما فاتَه" الضمير يعود إلى القلب؛ أي: إذا فات القلب الوِرد، والوِرد: هو الحزب وزنًا ومعنًى، وهو في الأصل يطلق على النوبة في ورود الماء، ويطلق أيضًا على نصيب الإنسان من القرآن أو الصلاة أو غيرها من الصالحات([2])، وهذا مراد المؤلف رحمه الله هنا في قوله: "ومنها إذا ما فاتَه الوِرْدُ" أي: نصيبه من الطاعة والإحسان الذي قرره كقراءة أو صلاة أو غير ذلك، "إذا ما فاتَه الوِرْدُ مرة *** تَرَاهُ" أي: ترى صاحب هذا القلب "كئيبًا نادمًا متألما" فذكر ثلاثة أوصاف "كئيبًا" أي: سيئ الهيئة, فالكآبة هي سوء الهيئة والانكسار من الحزن, والكآبة غالبًا لا تطلق إلا على ما يبدو على الوجه, فلا تقول: كئيبًا إلا على وجهه, فالكآبة مظهر يعلو الوجه([3]).

وقوله: "نادمًا" الندم أصله القلب، وهو تحسر وألم يصيب القلب على ما فات من الخير.

وقوله: "متألمًا" أي: متوجعًا من الألم وهو الوجع، وهذا يبين عظيم عنايته بورده، وأن ورده من المقام والمنزلة ما يتألم لفقده وفواته, ولا شك أن هذا من صحة القلب وسلامته؛ إذ القلب الصحيح يجد مشقة على فوات النصيب من الخير؛ لأن نصيبه من الخير وورده من الطاعة هو زاده الذي يتقوى به ويستعين به على قطع المفاوز والسير إلى الله تعالى, فإذا فاته نصيبه من ذلك تألم وعلته الكآبة ووجد حسرةً وندمًا. ولا غرو ولا عجب في هذا؛ فإن الذكر والورد للقلب حياته؛ ولذلك جاء في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان منزلة الذكر وأثره على القلب قال: "الذكر للقلب مثل الماء للسمك"([4])، وكذلك الورد للقلوب نداها وطيبها وبهجتها وسرورها، فإذا فقدته فقدت حياتها.

يقول المؤلف رحمه الله في علامات صحة القلب:

ومنها اشتياقُ القلب في وقتِ خدمةٍ***إليها كمُشْتدٍّ به الجوعُ والظَّما
"ومنها" أي: من علامات صحة القلوب وحياتها "اشتياقُ القلب" الاشتياق مأخوذ من الشوق ومقصوده"باشتياق القلب" أي: شوقه وهو حركته وسعيه في إدراك محبوبه، فالشوق هو الحركة والسفر في إدراك المحبوب([5])، فقوله:"ومنها اشتياقُ القلب في وقتِ خدمةٍ" أي: في وقت اشتغاله بما يحتاجه من أمر الدنيا مما لا غنى له عنه, فهو في شغل فيما يشتغل به من أمور الدنيا غير منقطع عن ذكر الله تعالى, بل هو في لهفة وشوق شديد لذلك, وصف ذلك الناظم رحمه الله تعالى بقوله:"إليها" أي: إلى الورد والذكر وما يحيي قلبه، "كمُشْتَّدٍ به الجوعُ والظَّما" أي: كالذي اشتد به الجوع والظما، نظَّر هذا المعنى العقلي بأمر حسي, فكلنا يدرك حرارة الجوع عندما يجوع وشدة الظمأ عندما يظمأ, ينبغي أن يكون شوق القلب للورد والذكر أشد من شوق البطن والنفس للأكل والشرب عند شدة الجوع وشدة الظمأ؛ لأن الذكر والورد حياة القلب وطيبه، كما أن الأكل والشرب حياة الأبدان وطيبها, وهذا التنظير ليس ببعيد أي: ليس غريبًا؛ فإن القلوب تغتذي بطاعة الله تعالى، وتغتذي بذكره؛ ولذلك قال غير ما واحد من السلف: "الذكر حياة القلوب"([6]), والذكر هنا يشمل ذكر اللسان وذكر القلب وذكر الجوارح بالطاعات، تحيا به القلوب, بل قد تستغني به عن الطعام والشراب إذا قوي حضورها واغتذاؤها من غذاء القلب، ومنه ما جاء في الصحيحين من وصال النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان يواصل اليوم واليومين فيقال له في ذلك فيقول: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي»([7]). وفي بعض الروايات([8]): «إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى» ويقينًا لم يُرد صلى الله عليه وسلم أنه يأكل ويشرب, إنما المقصود كما ذكر ذلك أهل العلم من شراح الحديث أنه يحصل له بتمام عبوديته لله وامتلاء قلبه بمحبة الله تعالى حالٌ يستغني بها عن الطعام والشراب([9]), وهذه حال مشاهدة معروفة؛ ولذلك يقول الشاعر:

لها أحاديث من ذكراك تشغلها *** عن الطعام وتلهيها عن الزاد([10])
فالمحب إذا اشتغل بمحبوبه اشتغل عن حاجة بدنه من طعام وشراب، وهذا معلوم مشاهد، ويصدِّقه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى»([11]).

قال الناظم رحمه الله:

"ومنها" أي: ومن علامات صحة القلوب وسلامتها "ذهابُ الهَمِّ وقت صلاتهِ" ذهاب الهم أي: زواله, والهمُّ هو: ما يعتري القلب من الفكر في إزاله مكروه أو اجتلاب – أي تحصيل – محبوب([12]), هذا هو الهم, فإذا صح قلب العبد ذهب همه بصلاته، وجعلت صلاته قرة عينه؛ كما جاء ذلك في المسند عند أحمد والنسائي بإسناد صحيح: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»([13]) أي: سكونها، سرورها، بهجتها «فِي الصَّلَاةِ» أي: في هذه العبادة الجليلة، وهي الصلة بالله تعالى ومناجاته, وهذا من دلائل صحة الإيمان وكمال الإحسان وصلاح القلب واستقامته؛ ولذلك يقول:"ومنها ذهابُ الهَمِّ وقت صلاتهِ"، وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ» كما في سنن أبي داود وغيره بإسناد لا بأس به([14])، فجَعَلَ الصلاة راحةً, وفي مسند الإمام أحمد من حديث حذيفة أنه «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى»([15]) صلى الله عليه وسلم؛ فالصلاة طمأنينة للقلوب الصحيحة؛ ولذلك يقول:"ومنها ذهابُ الهَمِّ وقت صلاتهِ ***بدنياه" أي: ينقشع عن قلبه همُّ الدنيا"مرتاحًا بها" أي: واجدًا الراحة بسببها "بها" أي: بالصلاة"مُتَنَعِّمَا" أي: مدركًا النعيم، وهذا هو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:«وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»([16]), كما في الحديث الذي عند النسائي، وقرة العين هو نعيمها وسرورها وبهجتها كما تقدم، وهذا لا يكون إلا لمن أقبل عليها وكمَّل ما فيها من الحقوق والواجبات, والصلاة قرة عين للذين يقيمونها؛ فبقدر إقامة الإنسان لهذه الصلاة في شروطها وواجباتها وحضور قلب صاحبها يكون متنعِّمًا، ويجد فيها لذةً وبهجةً، حتى إنه يطيل صلاته ويود ألا ينفتل منها.

يقول رحمه الله: "ويَشْتَّد عنها" الضمير يعود إلى الدنيا أي: يشتد عن الدنيا "بعده وخروجه" أي: انخلاعه منها وقت صلاته, "وقد زالَ عنه الهم والغم فاستما" أي: فعَلَا وارتفع([17]), وهذا يُبيِّن حال هذا المصلي الذي كانت الصلاة قرةَ عينه، وكانت الصلاة بهجةَ نفسه، وكانت الصلاة نعيم قلبه فـ"يَشْتَّد عنها" أي: يذهب منها بسرعة وينفك عنها بأسرع ما يتمكن "ويَشْتَّد عنها بُعدَه وخروجه وقد زالَ" أي: انكشف وارتحل عنه الهم والغم, الهم والغم هما أمران يصيبان القلوب, فالهمُّ تقدم قبل قليل أنه ما يعتري القلب من الفكر في إزالة مكروه أو جلب محبوب, وأما الغم فهو نتاج الهم؛ إذْ هو انقباض في القلب لوقوع ضرر أو توقعه, إذًا الهم مقدمة والغم نتيجة, وهذا مما ذكره أصحاب الفروق، وذُكِر أيضًا أن الهم يقال لما يعتري القلب من المخوفات قبل نزول الشيء, والغم ما يعتري القلب بعد نزول المكروه, فما يجده الإنسان في قلبه قبل نزول المكروه يسمى همًّا,  وأما بعد نزوله يسمى غمًّا, وقيل في الفرق بين الهم والغم: إن الهم ما يقدر الإنسان على كشفه والتخلص منه, أما الغم فهو ما لا يقدر على إزالته, هذا جملة ما قيل من الفروق بين الهم والغم([18]).

والمهم أن من جعلت قرة عينه في الصلاة فصح قلبه؛ انقشع عن قلبه كل مكدِّر سواء كان هذا خوفًا مما يستقبل أو تألمًا مما حصل وكان مما وقع من الأضرار.

يقول رحمه الله تعالى:"فأكْرِم به" أي: أكرم بهذا القلب الذي اتصف بهذه الصفات وتحلى بهذه الخلال، واتسم بهذه الخصال المباركة،"فأكْرِم به قلبًا سليمًا مقرَّبا" أي: أنه قد حاز القلب السليم، وبه تكتمل أسباب الصحة في القلب؛ أي: بما مضى تكتمل أسباب الصحة في القلب. وسلامة القلب هي أعلى المقامات، وصف بها الله تعالى خليله إبراهيم عليه السلام حيث قال: {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}([19])، وأناط الله تعالى نجاح الآخرة وفوزها بسلامة القلب فقال: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}([20]) والقلب السليم هو:

- السالم من الشرك، هو السالم من البدعة، هو السالم من المعصية، وهذا تعريف من التعريفات.

- القلب السليم هو السالم من الشبهات، هو السالم من الشهوات، هذا تعريف آخر.

- القلب السليم هو الذي سلم قياده لرب العالمين، فخلص من كل آفة وتحلى بكل فضيلة.

كل هذا مما ذكره أهل العلم في بيان حقيقة القلب السليم([21])، وأخصر ما يكون في تعريف القلب السليم هو التعريف الأول وهو: ما سلم من الشرك، ما سلم من البدعة، ما سلم من المعاصي.

هذا هو القلب السليم؛ أن يسلم من هذه الآفات التي توبقه وتفسده, "فأكْرِم به قلبًا سليمًا مقرَّبا" هذا بيان للأجر والثواب أن القلب إذا تحلى بهذه الخصال فإنه سيكون قريبًا من الله تعالى, والقلوب تَقْرُب من الله وتبعد على حسب ما يقوم فيها من الإيمان، وقد جاء عن بعض السلف: أنه إذا مات المؤمن كان جسده تحت الثرى وقلبه عند رب العالمين([22]).  ومقصوده بقلبه أي: روحه، وهذا يدل على أن القلوب تقرب وتبعد على حسب ما يكون فيها من المحبة والتعظيم والخوف والرجاء والمعاني التي يصلح بها القلب ويستقيم, "فأكْرِم به قلبًا سليمًا" أي: هذه الصفات والخلال علامات لسلامة القلب، وهي أسباب لقربه؛ فذكر الوصف وذكر الحكم؛ أي: الحكم الجزائي؛ وهو أنه قلب مقرَّب من الله تعالى؛ ولذلك يقول: "فأكْرِم به قلبًا سليمًا مقرَّبا إلى اللهِ" فالتقريب هنا إلى رب العالمين, ومن قَرُب من الله فقد قَرُب منه كل خير، يقول:"قد أضْحى" أي: أصبح وصار، "مُحِبًّا متيَّما" أي: هذه علامات القلب المحب الذي يأنس بالطاعة، ويمتلئ بالذكر، ويرتحل عن الدنيا، ويصحب أهل الخير، ويتألم لفوات الصالحات، ويتنعم بالصلاة، ويجعلها قرة عينه؛ هذا هو القلب السليم الذي صَدَق في محبته لله واكتملت فيه خلال الصحة والسلامة:

فأكْرِم به قلبًا سليمًا مقرّبا *** إلى اللهِ قد أضْحى محُبًّا متيَّما
التتيم هو أعلى درجات الحب، أو هو من أعلى درجات الحب، ومنه تَيْم الله أي: محب الله؛ فهي مرتبة من مراتب الحب قيل: إنه أعلاها([23])، لكن هو أمر نسبي، والصحيح أن أعلى مراتب الحب هو الخلة([24]): {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}([25])، لكن هو من المراتب العالية الرفيعة في المحبة.

ثم قال:"ومنها اجتماع الهم"هذا نجعله في الدرس القادم إن شاء الله تعالى، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : فابتغوا عند الله الرزق ( عدد المشاهدات18661 )
4. خطبة: يسألونك عن الخمر ( عدد المشاهدات11982 )
8. خطبة : عجبا لأمر المؤمن ( عدد المشاهدات9170 )
12. الاجتهاد في الطاعة ( عدد المشاهدات8030 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف