×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

المشاهدات:3658

المقدم: حياكم الله مستمعيَّ الكرام، مجددًا في برنامجكم المباشر: "الدين والحياة"، ونرحب أيضًا بضيفنا، وضيفكم الدائم في هذا البرنامج: الشيخ: خالد المصلح، حياكم الله شيخ خالد، ونتحدث في هذه الحلقة كما ذكرنا في بدايتها عن: "روح الشريعة".
لعل في بداية حديثنا نوضح معنى هامًّا، ألا وهو: عندما يلتبس هذا الأمر وهذا المصطلح ببعض الناس، فيفصلون، أو يتحدثون عن روح الشريعة، وكأن ما لها روح وجسد، فهناك روح، أو هناك جسد، هي النصوص، وأقوال سلف الأمة، وفي المقابل هناك جسد، يعني هكذا يفصلون بين هذين الأمرين، ويفصِّلون في الشريعة حسبما تُمليه عليهم أهواؤهم، حبذا لو في البداية – بارك الله فيكم – نتحدَّث عما نعني به في هذه الحلقة من مصطلح: روح الشريعة؟
الشيخ: السلام عليكم، ورحمة الله، وبركاته، مساك الله بالخير، ومسي الله الإخوة والأخوات بالخيرات في هذا اللقاء المتجدد، وقضيتنا في هذا اليوم، في هذه الحلقة، ستكون هذا العنوان الذي – كما ذكرت – قد يثير نوعا من الإشكال، أو قد ينصرف فيه الذهن إلى بعض المفاهيم البعيدة، ونحن إنما طرحنا هذا العنوان لنبين الجوانب الحقَّة فيه، ولننبِّه على ما يمكن أن يعتريه من انحرافات، فنقوِّم السبيل، ونسلك الصراط المستقيم في فهم هذا المعنى العظيم في هذا العنوان.
الشريعة: المقصود بها: هو ما جاءت به الرسل – صلوات لله وسلامه عليهم – فالله تعالى بعث الرسل – عليهم صلوات الله وسلامه – بالهدى ودين الحق، وكان أكمل ذلك ما جاء به النبي – صلى الله عليه وعلى آله وسلم – فإن الله – تعالى – بعثَ محمدا بأكمل الهدايات وأتمِّها وأوسعها وأشملها وأنفعها للبشرية على وجه الإطلاق؛ ذلك أن الله – عز وجل – بعث الرسل في أزمنة مختلفة، وكل رسول بعثه الله – تعالى – إنما بعثه لفئة من الناس، فلم تأت رسالة تخاطب البشرية كافة، بل كل الرسالات التي تحدَّثت عنها الكتب، وتحدث عنها القرآن، وجاء خبرها في السنة، هي رسالات خاصة، أي: رسالات خاصة بزمان، وخاصة بفئة، فكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – في بيان ما بعثه الله  تعالى به:  «وَبُعِثتُ إلى النَّاس عامَّة»[صحيح البخاري:335] والله قد قرر هذا المعنى في محكم كتابه، قال الله تعالى:{ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان: 1] وقال -جل وعلا-:{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] فالذي امتازت به هذه الرسالة هذه الشريعة التي جاء بها النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – أنها رسالة عامة، تجاوزت حدودَ الزمان، فهي رسالة ممتدَّة إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وتجاوزت حدود النسب، والمكان، فهي رسالة لكل البشرية، «وَبُعثتُ للناس عامَّة» وقال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158] أمر الله رسوله أن يبلغهم، أن يبلغ الناس بهذا العموم في رسالته، ليزول كلُّ التباس أنها رسالة خاصة بالعرب، أنها رسالة خاصة بأهل زمانه، أنها رسالة خاصة بفئة من الناس، بل هي رسالة عامة.
لما كانت الرسالة على هذا النحو، كانت في غاية الإتقان، كما قال الله – عز وجل – { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [ المائدة: 3] فجاءت هذه الرسالة على هذا النحو من التمام والكمال الذي أخبر به رب العالمين، حيث أخبر بأن ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم – قد رضيه الله – جل وعلا – وقد أكمله وأتمَّه، فلا نقص فيه بوجه من الوجه، ولا عَثَرَة فيه من أي ناحية من النواحي، وزكى الله  تعالى  هذه الرسالة في مواضع عديدة، فأخبر – جل وعلا – أن هذا الكتاب قاضٍّ على كل كتاب، وحاكم على كل رسالة سابقة، قال الله – جل وعلا – بعد أن ذكر التوراة والإنجيل وما أنزل فيهما، قال:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48] فهو مصدق للكتب السابقة، { وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} أي: وحاكما عليه، ولذلك بعدها مباشرة:{ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ثم بين حِكمتَه في تعدد الرسالات: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48] المقصود – أخي عبد الله – أن هذه الرسالة، رسالة حاكمة على كل الرسالات السابقة، رسالة ظاهرة على كل الرسالات السابقة، رسالة مُشتَمِلة على كل ما في الرسالات السابقة من معاني تحتاجها البشرية، فليس بعد هذه الشريعة تمامٌ، ولا بعدها كمال، ولا بعدها ظهور{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[ التوبة: 33] إذا عرفنا شأن المقصود بالشريعة: أي ما جاءت به الرسل، كما قال الله – تعالى – {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48] والمقصود بالشريعة على وجه الخصوص: هو ما خَتَم الله تعالى به الرسالات، وذكر جُملة من المزايا التي تميَّزت بها هذه الشريعة، وهذه الرسالة عن سائر ما تقدَّم من الرسالات، عندما نتحدث عن روح هذه الرسالة، فنحن نتكلم عن مقاصدها، عن معانيها، عن مراداتها، عن أهدافها التي تسعى لتحقيقها وجاءت من أجلها، وفي هذا الإطار نفهم أن الشريعة لها غايات، لها مقاصد، لها أهداف، من إصلاح البشر، من إصلاح المعاش، من إصلاح المعاد، من إصلاح ما بين الناس من عِلاقات، وهذه الأهداف وهذه المقاصد الشرعية والمقاصد التي جاءت بها الشريعة تكلَّم عنها العلماء – رحمهم الله – كلامًا مُستَفِيضًا في بحوثهم، وفي تقريراتهم، وفيما تناولوه من بيان الشريعة وإيضاح محاسنها وتَجْلِيَة ما جاءت به من النور ودين الحق والهدى.

 لكن نحن بحاجة إلى أن نفهم أن هذه الروح ليست مقصورةً على تلك الكلِّيات التي يعرفها كثير من الناس، ويدركها المشتغلون بعلوم الشريعة، وأن الشريعة مقصودة، مقاصد الشريعة خمسة: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ المال، حفظ العقل، حفظ العرض، هذه المقاصد بالتأكيد أنها تدور عليها أحكام الشريعة هي الروح، لكن هذه تتعلق بما تفسَّر به الأحكام، هذه المقاصد تتعلَّق بما تُبنَى عليها الشرائع، لكن ثمة مقصود ومقاصد أخرى هي: إما أن تكون مُعزِّزة لهذه المعاني، أو مُندَرِجة فيها، والناس عنها في غفلة، ما مقصود الصلاة؟ ما مقصود الزكاة؟ ما مقصود الصوم؟ ما مقصود الحج؟ ما الذي لأجله شرع الله  تعالى  الصدق؟ ما الذي لأجله نهى الله  تعالى  عن الكذب؟ لماذا حرم الله  تعالى الخمر؟ لماذا نهى عن النظر إلى المحرمات؟ لماذا نهى الله  تعالى عن الزنا؟ لماذا نهى الله تعالي  عن الربا؟ لماذا نهى الله  تعالى عن الغيبة؟ لماذا أمر الله تعالى بالعدل؟ لماذا أمر الله تعالى بالإحسان؟ وهلمَّ جرًّا، قائمة طويلة من أحكام الشريعة ومما جاءت به، وإن كان ذلك في أصولها وأُسُسها، أو كان ذلك في جزئيَّاتها وفروعها، إذا استحضر المؤمن المعاني الكلية لمعاني مقاصد الشريعة، ولماذا جاءت الشريعة بهذا؟ كان ذلك عونًا له على أمور، يعني لماذا نحتاج إلى أن نفهم مقاصد الشريعة؟ لماذا نفهم روح الشريعة؟ لماذا نفهم أسرار الشرائع الإلهية، والأحكام الدينية، لماذا؟ لأن ذلك يفيدنا أولا: الوقوف على وجه من أوجه الإحكام في تشريع رب العالمين، فإن تلك المقاصد التي تجتمع في منظومات، أو تلك الأحكام التي ترجع إلى مقاصد، وتنتظمها أسرار وغايات بالتأكيد أن ذلك يعطي القلب طمأنينة، ويبرِز قول الله – جل وعلا – :{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] فيكون هذا عونا له على معرفة عظمة المشرِّع الذي شرع هذه الأحكام، الذي جاء بهذه العبادات، الذي جاء بهذه الشرائع، سواء كان في ما يتعلق بالعبادة، أو كان في ما يتعلق بالمعاملة، سيكون ذلك عونًا له على إدراك تامِّ أسرار بعض حكمةِ الحكيم المتقن للشريعة، معرفة انتظام هذه الشريعة، وأنها شريعة تُدركها العقول، وأنها شريعة ليست فقط صورًا وحركات وأعمالًا لا صلة لها بالمعاني والمقاصد، بل هي مَوصولة العُرى بمقاصِدِها وغاياتها، يفيد أيضا، وهذا المعنى مُهمٌّ للغاية، وسنقف معه – إن شاء الله تعالى – في الأمثلة، يفيد في مدى قياس تحقيق مقصود العبادة، وبالتالي معرفة مدى نفعِها للإنسان، معرفة الأجر المرتَّب عليها، يعني يستفيد منها نظرا في ما يتعلق بامتثال الأمر، وثمرة وثواب المرتب عليه.
المقدم:طيب يا شيخ خالد هنا في ما تحدثنا عنه، أن هذا المصطلح ربما يثير نوعا من الإشكال، حبَّذا لو نُجلِّي هذا الإشكال الذي ربما يثار من خلال إثارة هذا المصطلح، أو تردِيدِه أو ربما ذكرِه، أو إيراده في أي مجال ما، ألا وهو ربما في جانب عندما يرى البعض أن روح الشريعة، أن للشريعة روحًا وجسدًا كما ذكرنا في بداية الحلقة، وأن البعض ربما يفرِّق في ما بين الشريعة، النصوص الشرعية ذاتها، وفي المقابل التطبيقات التي تكون على أرض الواقع، هل يعني يمكن أن يسوِّغ إطلاق هذا الأمر، وهذا المصطلح في هذا الجانب، إذا ما فرَّقنا فيما بين التطبيقات العملية، والواقع فيما يتعلق بتطبيق الشريعة، وأيضا النصوص الشرعية، أو مثلا في النصوص القرآنية، والنصوص الواردة في الأحاديث النبوية.
الشيخ:هناك نوع من الغلوِّ في فهم هذا المقصود، ومجانبةٌ للصراط المستقيم في التعاطي معه، وهذا ليس حديثا، فمسألة فصل روح الشريعة عن أحكامها، ومحاولة إيجاد نوع من التفريق والفصل بين أحكام الشريعة وحقائقها، هذا شيء قديم، وقد غلا فيه بعض الناس غلوًّا شديدا حتى أسقط التكاليف الشرعية بناء على أنه ما دام أن الحقائق والمقاصد وروح الشريعة قائمة فخلاص لا حاجة إلى صلاة، لا حاجة إلى صوم، لا حاجة إلى عبادة، لا حاجة إلى زكاة، لا حاجة إلى حجٍّ، وما إلى ذلك مما يعني تَفَاحَش بُعدُه، وظهر غَلطُه وانحرافه بطريقة جليَّة واضحة، الله تعالى يقول:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] هكذا يخاطَب النبي – صلى الله عليه وسلم – في التأكيد على أن تلك المعاني والمضامين التي تضمَّنَتْها تلك الشعائر والعبادات، لا يمكن أن يدرِكَها الإنسان بطريق آخر، ومن توهَّم أنه أدرك حقائق العبادات وروحَها، وتسلط بعد ذلك على أحكام الشريعة إلغاء أو إسقاطا كفلت حقيقة الأمر وقع في انحراف معروف وقديم، يعني ما ذكره بعض غلاة الصوفية الذين يرون: أنه إذا بلغ اليقين، سقطت أحكام الدين هذا ويفسر الآية بذلك {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]، يقول: اليقين مَرتبة إذا وصلها الإنسان سَقَطت عنه أحكام الشريعة، هذا نوع من الانحراف القديم فيما يتعلق بروح الشريعة وأحكامها، روحُ الشريعة، وتفاصيل التشريع، وهو موجود إذا حدث في فَهَب بعض الناس، يعني قد قرأت لبعض الكُتَّاب يتكلم عن أن الشريعة تنقسم إلى ثلاثة أقسام، فيقول: عمل الشريعة، الشريعة تنقسم إلى: عمل الشريعة، وعمل الطريقة، وعمل الحقيقة.

 عمل الشريعة هو الإسلام، وعمل الطريقة هو الإيمان، وعمل الحقيقة هو الإحسان، ويوغِل في الكلام المطَّرِد المدفون، يقوم على التلاعب بالألفاظ، والعبث بالمفاهيم، والحرف بالمعاني، للوصول إلى أن الشريعة ظاهر وباطن، وأن الظاهر هذا الذي يهتم به الناس وعامة الخلق، أما الباطن فلا يُدرِكه إلا أصحاب الحقائق.
المقدم: سعيًا إلى التفلُّت يا شيخ خالد.
الشيخ: نعم، وبالتالي فهو في الحقيقة، يعني أولا: ينظر إلى نفسه بنوع من السُّموِّ والعلو؛ لأنه بلغ منزلة لم يبلغها غيره، ثانيا: أنه يقفِز على الشريعة بمثل هذه التسويغات الباطلة، والشريعة اقترن فيها أمر الله تعالي بمقاصده، فمقاصد الشريعة لا يمكن أن تُدرَك إلا من طريق ما جاءت به الشريعة، يعني لا يمكن أن يدرِك الإنسان تحقيق العبودية لله – عز وجل – بالخروج على أحكام الشريعة، لا يمكن أن يدرِك رضا الله – جل وعلا – بالخروج عن أحكام الشريعة، لا يمكن أن يدرك سعادةً ولا جنَّة ولا فَوزًا إلا بالعمل الذي شرعه الله  تعالى ، ولذلك الله – عز وجل – يذكر جزاء العاملين وأجر المجتهدين في طاعة الله تعالى على العمل يقول: { لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 127] ويقول – جل وعلا – { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [النحل:32] { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ } [الزخرف: 72-73] ويقول: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ الأحقاف: 14] والآيات في هذا كثيرة وعديدة، التي تؤكِّد ارتباط العمل بمقاصده، وأنه لا يمكن أن يبلغ الإنسان مرحلة، يقول: إن روح الشريعة، المقصود روح الشريعة، وبالتالي يستبيح المحرَّمات، المقصود عِفَّة النفس، وتجده يعني على سبيل المثال، تجد مثلا يقول يعني ما يتردد على ألسنة كثير من الناس: أنه الإيمان في القلب يا أخي، ما يضرُّك يعني، ويجعل هذا سُلَّمًا للوصول إلى تبرير واقع.
المقدم:شيخ خالد معذرة، هنا نوع من التنزيل على الواقع، عندما مثلا البعض يرى يعني، بعض المُلتحين مثلًا، أو غير ذلك من المظاهر التي جاءت بها الشريعة والسنة النبوية، وحثَّت عليها، وجاءت بوجوب القيام بها، والإتيان بها، يقول البعض: الإيمان في القلب ولا يضرُّني يعني إذا ما أنا تجاوزت، وتجاهلت هذه الأمور، أو السنن الواجب الإتيان بها؛ لأن الإيمان في القلب كما ذكرتم، فإذا كان الإيمان في القلب فلا ضير أن آتي بأي شيء في ظاهره مثلا.
الشيخ:إذا هذا صحيح، وهذا الموضوع مُلتبس يا أخي، لما يعني ينحرف الرأي ستنحرف السلوكيات والنتائج، يعني عندما يتصور الإنسان أن الشريعة روح، ويمكن أن يدرك هذه الروح، وهذه الحقيقة من غير ما شرعه الله – عز وجل – سيهون أمامه ويضعف وزن الشعائر والعبادات، وفي المقابل أيضا ثمة من يعني يغفل عن أرواح العبادات ومقاصدها، فيكون غاية همِّه، ومنتهى طموحه في تحقيق صورة العبادة دون النظر إلى مقصودها.
المقدم: يعني هي مجرَّد حركات وهو يؤديها.
الشيخ: على سبيل المثال، تجد أنه مثلا ممكن أن يُتقِن الصلاة ظاهرا، فيضع يده في الموضع الذي يراه أنه من السنة، ويسجد على نحو سجود النبي – صلى الله عليه وسلم – ويرفع على نحوه، لكنه يغفل عن أن حياة هذه الصلاة، مع القيام بصورتها، حضورها بحضور القلب وخشوعه، كما قال الله – تعالى – {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2] ومثله أيضا الزكاة، صدقة يمكن أن يتصدق، لكنه لا يجد لتلك الصدقة المعاني المقصودة التي ذكرها الله تعالى في كتابه، قال:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] فتجده يخرج المال بنوع من الزَّهوِ، بنوع من العلوِّ، بنوع من الامتنان، بنوع من رؤية النفس، أو يخرجها وهو على كُره لها، خوفَ السلطان، أو خوفَ النظام، أو ما أشبه ذلك، وتجدُه يتحيل للتخفُّف من هذا بكل طريق، هذا نمط يعني في عبادتين من أصول العبادات، الزكاة والصلاة، عندما الزكاة والصلاة، عندما يفعلهما الإنسان، سالبا لمعناها، نجد أنها لا تؤتي مقاصدها، ولا تحقق الغاية المرجوَّة منها، الصيام على سبيل المثال: عندما يصوم الإنسان، ويقتصر على الامتناع عن الطعام والشراب، وبعد ذلك يغيب عنه مقاصد الصيام التي ذكرها الله في أول آية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] لما يفعل الإنسان هذه العبادة، يصوم، وقد يصوم حتى أيام التطوع، ويكثر من صيام التطوع، لكنه لا يحفظ نظره عن محرَّم، ولا يحفظ لسانه ولا يحفظ قوله.
المقدم: ينام من بعد الفجر إلى الغروب ويقول: أنا صائم
الشيخ: قد يضيع الصلوات، وقد يضيع الواجبات، قد يهدر في حقوق أهله مثلا، قد يتعامل مع الناس بفظاظة، قد يتكلم بالغيبة، بالنميمة، هنا يقال له: يا أخي أنت أتيت بصورة العبادة، لكن روحها غائب، والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول في محكم قوله في ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة:«مَن لم يَدَع قولَ الزُّور والعملَ به، فَلَيس لله حاجةٌ في أن يَدَع طعامَه وشرابَه»[صحيح البخاري:1903] إذا هنا، هذا أتى بالصورة، لكنه لم يأت بالروح، لو جاءنا شخص يحتاج لإمساك وتعب وكده، نقول المقصود الزكاة، أن الناس تزكو، وأن المعاملات تحسُن، ولذلك ما حاجة إلي الصوم، خلوا الصوم، فإن فيه عن حاجة، المقصود من الصوم التقوى، إذا تحققت التقوى، فلا حاجة بعد ذلك، وكذلك الحج على سبيل المثال.
المقدم: ما حَجَجت ولكن حجَّت العِير.
الشيخ: هذا يعني – كما ذكرت – يمكن أن نُجريَه في كل التشريعات والعبادات؛ لأنه عندما نسلُب هذه العبادات من مقاصدها وغاياتها فإننا لا نصيب المقصود الشرعي، ولا نأتي بالعبادة، قد تَبْرَأ الذِّمة بإخراج ما يجب، أو بفعل ما يجب، لكننا لا نحصِّل المقاصد الشرعية، ولا ندرِك الأجور المرتبة على تلك العبادات؛ لأنها عبادات خالية عن مقاصدها
المقدم:إذًا نحن يا شيخ خالد بين نقيضين، يعني بين إفراط وتفريط، بين غلوٍّ وتقصير، هذا الجانب يجب التنبُّه له؛ لأن هذه الشريعة أيضا شريعة وَسَطية، جاءت بالوسطية، وأمرنا الله – سبحانه وتعالى – أن نتوسَّط في جميع أمورنا، لكن قبل أن أدخل في النقطة الثانية شيخ خالد فقط أذكِّر المستمعين من أراد أن يتواصل معنا في هذه الحلقة من برنامج "الدين والحياة"، الأرقام التي يمكن من خلالها أن يتواصلوا معنا في هذه الحلقة، الرقم الأول0126477117، وأيضا الرقم الثاني6493028، مفتاح المنطقة012، عندما نتحدث عن هذا الجانب، أيضا ربما يأتي جانب مهم،ألا وهو الحديث عن خصائص هذه الشريعة، ومنها يعني خصائص كثيرة، منها مثلا المُرونة، وأن هذه الشريعة مثلا يعني تتغير فيها الأحكام تبعًا لِتغيُّر الأمكنة والبلدان، وغير ذلك من الخصائص التي تتميز بها هذه الشريعة، لعلنا نتحدث أو نتطرق إلى هذا الجانب، ولو بشيء من الإيجاز.
الشيخ:فيما يتعلق من حيث أحكامها، يعني ينبغي أن ندرك أن هذه الشريعة بناؤها في غاية الإحكام، وفي غاية الإتقان، فهو شرع الحكيم الخبير -جل في علاه-، عندما نتكلم عن الشريعة، يعني نتكلم عن كلام رب العالمين، لا عن آراء الفقهاء، أو اجتهادات المجتهدين في مسائل قد تتباين فيها آراؤهم، وتختلف فيها اجتهاداتهم، يعني من الناس من يَخلِط بين اجتهاد المجتهد، وبين الشريعة، صحيح أن اجتهاد المجتهد هو طريق للوصول إلى فهم الشريعة، وما يقوله العلماء هو تفويض للشريعة، لكن يبقى هو جهد بشريٌّ في جوانب قد يعتَريها الخطأ أو الصواب، ولذلك قال النبي – صلى الله عليه وسلم – فيم رواه البخاري ومسلم:«إذا اجْتَهَد الحاكِم فَأَصَاب فله أَجْرَان، وإذا اجتهد فَأَخطأ فله أَجْرٌ»[صحيح البخاري:5352، مسلم:1716/15]، أجر الاجتهاد دون أجر الإصابة، وفي الأول أجر الاجتهاد والإصابة.

عندما نتكلم عن الشريعة، فيما يتصل بالجانب الذي أشرت إليه، وهو أنه يعني نحن ننظر إلى الشريعة كأصل يُصلح معاش الناس، هذه النظرة أكيد أنها ستحمِلُنا على الاعتناء بالمعاني والمقاصد لهذه الشريعة، هناك أصول في هذه الشريعة، وهناك مقاصد في هذه الشريعة، أشرت إلى تفاصيل مقاصد الشريعة الكلية التي تكلم عنها الفقهاء، لكن هناك قبل هذا أن الشريعة جاءت لكسر النفوس عن الطغيان، لكسر النفوس عن الخروج عن الصراط المستقيم، جاءت الشريعة لتحقيق العبودية بعبارة واضحة، لأن يكون الناس عبادا لله – عز وجل – هذه المعاني، أو هذا المعنى الأساس في الشريعة، يجعلنا نُدرك أن المقصود والمطلوب من العبد مهما تنوَّعت صوره، ومهما تنوعت أنماطه، ومهما اختلفت مظاهره، هو أن يكون عبدا لله – عز وجل – في كل لحظة، في كل عمل، في كل قضية، وليس هذا في مُفردات، بل في كليات حياته، وإنما حتى في تفاصيل وجزئيات حياته أن يكون عبدا لله – عز وجل – أن يستشعر معنى العبودية، ولذلك كان المؤمن يعني لا تزيده حياتُه إلا خيرا؛ لأن كل لحظة في حياته هي تقربه إلى الله، هي مَركَب له إلى الوصول إلى الله – عز وجل – هي وسيلة للتزود من الخيرات، كما قال الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] كل لحظة، وإذا أدركنا هذا المعنى عرفنا أن العبادة ليست جزئية تفعل في مسجد أو مفردة يقوم بها الإنسان في حيِّزٍ زمني، ثم بعد ذلك ينفَكُّ عن التعبد، لا، أنا وأنت والجميع عبيد لله – عز وجل – في كل لحظة، مع كل نبض عِرق، ومع كل تردُّد نفس، ومع كل تقليب لحظ، نحن عباد لله – عزَّ وجل – ومتى ما استشعرنا هذا المعنى، متى ما امتلأت قلوبنا بهذا المَلحظ، أنه نحن عباد لله – عز وجل – فهذا سيجني علينا من الأجور، ما ليس لنا على بال، وسيفتح الله لنا من أبواب الخيرات ما ليس لنا على بال، حتى نحقِّق ونبلغ تلك الغاية السامية التي بَلغ إليها مَن بلغ ممن فتح الله تعالى عليهم ووفقهم من عباد الله الصالحين، إننا نحتسب المباحات في سياق تحقيق العبودية لله – عز وجل – كما جاء عن معاذ:" إني لأحتسب نومَتي، كما أحتسب قَومَتي" [صحيح البخاري:4341]يعني لا يفرق في التعبد لله – عز وجل – وكسب الأجور، وتحصيل الدرجات بين نوم ويقظة؛ لأنه حتى في نومه، هو يحتسب ذلك لله – عز وجل – فيعني، وأنا أضرب مثالًا الآن، بعض التجار يدخل عليه في الثانية الواحدة كذا وكذا من المال، فالعداد ماشي في كسب الأموال، تجد أنه عندما يذكر هذا للناس، وتنشره الصحف، ويتكلم عنه المتكلمون، يكون محلَّ إيش؟ إعجاب، واندهاش، وكيف هذا كل لحظة، كل ثانية يدخل عليه يعني مبلغ، نعم هذا في الكسب الدنيوي، نحن نستطيع أن نحقِّق ذلك إذا استشعرنا حتى بالكسب الأُخروي، فتكون كل ثانية سببًا لرفعتنا، كل ثانية سببًا لقربنا إلى الله – عز وجل – وهذا لا يلزم أنه نحن ننقطع في مسجد، بل حتى الصانع في مصنعه، والعامل في وَرشته، والموظف في مكتبه، والمدير في إدارته، والمرأة في بيتها، وفي رعايتها لأولادها، والأب في القيام على أولاده، ورعايته لهم، وتفقُّده لشؤونهم، وهلمَّ جرًّا، جميعنا نستطيع أن نَبلُغَ هذه الغاية، ونحقق هذا السبق العظيم، تحقيق العبودية لله – عز وجل – بأن نغتنم ثوانينا، لحظاتِنا، تردُّدَ أنفاسنا في تحقيق العبودية لله – عز وجل – بهذا نخرج عن حصر العبادة في جانب، أو قصرها في صورة، أو أنه العبادة عندي فقط هي التي تكون في المسجد، أو تكون أثناء استقبالي للقبلة، وقراءة القرآن، بل كل حياتي عبادة لله – عز وجل – { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: 162ـ163]
المقدم:يا شيخ يعني هذا يدل أيضا عندما استطردنا في الحديث عن خصائص هذه الشريعة، وأهمية الحديث عن روح الشريعة، هناك الكثير من الخصائص التي يمكن أن نعرِّج عليها في حديثنا هذا، ألا وهو أن الشريعة هي عالمية، وكذلك أيضا تهتمُّ بكل زمان ومكان، وليست فقط مقصورة على زمان معين دون آخر، أو بمكان معين دون آخر، الشريعة أيضا أشمل وأوسع مما يتخيَّلُه البعض أو يتصوره، عندما مثلا البعض ممن يعني يكتبون في بعض الوسائل أو غير ذلك ممن يعني يقزِّمون من هذه الشريعة، أو يتنقصون منها، أو يتناولونها بشيء من السوء، هنا يجب أن ينبري المتخصِّصون في العلم الشرعي، ليوضِّحوا مدى عظمة هذه الشريعة، وعالميتها، والخصائص الكبيرة والكثيرة التي تحويها، أو تتميز بها هذه الشريعة، حبَّذا لو نتكلم حول هذا الجانب، خصوصا وأن الوسائل باتت كثيرةً ومتعددةً، ولم تعُد تقتصر على الوسائل التقليدية، بل تتجاوز هذا الأمر إلى الوسائل الحديثة.
الشيخ:أخي عبد الله! يعني كل من عمِيَت بصيرته، كل من عمِيَ بصره لا يستطيع أن يرى الشمس، لكن هذا لا يمكن أن يكون دليلًا على أن الشمس لم تظهر في رابعة النهار، فالذين يتطاولون على الشريعة، أو يتنقصونها، أو يتناولون بعض أحكامها بنوع من التنقص، أو بنوع من النقد حقيقة أمرهم أن الله حال بينهم وبين رؤية ما في هذه الشريعة من الحق، إما لجهلِهم، وعدم علمهم، وإما لسوء قصدهم، فلو سَلِمت مقاصدهم وحسنت نواياهم في قصد الحق وإرادته وإدراك حقيقة هذه الشريعة، ومعرفة ما فيها من أنوار، ما ملكوا إلا أن يستدلُّوا بإتقان الشريعة، وعظمتها على عظمة رب العالمين، لذلك القرآن نفسه هو حجة، ولذلك لما طلب المشركون من النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يأتيهم بآية، قال الله – تعالى – { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ }[العنكبوت: 51] فجعل الله  تعالى  إنزال الكتاب، إنزال القرآن، بما فيه من الأسرار والحكم والغايات والأحكام، بما فيه من الأنوار والهدايات، كافيا في إثبات صحة رسالة النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ولذلك كل من تطاول على الشريعة، كل من تنقَّص هذه الشريعة ترجع إلى قضيتين:

القضية الأولى: سلامة قصدك، وهل أنت فعلا تريد الحق وتريد الهدى؟

الثاني: هذه الشريعة، وما فيها من الأحكام، ما فيها من الهدى، وما فيها من النور، فإن هذا الكتاب، هذه الشريعة لا يمكن أن يطالعها أحد بإنصاف وتجرُّد، إلا ويوقن يقينا لا ريب فيه أنها من رب العالمين، يقول الله تعالى:{ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ } [العنكبوت: 50] فليست مهمة الرسول: أن يأتي بآية، أن يأتي ببرهان، أن يأتي بمعجزة خارقة، هذا إذا أمدَّه الله بها، فذاك فضله وإحسانه على الرسول، وعلى البشرية لأنهم يؤمنون بتلك الرسالات، يعني يظهر لهم صدقه، فيؤمن من يؤمن ممن شَرَح الله صدره، ثم يقول – جل وعلا – { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } [العنكبوت:51] هذا الكتاب الذي يُتلى الآن منذ أربعة عشر قرنا، أعظم آيات النبي – صلى الله عليه وسلم – الدالة على، ليس على صدقه فقط في رسالته، بل على كمال المرسل بهذه الرسالة، كمال المتكلِّم بهذا الكلام الذي{ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [ فصلت: 42] ولذلك كل من يتطاول على أحكام الشريعة ويتنقصونها هم إما أنهم يعني يجهلون ما في هذه الشريعة من أنوار وهدايات، وإما أن يكون قد انطمست بصائرهم لسوء قصدهم فلا يرون الحق، ولذلك يعيبونه، وعيبُهم للحق لا يُضعِفه، ولا يُهينه، يعني عَيبهم هم يكشف ضعفًا في عقولهم وضعفًا في مقاصدهم وإراداتهم، أقول لكل من يعني تطاول على الشريعة: أَمهِل نفسك وفكِّر أنك تتطاول عن شريعة أحكم الحاكمين، أنك تتنقص دينَ ربِّ العالمين، لم يطرق البشرية، ولم يأت إلى الدنيا شرعٌ أكمل من هذا الشرع، لم يأت دين أكمل من هذا الدين في تحقيق المصالح، وعظيم التوازن، وهذه مسألة أيضا مهمة، ومن سمات الشريعة، تحقيق التوازن بين الدنيا والآخرة، بين كل مطالب الإنسان، ما يتعلق بعمارة الأرض، وما يتعلق بتحقيق عمارة الآخرة، يعني هذه الشريعة على نحوٍ من الوزن والإتقان والهداية، يجمع للإنسان إذا التزمه وحقَّق مقاصده خير الدنيا والآخرة، يعني عالميةَ الشريعة، بالتأكيد أن هذه الشريعة، يعني رسالة للبشرية كافَّة، وهذا من سمات عالميتها أنها لا تخاطب العرب، لا تخاطب فئة من الناس، بل تخاطب الناس جميعا، بل تخاطب الإنس والجن، لذلك قال الله  تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }[الأنبياء: 107] وأول خطاب، أول نداء في القرآن العظيم لم يكن للعرب، ولم يكن لفئة من الناس، بل كان نداء للناس كافة:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 21] فعالمية هذه الشريعة، صلاحيتها طبعا، يقول قائل: طيب، هل يمكن أن تكون الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، على اختلاف أحوال الناس؟ نعم، هذه الشريعة جاءت يا أخي الكريم! في جانب العبادات بما لا يختلف زمانًا ولا مكانا، فالصوم يكون في كل زمان ومكان، الصلاة في كل زمان ومكان، الزكاة في كل زمان ومكان، الحج يكون للمستطيع، على وِفق ترتيب، وشروط، وقواعد، تتناسب مع كل إنسان على حسب حاله:«صلِّ قائِمًا، فإن لم تستطع فقاعِدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْب»[صحيح البخاري:1117] فجاءت الشريعة بما يحقق هذه العبادات التي هي حقوق في الأصل بين العبد وربه، وقد يكون لها تعلق بالناس على وجه لا يختلف زمانا ولا مكانا.
فيما يتعلق بمعاملات الناس، جاءت الشريعة بذكر قواعد وأصول وضوابط وكليات يندرج تحتها ويتسق فيها ينساق تحتها، أو يساق تحتها شيء كثير مما يتعلق بحياة الناس، مثلا على سبيل المثال فيما يتعلق بعلاقة الرجل بالمرأة، الله تعالى يقول {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] الرجل مع زوجته، ما هي تفاصيل، بعد الأمر بالإحسان، والأمر بالوفاء بالشروط والعقود، وأداء الحقوق، ثمة تفاصيل لم تأت الشريعة بتفاصيلها، مثلا: فيما يتعلق بالنوم، هل ينامان في مكان واحد؟ أو يناما في مكانين؟ من الناس من تنام المرأة في مكان، والرجل في مكان، في بعض الأعراف، في بعض البيئات، وإن كان هذا خلاف المعتاد، لكن لما تيجي امرأة تقول: أنا زوجي ما ينام عندي، تمام، ترفض أن ينام عندها في الغرفة، هل هذا يجوز؟ نقول: إيش المعروف؟ ما هو السلم الجاري؟، هل هناك مرض أو نحوه؟، إذا لم يكن هناك أي مُوجب للخروج عن المألوف هو أن تكون المرأة فراشا للرجل، ويكون الرجل فراشا للمرأة{ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] والله – عز وجل – يقول: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] فنرجع إلى المعروف المعتاد الذي جرت به العادة فيما يتعلق بهذه الجزئية، هذا التفصيل، وهذه القضية فيما يتعلق بالعلاقات الزوجية، إذا الشريعة ليست، لم تأت لتحكم الناس بما كانت عليه قريش، أو بما كان عليه العُرف الجاري في المدينة النبوية، إنما جاءت لتحكم الناس بما يُصلحهم، في كل زمان، وفي كل مكان، وفق ما يحقق المصالح، ويحقق صلاح الناس.
المقدم:شيخ خالد أيضا نأت إلى مسألة مهمة جدا عندما نتحدث عن الشريعة، ومن أهم مصادر الشريعة القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، هنا يأتي جانب مهم، ألا وهو: أن الذين يحاولون ضرب النصوص الواردة في القرآن الكريم، والنصوص في السنة النبوية بالقرآن الكريم، ويعني يحاولون قدر الإمكان، أو قدر جهدهم أن يوجدوا نوعًا من التناقض الذي هو تناقض في الأساس في عقولهم وأهوائهم التي أَمْلَت عليهم مثل هذه البحوث، التي لا تجدي، ولا تُسْمِن، ولا تغني من جوع، لكنها أهواء شيطانية يحبُّون من خلالها أن يشكِّكوا الناس، ويزعزعوا ثقتهم، وإيمانهم بهذه الشريعة الإسلامية المحكمة، نتحدث عن هذا الجانب، وكذلك أيضا تحكيم العقل، والأهواء في هذا الجانب.
الشيخ:هو هذا الموضوع يا أخي الكريم! حري بأن يعني يكون في لقاء مستقلٍّ، الكلام عن، مظاهر الإيرادات التي يعني موقف الشريعة من العقل، وما قد يُدَّعى من أنه هذا الحكم يخالف هذه الآية، هذه الآية تعارض هذه الآية، هذا الحديث يعارض هذا الحديث، هذه الآية أو هذا الحكم لا يتماشى مع العقل، فالجدير أن نُفرده بقضية مستقلة، لكن على وجه – بما أنك طرحت هذه القضية – على وجه الإجمال، لا يمكن أن يكون ثمة في الشريعة تعارُض تصادم، بمعنى أن يأتي نص، ويأت نص آخر بما يعارضه، ويصادمه، الله – جل وعلا – يقول في كتابه الحكيم:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} [فصلت: 41] ثم يقول{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41] هذا القرآن كتاب عزيز، ومعنى عزيز أنه بلغ في العلو، والذروة، والامتناع عن أن ينال منه أعداؤه ما يؤملونه من التنقص والعيب مبلغا لا يبلغه كتاب، فهو عزيز، يمتنع عن أن يصل إليه خصومه وأعداؤه بما ينقصه، ثم يقول – جل وعلا – { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] ويقول في آية أخرى:{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فالقرآن لا يمكن أن يوجد فيه ما هو تضارُب وتعارض لكن الإشكالية هو ما أشارت إليه هذه الآية الأخرى، الآية الأخيرة التي فيها قوله تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء: 82] هذه الآية افتتحها الله – تعالى – بذكر عتاب لأولئك المُعرضين عن القرآن، وعن فهمه، والوقوف عند آياته، وتأمُّل معانيه، قال:{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] بعد ذكر ما كان يفعله المنافقون؛ لأن المنافقين يعني تغيب عنهم آثار الشريعة، مقاصد الشريعة، روح الشريعة، وبالتالي هم يأتون بها صورة لا معنى، يأتون بها مظهرًا لا مخبرًا، يأتون بها ظواهر لا ضمائر، وبالتالي تغيب عنهم المقاصد، فهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وثمة بَونٌ شاسع بين المظهر وبين المخبر، فلما عطلوا بواطنهم عن الإيمان بالله – عز وجل – تعطلت فهومهم عن إدراك مقاصد الشريعة، عن إدراك معاني كلام الله – عز وجل – فكان ما ذكره الله – عز وجل – من أوصافهم وأعمالهم، ونبَّه هنا إلى أن مُشكلتَهم أنهم لا يتدبرون القرآن، وبالتالي أقول: من المهم لكل من أراد أن يوقِن أن هذا الكتاب سالم من المعارضة، أن يعمل التدبر:{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء: 82] ما يكون من تعارض أو ما يكون من توهم تعارض، إنما هو في الأفهام، ويطلب جوابه من كلام الله وكلام ورسوله، وسيجد في كلام الله وكلام رسوله بيان تلك الإشكالات، والخروج عن تلك الآفات التي تُفضي إلى الانحراف، وأريد فقط أخي عبد الله: دقيقة إذا ما سمحت قبل ما ننتهي فيما يتعلق بالتنبيه على روح الشريعة، متى ما أردت أعطني إياها لو سمحت.
المقدم:
طيب عندما نتحدث عن هذا الجانب، أيضا أذكر هنا مقولة رائعة للإمام ابن قيم الجوزية عندما ذكر أن الشريعة هي مبناها وأساسها على حِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، يقول:" أنها يعني هي عدل كلها، رحمة ومصالح، وحكمة أيضا يقول: يعني" كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه"[إعلام الموقعين:3/11] لعل في هذا ملمحا مهما ننبه، أو نذكره في هذا الجانب.
الشيخ:
صحيح، بالتأكيد، يا أخي لا يمكن أن تنفذ بصيرة أحد، وتأمل هذه الشريعة إلا ويصل إلى حقيقة أن هذا من عند الله{ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] إلا وتقر نفسه بهذه الشريعة، وما فيها من أحكام، تطمئن، يطمئن قلبه، بأنه على هدى وبصيرة، لكن كما قال الله – جل وعلا – {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]الدقيقة التي أردت إن تمكنت، إن سمحت لي.
المقدم: تفضل يا شيخ.
الشيخ: نحن في بداية حديثنا تكلمنا عن المظاهر والحقائق، وأنه كثير من الناس قد يعتني بالمظاهر، فيغرق، وبعض الناس في الجانب الآخر قد يقول: أهم شيء المخابر والحقائق التي في القلوب، ولا يهمك، يعني فيقول: التقوى ها هنا، ويشير إلى القلب، ثم لا تجد أثر هذه التقوى في سلوكه وعمله، كلا الطريقين منحرف، ذاك الذي يهتم بالمظهر وغفل عن المعنى، وذلك الذي قال: المهم هو القلوب، وما عدا ذلك ليس مهمًّا، كلاهما سلك طريقا بعيدًا عن الصواب، أنا أقول في عباداتنا يا إخواني ويا أخواتي، في كل ما نأتيه، وأضرب مثالًا بالذكر مثلا أو بالعبادة، يعني نحن مثلا الآن نصلي، ما نبدأ تحقيق صلاتنا للغرض والمقصود، عندما نذكر الله – عز وجل – هل نتدبر ونعي معاني تلك الأذكار، يعني النبي – صلى الله عليه وسلم يقول: «من قال: سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة، غُفرت خطاياه وإن كانت مِثلَ زَبَدِ البحر»[صحيح البخاري:6405] هذا الأجر العظيم على، هل تظنون أنه لمجرد أن تتحرك الشفتان بكلمات: سبحان الله! سبحان الله العظيم! سبحان الله! سبحان الله العظيم! أو إمرار اليد على السبحة، إن كان يستعمل سبحة، أو عقب الأصابع للعدِّ فقط، لا والله، لن يكون هذا إلا إذا كان ذلك النطق موافقا لما في القلب من إجلال الله وتعظيمه، كذلك في كلِّ العبادات، يا أخي فتش عن أثرها في قلبك، حتى تُدرك مقصود الشريعة، حتى تدرك روح الشريعة، حتى تصل إلى الغايات المطلوبة من تلك العبادات.
 
الصلاة: مقصودها النهي عن الفحشاء والمنكر، وذكر الله، لذلك قال:{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45]
الزكاة: مقصودها تَطهير النفوس، وتزكيتُها، وتطييب الأموال مما يمكن أن يعلق بها.
الصوم: مقصوده تحقيق التقوى.
الحج: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]
هذه الأصول التي تبنى عليها الديانة، فإذا كانت هذه المقاصد، الشريعة في أصولها، فثق تمامًا أن بقية الأحكام هي لتحقيق هذا المعنى.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم من عباده المتقين، وحزبه المفلحين، وأوليائه الصالحين.
المقدم:اللهم آمين، شكر الله لكم صاحب الفضيلة الشيخ، الأستاذ الدكتور: خالد بن عبد الله المصلح، أستاذ الفقه في كلية الشريعة بجامعة القصيم، والمشرف العام على فرع الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء بمنطقة القصيم، على ما تحدثتم فيه من حديث شيق وماتع، وأفضتم في هذا الحديث الذي نتمنَّى من الله – سبحانه وتعالى – أن يجعل كل ما ذكرتموه في هذه الحلقة في موازين أعمالكم الصالحة، وأن يجزيكم خير الجزاء، وأن ينفع بعلمكم الإسلام والمسلمين.
الشيخ: آمين، وإياكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله، وبركاته، ولكم الشكر الجزيل مستمعينا الكرام على حسن استماعكم لنا في هذه الحلقة على أمل أن نلقاكم بإذنه – سبحانه وتعالى – في حلقة الأسبوع القادم من يوم الأحد في تمام الساعة الثانية ظهرا، حتى ذلكم الحين، تقبَّلوا تحياتي محدثكم: عبد الله الداني، والتنسيق واستقبال الكلمات الزميل: خالد فلاتة، ومن الهندسة الإذاعية والتنفيذ على الهواء الزميل: محمد بو صيلح، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الاكثر مشاهدة

3. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات91358 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات87198 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف