×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

نموذج طلب الفتوى

لم تنقل الارقام بشكل صحيح
مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis
الدرس(8) أسباب حياة القلوب
00:00:01

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. قال رحمه الله تعالى في نظمه: ومنها اجتماع الهم منه بربه*** بمرضاته يسعى سريعا معظما ومنها مراعاة وشح بوقته ***كما شح ذو المال البخيل مصمما ومنها اهتمام يثمر الحرص رغبة *** بتصحيح أعمال يكون متمما بإخلاص قصد والنصيحة محسنا *** وتقييده بالاتباع ملازما ويشهد مع ذا منة الله عنده *** وتقصيره في حق مولاه دائما فست بها القلب السليم ارتداؤه *** وينجو بها من آفة الموت والعمى الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فآخر ما ذكر المؤلف رحمه الله يقول: فأكرم به قلبا سليما مقربا *** إلى الله قد أضحى محبا متيما وتكلمنا على هذا البيت؛ فأشار إلى أن الخصال السابقة هي خصال سلامة القلب. ثم قال: "ومنها" أي: من علامات صحة القلب، ما زال المؤلف رحمه الله يذكر آيات وعلامات صحة القلب؛ "ومنها اجتماع الهم" الاجتماع ضد التشتت والفرقة، والهم هو ما يكترث به الإنسان ويشغله، وقد تقدم في تعريف الهم أنه الفكر في إزالة مكروه أو جلب محبوب, فاجتماع الهم هو أن يجمع قلبه وفكره ورغبته وطلبه وقصده فيما يسعى لأجله؛ ولذلك قال:"ومنها اجتماع الهم منه" أي: من قلبه"بربه" فيجمع همه على ربه، واجتماع الهم على الرب أن يكون غايته في الدنيا محاب الله جل وعلا ومراضيه؛ فهمه في رضا ربه، فيما يقربه إليه،فيما يدفع عنه سخطه، فيما يحقق به العبد شكر ربه؛ هذا معنى قوله:"ومنها اجتماع الهم منه بربه" أي: لا يشتغل بغير ربه؛ ومن ذلك أن يكون همه الآخرة؛ وقد جاء في الحديث بإسناد لا بأس به عند أحمد وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة»([1])؛ وهذا يبين شتان ما بين الفريقين، وشتان ما بين الحالين: صارت مشرقة وصرت مغربا *** شتان بين مشرق ومغرب([2]) إنهما حالان متباينان؛ ولذلك المؤلف يقول في ذكر أسباب صلاح القلب واستقامته: اجتماع همه على مرضاة ربه، اجتماع همه على الله جل وعلا علما به وعملا بما يرضيه؛ فاجتماع الهم على الله يكون بأمرين: الأمر الأول: العلم به. والثاني: العمل بما يرضيه. ولذلك يقول المؤلف: ومنها اجتماع الهم منه بربه*** بمرضاته يسعى... والسعي هو السير السريع, السير الجاد؛ ولذلك يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}([3])فالسعي هو السير الذي يصاحبه جد وهمة في إدراك المطلوب([4])، "يسعى سريعا معظما"أي: مسابقا إلى الخيرات، فالسرعة هنا ليست السرعة المذمومة في الأمور، إنما هي السرعة المحمودة التي أمر الله تعالى بها في قوله: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض}([5]) وهي السرعة التي مدح الله تعالى بها أولياءه في قوله تعالى: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا}([6])؛ هذه هي السرعة التي أشار إليها المؤلف رحمه الله. وقوله:"معظما" أي: امتلأ قلبه تعظيما لربه وإجلالا له سبحانه وبحمده واستحضارا لعظمته جل في علاه، والعبد إذا ملأ قلبه بعظمة الرب لم يملك إلا أن يسعى إليه على أسرع ما يكون من السعي؛ إدراكا لمحابه ومراضيه وتحقيقا لإجلاله وتعظيمه سبحانه وبحمده. يقول رحمه الله: "ومنها" أي: من علامات صحة القلب؛ "مراعاة وشح بوقته"، "مراعاة" أي: مراعاة لوقته؛ فيحاسب نفسه على ساعاته ولحظاته، يحاسب نفسه على ما يمضي من أيامه؛ هذا معنى المراعاة؛ فالمراعاة تقتضي الملاحظة والعناية والمحاسبة؛ فهو يلاحظ ويعتني([7]) مع وصف آخر، وهو الشح؛ والشح المقصود به شدة الحرص([8]) وشدة الدقة فيما ينفق ويبذل من هذا الوقت. والعجيب أن من الناس من هو كريم في وقته كرما مذموما؛ فيصرف وقته في كل شيء وفي كل شأن دون حساب ولا رقابة؛ كأن الوقت لا ثمن له، والوقت هو الحياة؛ ولذلك الشح في الوقت هو أصل صلاح القلب؛ يقول ابن القيم رحمه الله - انتبه إلى هذه الكلمات - في طريق الهجرتين: "فالشح في الوقت هو عمارة القلب, وهو رأس مال الإنسان"([9]). سبحان الله! الناس يشحون بكل شيء إلا بأوقاتهم! ولهذا إذا قلت لشخص: ماذا تفعل؟ يقول: أنا أضيع الوقت! لماذا تفعل كذا؟ قال: تسلية! تضييع وقت! وما أشبه ذلك من المترادفات التي تصدق على هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»([10])؛ ولهذا المؤلف يشير إلى أن من أسباب سلامة القلب وعلامات صحته شحه بوقته، وهو شح شديد؛ ولذلك يقول:  ومنها مراعاة وشح بوقته ***كما شح ذو المال البخيل مصمما أي: ماضيا في عمله؛ فالتصميم هو المضي في الشيء([11])، ماضيا في عمله، ماضيا فيما يصلحه، ماضيا في المحافظة على وقته دون إضاعته فيما لا ينفع. ثم يقول رحمه الله في ذكر علامات صحة القلب: ومنها اهتمام يثمر الحرص رغبة *** بتصحيح أعمال يكون متمما "منها"أي: من علامات صحة القلب وسلامته؛ "اهتمام" والاهتمام هو الاعتناء تقول: اهتم بالشيء اعتنى به، فالاهتمام هو الاعتناء([12])، وأن يجعل ذلك هما له يسعي في إدراكه وتحصيله ويستقصي جهده في بلوغه، وهذا الاهتمام لابد أن يثمر النتيجة؛ ولذلك قال:"ومنها اهتمام" أي: بصلاح قلبه وتحقيق مرضاة ربه "يثمر" أي: ينتج عنه، فالثمرة هي النتاج وهي ما يستفيده الإنسان من عمل نتاج لمقدمة([13]). يقول:"ومنها اهتمام يثمر الحرص رغبة" يثمر الحرص، والحرص هو شدة العناية بالشيء فالحريص هو المعتني شديد العناية بالأمر([14])، "يثمر الحرص رغبة بتصحيح أعمال يكون متمما"أي: يثمر الحرص بتصحيح الأعمال، وهذا أول نتاج الاهتمام؛ المؤلف ذكر للاهتمام نتائج: أولها:أن يكون مثمرا للحرص على الرغبة في تصحيح العمل؛ أي أن يكون عمله صحيحا، وإنما يكون العمل صحيحا إذا كان خالصا لله تعالى ومتابعا فيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك يقول المؤلف: "بتصحيح أعمال يكون متمما" أي مكملا لذلك السعي وذلك الجهد وذلك الاهتمام، ومكملا لتلك الرغبة، "متمما بإخلاص"؛ أي: يتمم ذلك الحرص بالإخلاص، ولا يتحقق تصحيح العمل إلا بالإخلاص. "بإخلاص قصد والنصيحة محسنا"إخلاص القصد أن يكون قصده لله تعالى، وهذا إذا أدرك العاقل أهميته وعظيم نفعه فإنه لا يكون له في غيره هم ولا إلى غيره سعي, العمل في الديانة ضبطه الله تعالى بقاعدتين كبريين تضمنهما حديثان شريفان، وإن كان النص عليهما في أحاديث كثيرة وفي آيات كثيرة، لكن هناك حديثان يترددان على ألسنة الناس وعلى أسماعهم من المناسب أن نربط هذين الأصلين بهما: - حديث عمر رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنيات»([15]), هذا يضبط عمل القلب. - وحديث عائشة رضي الله عنها: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه، فهو رد»([16])؛يضبط عمل الجوارح. فهذان الحديثان يضبطان ما يكون من الإنسان من عمل، يصلح بهما القصد ويصلح بهما الاتباع، ويتحقق بهما ما قال المؤلف:"بإخلاص قصد والنصيحة" إخلاص القصد بأن يكون القصد لله تعالى؛ فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما ابتغي به وجهه تعالى. وقوله رحمه الله:"بإخلاص قصد" أي: نية؛ بأن تكون نيته خالصة لله، والخالص هو المنقى من الشوائب المنقى من الدواخل، هذا معنى الخالص([17])، فقوله: "بإخلاص قصد" أي: بتنقية النية من الشوائب والدواخل. وقوله رحمه الله: "والنصيحة" النصيحة هي: من نصحت الشيء إذا خلصته ونقيته([18])؛ فهي تأكيد لمعنى إخلاص القصد. والنصح لله تعالى مطلوب بإخلاص العملله جل وعلا. ثم قال:"محسنا" أي: ملتزما الإحسان في هذا العمل، ولا يمكن أن يكون محسنا إلا إذا تقيد باتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال:"محسنا وتقييده بالاتباع ملازما" أي: تقييد هذا الإخلاص والنصيحة والإحسان باتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا سبيل إلى نجاة إلا من طريقه: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}([19])، وقال الله جل وعلا في الاتباع: {وإن تطيعوه تهتدوا}([20])، وقال جل وعلا:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}([21])، والآيات والنصوص في هذا كثيرة. وقد جمع هذه الأمور التي ذكرها المؤلف من سلامة القصد والنصيحة والإحسان والاتباع قول الله جل وعلا: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا}([22]) فالله سبحانه وتعالى ذكر أنه لا دين أحسن من هذا الدين ولا عمل أحسن من هذا العمل؛ أن يكون أسلم وجهه لله بأن يكون أخلص القصد له، وأتبع ذلك بالإحسان الذي هو متابعة خير الأنام صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ثم قال المؤلف رحمه الله: "ويشهد مع ذا" أي: مع ما تقدم من الحرص والإخلاص والنصيحة والإحسان والاتباع؛ "يشهد مع ذا منة الله عنده" أي: منة الله عليه بأن وفقه للعمل الصالح؛ يقول الله تعالى: {كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم}([23])، ويقول سبحانه وبحمده: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان}([24])؛ فمنة الله تعالى على عبادة ظاهرة بينة، ولابد أن يستحضروها لينقطع عن قلوبهم ماذا؟ العجب بالعمل؛ فإن الإنسان إذا حقق هذه المراتب من الإخلاص والنصيحة والإحسان والاتباع؛ قد تزهو نفسه وتعلو وترتفع على الخلق، ويرى أن له فضلا، وأنه قد حقق منزلة ومكانة؛ فجاءه التذكير الذي يردعه عن هذا بأن يذكر بأن هذا من منة الله تعالى عليه ومن فضل الله تعالى عليه؛ هو الذي حبب إلى قلبك الطاعة والإحسان، هو الذي سددك ويسر لك ذلك؛ ولهذا ينبغي للمؤمن أن يستحضر هذه النعمة في كل تقلباته، وقد كان الصحابة يرددون هذا في أهازيجهم وأشعارهم؛ فمن قولهم: «والله لولا الله ما اهتدينا، ولا تصدقنا ولا صلينا»([25])، هذا استحضار لتوفيق الله تعالى للعبد؛ فمن توفيق الله للعبد أن يشهد منة الله عليه بالهداية، ومن الناس من يرى أن الهداية من قبله وأنها من عمله وأنها بجهده؛ وهذا والله محروم، وهذا مآله إلى الخسران والبوار, لكن الفائز هو الذي يعلن الاستقامة لله تعالى، وأنه لولا الله لما اهتدى؛ ولذلك نسأله الهداية في كل صلاة فنقول: {اهدنا الصراط المستقيم}([26])؛ فقوله: "ويشهد مع ذا" أي: مع ما تقدم من الأعمال "منة الله عنده" أي: عظيم إنعام الله تعالى عليه أن هداه إلى الصراط المستقيم؛ أي: وفقه إلى التوبة، ويسر له سبل الطاعة، ولولا الله لما تحقق هذا. ثم مع هذا يشهد أمرا آخر؛ وهو ما أشار إليه بقوله:"وتقصيره في حق مولاه دائما" تقصيره في حق الله أنه لن يبلغ إيفاء الله تعالى حقه أو ما يجب له سبحانه وبحمده؛ فإن الناس مهما بلغوا من الطاعة والعبادة فإنهم لا يوفون الله جل وعلا جزءا من نعمته سبحانه وبحمده؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «ليس أحد منكم ينجيه عمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله منه بمغفرة ورحمة»([27]).فالفضل لله تعالى، والعباد لو بلغوا من العبودية ما بلغوا ما أوفوا نعمة من نعم الله تعالى ولا جزء نعمة؛ ولهذا ينبغي أن يشهد الإنسان تقصيره في حق الله تعالى وتقصيره فيما أوجب الله تعالى عليه؛ فحق الله عظيم، وإنما يغتر الإنسان الجاهل بعظيم حق الله تعالى؛ فيظن أنه قد كمل الحق، وعلى هذا يحمل كثير من الناس ما جاء عن الصحابة الكرام كقول عمر: «وددت أني نجوت منها كفافا، لا لي ولا علي»([28])، وقول أبي بكر على سبيل المثال: «وددت أني شعرة في صدر مؤمن»([29]), يحمل هذه الكلمات على التواضع وهي ليست تواضعا, هذا لأنهم علموا عظيم حق الله تعالى عليهم عرفوا أنهم لم يقدموا شيئا، لكن من جهل حق الله تجده لو صلى ليلة أو صام يوما رأى أمرا عظيما كبيرا وأنه سيدخل الجنة من أوسع أبوابها؛ لأنه صام هذا اليوم، وهذا من الاغترار بالعمل ومن الجهل بحق الله تعالى؛ ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: لو أن عبدا قدم على الله يوم القيامة بأعمال الثقلين ولم يرحمه الله تعالى ما استوجب الجنة([30]). الجنة فضل الله تعالى ورحمته يمن بها على من يشاء من عباده؛ فينبغي للمؤمن أن يعرف عظيم حق ربه عليه، وأن لا يتطرق إلى قلبه عجب أو رؤية لهذا العمل فتعميه عن جلال الله تعالى وما له من الحقوق سبحانه وبحمده. هذه ستة أمور ذكرها المؤلف رحمه الله يقول بعد أن ذكرها:"فست" أي: ستة أمور، ست خصال، ست صفات تقدم ذكرها؛ وهي: الحرص، الإخلاص، الإحسان، الاتباع، شهود المنة، شهود التقصير؛ ستة أمور ذكرها في قوله: ومنها اهتمام يثمر الحرص رغبة *** بتصحيح أعمال يكون متمما هذا الأول. "بإخلاص قصد" هذا الثاني. "والنصيحة محسنا" هذا الثالث. "وتقييده بالاتباع ملازما" هذا الرابع. "ويشهد مع ذا منة الله عنده" هذا الخامس. "وتقصيره في حق مولاه دائما"، ثم قال:"فست بها القلب السليم ارتداؤه" القلب السليم هذا لباسه، هذا رداؤه، هذه حاله، ولا تتحقق له السلامةإلا بهذا الثوب؛ ثوب الإخلاص، مع الإحسان، مع الاتباع، مع شهود المنة، مع شهود التقصير، والحرص والمبالغة في السعي في تحقيق هذه الصفات الستة المتقدمة، وفيها النجاة؛ ولذلك يقول:"وينجو بها من آفة الموت والعمى" موت ماذا؟ موت القلب "والعمى"هو نتاج الموت؛ إذا مات القلب عمي: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} القلب له عين تبصر كما قال الله جل وعلا في هذه الآية: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}([31]) فواجب على المؤمن أن يجلو عن عين قلبه كل غبش، أنت الآن إذا ضعف بصرك ماذا تصنع؟ تذهب إلى الطبيب وتكشف على عينك وتنظر: ما هي المشكلة؟ وقد تشتري نظارة لترى بها البعيد أو القريب، وتحرص على هذه النظارة؛ فتمسحها وتعتني بها، وتحرص ألا تخدش؛ كل هذا عناية ببصر تدرك به المرئيات، وهذا البصر نفعه في الدنيا، لكن القلب بصره أعظم من ذلك؛ إن بصره يدلك على الطريق إلى الجنة، هذا البصر في الدنيا الذي هو نظر العين يدلك على منافع في طريقك في الدنيا، لكن طريقك في الآخرة لا يدلك عليه إلا بصر قلبك؛ ولذلك يقول الله تعالى بعد أن أمر بالسير في الأرض: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}([32]) فينبغي للمؤمن أن يكمل هذه الخصال التي ذكرها المؤلف رحمه الله، وبها يسعد وبها تكمل حياته: {ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا}([33])؛ إخلاص وهو إسلام الوجه لله تعالى، وإحسان وهو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر إبراهيم على وجه الخصوص لأنه إمام الحنفاء؛ فهو الذي حقق التوحيد {قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين}([34]). بعد أن فرغ المؤلف من ذكر علامات صحة القلب ختم المنظومة؛ ختمها بدعاء فقال: فيارب وفقنا إلى ما نقوله *** فما زلت يا ذا الطول برا ومنعما من هذا البيت إلى آخر النظم هو خاتمة، لكنها خاتمة بديعة تبين عظيم ما لهذا الناظم رحمه الله من العلم بالله تعالى وحسن التعليم والإقرار بالفضل لمن تقدم، وسنشير إلى هذه المعاني أثناء قراءتنا لما ذكر المؤلف رحمه الله من الأبيات، نقرأها ونجعل التعليق عليها إن شاء الله للدرس القادم؛ يقول في ختم هذه المنظومة: "فيارب وفقنا إلى ما نقوله" أو تقوله؛ نقوله مما تقدم في علامات صحة القلب وما بينا *** "فما زلت يا ذا الطول برا ومنعما فإني وإن بلغت قول محقق *** أقر بتقصيري وجهلي لعل ما ولما أتى مثلي إلى الجو خاليا *** من العلم أضحى معلنا متكلما كغاب خلا من أسده فتواثبت *** ثعالب ما كانت تطا في فنا الحمى فيا سامع النجوى ويا عالم الخفا *** سألتك غفرانا يكون معمما فما جرني إلا اضطرار رأيته *** تخوفت كوني إن توقفت كاتما فأبديت من جراه مزجا بضاعتي *** وأملت عفوا من إلهي ومرحما فما خاب عبد يستجير بربه *** ألح وأمسى طاهر القلب مسلما وصلوا على خير الأنام محمد *** كذا الآل والأصحاب ما دامت السما اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين. نتكلم عما في هذه الخاتمة من معان في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.

المشاهدات:2867

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

قال رحمه الله تعالى في نظمه:

ومنها اجتماعُ الهمِ منه بربِّه*** بمرضاتهِ يسعى سريعًا مُعظِّما
ومنها مراعاة وشُحٌّ بوقته ***كما شَحَّ ذو المال البخيلِ مُصَمِّما
ومنها اهتمامٌ يُثمرُ الحِرصَ رغبةً *** بتصحيحِ أعمالٍ يكونُ متمما
بإخلاص قصدٍ والنصيحةِ محسنًا *** وتقييده بالاتباعِ ملازما
ويَشهدُ مَعْ ذا مِنَّةَ اللهِ عندَه *** وتقصيره في حقِّ مولاه دائما
فستٌّ بها القلب السليم ارتداؤه *** وينجو بها من آفةِ الموتِ والعمى
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فآخر ما ذكر المؤلف رحمه الله يقول:

فأكْرِم به قلبًا سليمًا مقربًا *** إلى اللهِ قد أضْحى محُبًّا متيَّما
وتكلمنا على هذا البيت؛ فأشار إلى أن الخصال السابقة هي خصال سلامة القلب. ثم قال:

"ومنها" أي: من علامات صحة القلب، ما زال المؤلف رحمه الله يذكر آيات وعلامات صحة القلب؛ "ومنها اجتماعُ الهمِّ" الاجتماع ضد التشتت والفرقة، والهمُّ هو ما يكترث به الإنسان ويشغله، وقد تقدم في تعريف الهم أنه الفكر في إزالة مكروه أو جلب محبوب, فاجتماع الهم هو أن يجمع قلبه وفكره ورغبته وطلبه وقصده فيما يسعى لأجله؛ ولذلك قال:"ومنها اجتماعُ الهمِّ منه" أي: من قلبه"بربِّه" فيجمع همه على ربه، واجتماع الهمِّ على الرب أن يكون غايته في الدنيا محاب الله جل وعلا ومراضيه؛ فهمُّه في رضا ربه، فيما يقرِّبه إليه،فيما يدفع عنه سخطه، فيما يحقق به العبد شكر ربه؛ هذا معنى قوله:"ومنها اجتماعُ الهمِّ منه بربه" أي: لا يشتغل بغير ربه؛ ومن ذلك أن يكون همه الآخرة؛ وقد جاء في الحديث بإسناد لا بأس به عند أحمد وأصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ»([1])؛ وهذا يُبيِّن شتان ما بين الفريقين، وشتان ما بين الحالين:

صارتْ مُشَرِّقةً وصِرْتُ مُغَرِّبًا *** شَتَّان بين مُشَرِّق ومُغَرِّبِ([2])

إنهما حالان متباينان؛ ولذلك المؤلف يقول في ذكر أسباب صلاح القلب واستقامته: اجتماع همه على مرضاة ربه، اجتماع همه على الله جل وعلا علمًا به وعملًا بما يرضيه؛ فاجتماع الهم على الله يكون بأمرين:

الأمر الأول: العلم به.

والثاني: العمل بما يرضيه.

ولذلك يقول المؤلف:

ومنها اجتماعُ الهمِ منه بربه*** بمرضاتهِ يسعى...

والسعي هو السير السريع, السير الجاد؛ ولذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}([3])فالسعي هو السير الذي يصاحبه جد وهمة في إدراك المطلوب([4])، "يسعى سريعًا مُعظِّما"أي: مسابقًا إلى الخيرات، فالسرعة هنا ليست السرعة المذمومة في الأمور، إنما هي السرعة المحمودة التي أمر الله تعالى بها في قوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ}([5]) وهي السرعة التي مدح الله تعالى بها أولياءه في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}([6])؛ هذه هي السرعة التي أشار إليها المؤلف رحمه الله.

وقوله:"مُعظِّما" أي: امتلأ قلبه تعظيمًا لربه وإجلالًا له سبحانه وبحمده واستحضارًا لعظمته جل في علاه، والعبد إذا ملأ قلبه بعظمة الرب لم يملك إلا أن يسعى إليه على أسرع ما يكون من السعي؛ إدراكًا لمحابه ومراضيه وتحقيقًا لإجلاله وتعظيمه سبحانه وبحمده.

يقول رحمه الله: "ومنها" أي: من علامات صحة القلب؛ "مراعاة وشُحٌّ بوقته"، "مراعاة" أي: مراعاة لوقته؛ فيحاسب نفسه على ساعاته ولحظاته، يحاسب نفسه على ما يمضي من أيامه؛ هذا معنى المراعاة؛ فالمراعاة تقتضي الملاحظة والعناية والمحاسبة؛ فهو يلاحظ ويعتني([7]) مع وصف آخر، وهو الشح؛ والشح المقصود به شدة الحرص([8]) وشدة الدقة فيما ينفق ويبذل من هذا الوقت. والعجيب أنَّ مِن الناس مَن هو كريم في وقته كرمًا مذمومًا؛ فيصرف وقته في كل شيء وفي كل شأن دون حساب ولا رقابة؛ كأن الوقت لا ثمن له، والوقت هو الحياة؛ ولذلك الشح في الوقت هو أصل صلاح القلب؛ يقول ابن القيم رحمه الله - انتبه إلى هذه الكلمات - في طريق الهجرتين: "فالشح في الوقت هو عمارة القلب, وهو رأس مال الإنسان"([9]). سبحان الله! الناس يشحون بكل شيء إلا بأوقاتهم! ولهذا إذا قلت لشخص: ماذا تفعل؟ يقول: أنا أضيع الوقت! لماذا تفعل كذا؟ قال: تسلية! تضييع وقت! وما أشبه ذلك من المترادفات التي تصدِّق على هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغ»([10])؛ ولهذا المؤلف يشير إلى أن من أسباب سلامة القلب وعلامات صحته شحه بوقته، وهو شحٌّ شديد؛ ولذلك يقول:

 ومنها مراعاة وشُحٌّ بوقته ***كما شَحَّ ذو المال البخيلِ مُصَمِّما
أي: ماضيًا في عمله؛ فالتصميم هو المضي في الشيء([11])، ماضيًا في عمله، ماضيًا فيما يصلحه، ماضيًا في المحافظة على وقته دون إضاعته فيما لا ينفع.

ثم يقول رحمه الله في ذكر علامات صحة القلب:

ومنها اهتمامٌ يُثمرُ الحِرصَ رغبةً *** بتصحيحِ أعمالٍ يكونُ متمما
"منها"أي: من علامات صحة القلب وسلامته؛ "اهتمام" والاهتمام هو الاعتناء تقول: اهتم بالشيء اعتنى به، فالاهتمام هو الاعتناء([12])، وأن يجعل ذلك همًّا له يسعي في إدراكه وتحصيله ويستقصي جهده في بلوغه، وهذا الاهتمام لابد أن يثمر النتيجة؛ ولذلك قال:"ومنها اهتمام" أي: بصلاح قلبه وتحقيق مرضاة ربه "يثمر" أي: ينتج عنه، فالثمرة هي النتاج وهي ما يستفيده الإنسان من عمل نتاج لمقدمة([13]). يقول:"ومنها اهتمام يُثمرُ الحِرصَ رغبةً" يثمر الحرص، والحرص هو شدة العناية بالشيء فالحريص هو المعتني شديد العناية بالأمر([14])، "يُثمرُ الحِرصَ رغبةً بتصحيحِ أعمالٍ يكونُ متمما"أي: يثمر الحرص بتصحيح الأعمال، وهذا أول نتاج الاهتمام؛ المؤلف ذكر للاهتمام نتائج: أولها:أن يكون مثمرًا للحرص على الرغبة في تصحيح العمل؛ أي أن يكون عمله صحيحًا، وإنما يكون العمل صحيحًا إذا كان خالصًا لله تعالى ومتابعًا فيه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك يقول المؤلف: "بتصحيحِ أعمالٍ يكونُ متمما" أي مكمِّلًا لذلك السعي وذلك الجهد وذلك الاهتمام، ومكملًا لتلك الرغبة، "متممًا بإخلاص"؛ أي: يتمم ذلك الحرص بالإخلاص، ولا يتحقق تصحيح العمل إلا بالإخلاص.

"بإخلاص قصدٍ والنصيحةِ محسنا"إخلاص القصد أن يكون قصده لله تعالى، وهذا إذا أدرك العاقل أهميته وعظيم نفعه فإنه لا يكون له في غيره همٌّ ولا إلى غيره سعي, العمل في الديانة ضَبَطَه الله تعالى بقاعدتين كُبْريينِ تضمنهما حديثان شريفان، وإن كان النص عليهما في أحاديث كثيرة وفي آيات كثيرة، لكن هناك حديثان يترددان على ألسنة الناس وعلى أسماعهم من المناسب أن نربط هذين الأصلين بهما:

- حديث عمر رضي الله عنه: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»([15]), هذا يضبط عمل القلب.

- وحديث عائشة رضي الله عنها: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ»([16])؛يضبط عمل الجوارح.

فهذان الحديثان يضبطان ما يكون من الإنسان من عمل، يصلح بهما القصد ويصلح بهما الاتباع، ويتحقق بهما ما قال المؤلف:"بإخلاص قصدٍ والنصيحةِ" إخلاص القصد بأن يكون القصد لله تعالى؛ فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما ابتُغي به وجهه تعالى. وقوله رحمه الله:"بإخلاص قصدٍ" أي: نية؛ بأن تكون نيته خالصة لله، والخالص هو المنقَّى من الشوائب المنقى من الدواخل، هذا معنى الخالص([17])، فقوله: "بإخلاص قصد" أي: بتنقية النية من الشوائب والدواخل.

وقوله رحمه الله: "والنصيحةِ" النصيحة هي: من نصحت الشيء إذا خلَّصته ونقَّيته([18])؛ فهي تأكيدٌ لمعنى إخلاص القصد. والنصحُ لله تعالى مطلوبٌ بإخلاص العملله جل وعلا.

ثم قال:"محسنًا" أي: ملتزمًا الإحسان في هذا العمل، ولا يمكن أن يكون محسنًا إلا إذا تقيَّد باتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال:"محسنا وتقييده بالاتباعِ ملازما" أي: تقييد هذا الإخلاص والنصيحة والإحسان باتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا سبيل إلى نجاةٍ إلا من طريقه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}([19])، وقال الله جل وعلا في الاتباع: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}([20])، وقال جل وعلا:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}([21])، والآيات والنصوص في هذا كثيرة. وقد جمع هذه الأمور التي ذكرها المؤلف من سلامة القصد والنصيحة والإحسان والاتباع قول الله جل وعلا: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}([22]) فالله سبحانه وتعالى ذكر أنه لا دين أحسن من هذا الدين ولا عمل أحسن من هذا العمل؛ أن يكون أسلم وجهه لله بأن يكون أخلص القصد له، وأتبع ذلك بالإحسان الذي هو متابعة خير الأنام صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

ثم قال المؤلف رحمه الله: "ويَشهدُ مَع ذا" أي: مع ما تقدم من الحرص والإخلاص والنصيحة والإحسان والاتباع؛ "يشهد مع ذا مِنَّةَ اللهِ عندَه" أي: منة الله عليه بأن وفَّقه للعمل الصالح؛ يقول الله تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ}([23])، ويقول سبحانه وبحمده: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}([24])؛ فمنة الله تعالى على عبادة ظاهرة بينة، ولابد أن يستحضروها لينقطع عن قلوبهم ماذا؟ العجب بالعمل؛ فإنَّ الإنسان إذا حقَّق هذه المراتب من الإخلاص والنصيحة والإحسان والاتباع؛ قد تزهو نفسه وتعلو وترتفع على الخلق، ويرى أنَّ له فضلًا، وأنه قد حقق منزلة ومكانة؛ فجاءه التذكير الذي يردعه عن هذا بأن يذكَّر بأن هذا من مِنَّة الله تعالى عليه ومن فضل الله تعالى عليه؛ هو الذي حبَّب إلى قلبك الطاعة والإحسان، هو الذي سددك ويسر لك ذلك؛ ولهذا ينبغي للمؤمن أن يستحضر هذه النعمة في كل تقلباته، وقد كان الصحابة يرددون هذا في أهازيجهم وأشعارهم؛ فمن قولهم: «وَاللَّهِ لَوْلاَ اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا»([25])، هذا استحضارٌ لتوفيق الله تعالى للعبد؛ فمِن توفيق الله للعبد أن يشهد مِنَّة الله عليه بالهداية، ومِن الناس مَن يرى أن الهداية من قِبله وأنها من عمله وأنها بجهده؛ وهذا والله محروم، وهذا مآله إلى الخسران والبوار, لكن الفائز هو الذي يعلن الاستقامة لله تعالى، وأنه لولا الله لما اهتدى؛ ولذلك نسأله الهداية في كل صلاة فنقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}([26])؛ فقوله: "ويَشهدُ مَع ذا" أي: مع ما تقدم من الأعمال "مِنَّةَ اللهِ عندَه" أي: عظيم إنعام الله تعالى عليه أنْ هداه إلى الصراط المستقيم؛ أي: وفَّقه إلى التوبة، ويسَّر له سبل الطاعة، ولولا الله لما تحقق هذا.

ثم مع هذا يشهد أمرًا آخر؛ وهو ما أشار إليه بقوله:"وتقصيره في حقِّ مولاه دائما" تقصيره في حق الله أنه لن يبلغ إيفاء الله تعالى حقه أو ما يجب له سبحانه وبحمده؛ فإنَّ الناس مهما بلغوا من الطاعة والعبادة فإنهم لا يوفون الله جل وعلا جزءًا من نعمته سبحانه وبحمده؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُنْجِيهِ عَمَلُهُ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ مِنْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ»([27]).فالفضل لله تعالى، والعباد لو بلغوا من العبودية ما بلغوا ما أوفوا نعمة من نِعم الله تعالى ولا جُزْءَ نعمة؛ ولهذا ينبغي أن يشهد الإنسان تقصيره في حق الله تعالى وتقصيره فيما أوجب الله تعالى عليه؛ فحق الله عظيم، وإنما يغتر الإنسان الجاهل بعظيم حق الله تعالى؛ فيظن أنه قد كمَّل الحق، وعلى هذا يحمل كثيرٌ من الناس ما جاء عن الصحابة الكرام كقول عمر: «وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهَا كَفَافًا، لاَ لِي وَلاَ عَلَي»([28])، وقول أبي بكر على سبيل المثال: «وَدِدْتُ أَنِّي شَعْرَةٌ فِي صَدْرِ مُؤْمِنٍ»([29]), يحمل هذه الكلمات على التواضع وهي ليست تواضعًا, هذا لأنهم علموا عظيم حق الله تعالى عليهم عرفوا أنهم لم يقدموا شيئًا، لكن مَن جَهِلَ حقَّ الله تجده لو صلى ليلة أو صام يومًا رأى أمرًا عظيمًا كبيرًا وأنه سيدخل الجنة من أوسع أبوابها؛ لأنه صام هذا اليوم، وهذا من الاغترار بالعمل ومن الجهل بحق الله تعالى؛ ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: لو أن عبدًا قدم على الله يوم القيامة بأعمال الثقلين ولم يرحمه الله تعالى ما استوجب الجنة([30]). الجنةُ فضل الله تعالى ورحمته يمنُّ بها على من يشاء من عباده؛ فينبغي للمؤمن أن يعرف عظيم حق ربه عليه، وأن لا يتطرق إلى قلبه عجب أو رؤية لهذا العمل فتُعميه عن جلال الله تعالى وما له من الحقوق سبحانه وبحمده.

هذه ستة أمور ذكرها المؤلف رحمه الله يقول بعد أن ذكرها:"فستٌّ" أي: ستة أمور، ست خصال، ستٌّ صفات تقدم ذكرها؛ وهي: الحرص، الإخلاص، الإحسان، الاتباع، شهود المنة، شهود التقصير؛ ستة أمور ذكرها في قوله:

ومنها اهتمام يُثمرُ الحِرصَ رغبةً *** بتصحيحِ أعمالٍ يكونُ متمما
هذا الأول.

"بإخلاص قصدٍ" هذا الثاني.

"والنصيحةِ محسنا" هذا الثالث.

"وتقييده بالاتباع ملازمًا" هذا الرابع.

"ويَشهدُ مَعْ ذا مِنَّةَ اللهِ عندَه" هذا الخامس.

"وتقصيره في حقِّ مولاه دائما"، ثم قال:"فستٌّ بها القلب السليم ارتداؤه" القلب السليم هذا لباسه، هذا رداؤه، هذه حاله، ولا تتحقق له السلامةإلا بهذا الثوب؛ ثوب الإخلاص، مع الإحسان، مع الاتباع، مع شهود المنة، مع شهود التقصير، والحرص والمبالغة في السعي في تحقيق هذه الصفات الستة المتقدمة، وفيها النجاة؛ ولذلك يقول:"وينجو بها من آفةِ الموتِ والعمى" موت ماذا؟ موت القلب "والعمى"هو نتاج الموت؛ إذا مات القلب عمي: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} القلب له عين تبصر كما قال الله جل وعلا في هذه الآية: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}([31]) فواجبٌ على المؤمن أن يجلو عن عين قلبه كل غبش، أنت الآن إذا ضَعُف بصرك ماذا تصنع؟ تذهب إلى الطبيب وتكشف على عينك وتنظر: ما هي المشكلة؟ وقد تشتري نظارة لترى بها البعيد أو القريب، وتحرص على هذه النظارة؛ فتمسحها وتعتني بها، وتحرص ألا تُخدش؛ كل هذا عناية ببصرٍ تدرك به المرئيات، وهذا البصر نفعه في الدنيا، لكن القلب بصره أعظم من ذلك؛ إنَّ بصره يدلُّك على الطريق إلى الجنة، هذا البصر في الدنيا الذي هو نظر العين يدلُّك على منافع في طريقك في الدنيا، لكن طريقك في الآخرة لا يدلك عليه إلا بصر قلبك؛ ولذلك يقول الله تعالى بعد أن أمر بالسير في الأرض: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}([32]) فينبغي للمؤمن أن يُكمل هذه الخصال التي ذكرها المؤلف رحمه الله، وبها يسعد وبها تكمل حياته: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}([33])؛ إخلاص وهو إسلام الوجه لله تعالى، وإحسان وهو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وذُكر إبراهيم على وجه الخصوص لأنه إمام الحنفاء؛ فهو الذي حقق التوحيد {قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}([34]).

بعد أن فرغ المؤلف من ذكر علامات صحة القلب ختم المنظومة؛ ختمها بدعاء فقال:

فياربِّ وفقنا إلى ما نقوله *** فما زلتَ يا ذا الطَّوْل برًّا ومُنْعِمِا
من هذا البيت إلى آخر النظم هو خاتمة، لكنها خاتمة بديعة تُبيِّن عظيم ما لهذا الناظم رحمه الله من العلم بالله تعالى وحسن التعليم والإقرار بالفضل لمن تقدم، وسنشير إلى هذه المعاني أثناء قراءتنا لما ذكر المؤلف رحمه الله من الأبيات، نقرأها ونجعل التعليق عليها إن شاء الله للدرس القادم؛ يقول في ختم هذه المنظومة:

"فياربِّ وفقنا إلى ما نقوله" أو تقوله؛ نقوله مما تقدم في علامات صحة القلب وما بينَّا *** "فما زلتَ يا ذا الطَّوْل برًّا ومُنْعِمِا

فإني وإنْ بَلَّغتُ قولَ محققٍ *** أُقرُّ بتقصيري وجهلي لعلَّ ما
ولمَّا أتى مثلي إلى الجوِّ خاليا *** من العلمِ أضْحى مُعْلنًا مُتكلِّما
كغابٍ خلا مِنْ أُسدِهِ فتواثبت *** ثعالبُ ما كانتْ تطا في فِنَا الحِمَى
فيا سامع النَّجوى ويا عالم الخفا *** سَألتُكَ غُفْرَانًا يكونُ معمَّما
فما جرَّني إلا اضطرارٌ رأيته *** تَخوَّفت كوني إنْ توقفتُ كاتما
فأبْديْتُ من جرَّاه مزجا بضاعتي *** وأمَّلَّتُ عفوًا مِنْ إلهي ومَرْحما
فما خَابَ عبدٌ يستجير بربِّه *** ألحَّ وأمْسَى طاهر القلب مُسْلِما
وصلَّوا على خير الأنام محمد *** كذا الآل والأصحاب ما دامت السما
اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان إلى يوم الدين.

نتكلم عما في هذه الخاتمة من معانٍ في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.

الاكثر مشاهدة

1. خطبة : فابتغوا عند الله الرزق ( عدد المشاهدات18660 )
4. خطبة: يسألونك عن الخمر ( عدد المشاهدات11982 )
8. خطبة : عجبا لأمر المؤمن ( عدد المشاهدات9169 )
12. الاجتهاد في الطاعة ( عدد المشاهدات8030 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف