الحلقة العاشرة: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [الأنبياء: 49]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، مرحبًا وأهلًا وسهلًا بكم أيها الإخوة والأخوات في هذه الحلقة الجديدة من برنامجكم: "عباد الرحمن".
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمدُه حقَّ حمده، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسوله، صفيهُ وخليله، صلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه، أمَّا بعد:
فإنَّ أتقى الناسِ لربه وأخشاهم له هو مُحمد بن عبد الله ـ صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم ـ وذاكَ لأنهُ أعلمُ الخلقِ بالله، ولهذا لَمَّا جاءَ نفرٌ يسألونَ عن عبادةِ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما هو عليه في قربته وطاعته لله ـ عز وجل ـ فوُصِفَ لهم ما كانَ عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من عمل، وقد طمحت نفوسهم إلى المزيد، فلمَّا رأوا أنَّ عملَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دون ما كانوا يُؤَمِّلون أو يتوقعون أو يرجون، قال أحدهم: إني أصوم ولا أفطر، وقال الآخرُ: أقومُ ولا أنام، وقال الثالث: لا أتزوجُ النساء، فقال النبيُ ـ صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم ـ في تعليقه على هذه المقولة من هؤلاء: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا» سنن النسائي(3217)، حكم الألباني: صحيح ثم بيَّن ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنهُ قد أتى على أكملِ هديٍ: «وَأَنَّهُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» صحيح البخاري(5063) فقد خرج عن الهدى، والتُّقى، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ» وفي رواية: «وَأَخْشَاكُمْ لَهُ» صحيح مسلم (1108) فأخبرَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن عظيم علمِه بالله الذي أثمرَ التقوى والخشية؛ ولذلك كُلما كَمُلَ إيمانُ العبدِ بالله، وهو أعظمُ غيبٍ يؤمن بهِ الإنسان، ويسكنُ القلب الإقرارُ بهِ، كُلما عَظُم إيمان الإنسان بالله ـ عز وجل ـ فإنهُ يُحقق تمام الخشيةِ لهُ؛ ولهذا كان السبق في معاملة الله ـ عز وجل ـ هو في تحقيق الخشية بالغيب، فأنتَ عندما تقوم بما أمرَكَ اللهُ ـ تعالى ـ به، وتنتهي عمَّا نهاكَ عنه، تقومُ بذلك إيمانًا بالله، الذي يراك، ويسمُعك، ويراقبُ ما كانَ منك، ويحصي عليكَ عملك، وأنهُ الذي سيُجازيك فأنت تُؤمن بشهودِ اللهِ لك، مع أنكَ لا تراه ـ جلَّ في علاه ـ وتُؤمن بأنَّ اللهَ ـ تعالى ـ يرقُبُ قولك وأنتَ لا تراه، لكنَّ إيمانكَ به ويقينكَ بأنهُ ـ جلّ في علاه ـ مُحيطٌ بما يكونُ منك، بصيرٌ بعملك، سميعٌ لقولك، فإنهُ يحمِلُكَ على المسابقة في طاعة الله، فتكونُ بذلكَ من المؤمنين، تكونُ بذلكَ من عباد الرحمن، فإنَّ من أوصافهم: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49]، هذا كمال الإيمان بالغيب أن تؤمن بالله الذي لا تُدركُهُ حواسك، ولا تُحيطُ بهِ قُدُراتك، وتؤمن بما أخبرت به الرسل، مما يكونُ في الآخرة، وليسَ إيمانًا باردًا لا أثر له، بل إيمان يقين، ولذلك قال ـ جلَّ في علاه ـ: {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49]؛ أي: عَظُمَ خوفُهم ورَهْبَتُهم من الساعة، ليقينهم بأنَّ اللهَ ـ جلَّ وعلا ـ سيُحاسِبُهم، وإنما أخبرت بهِ الرسل مما يكونُ في الآخرة حقٌّ على حقيقته، وإن لم نشهدهُ وإن لم نُدركه؛ لهذا يتمايز المؤمن، أرأيتم عندما تتسهل لكم معصية من المعاصي، ثم ينكف منها المؤمنُ خوفًا من الله ـ جلَّ وعلا ـ ورغبةً فيما عنده، يبلُغ منزلة عُليا ومرتبة سامية، يكونُ بها في أعلى درجات عباد الرحمن، ذاكَ الرجل الذي أخبر النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن سبعة يظلُّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، منهم: «رَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ» صحيح البخاري(6806)، ومسلم(1031) ، فتوافر فيها وصفان يحملان على الإقدام، الأول: الجمال وهو فتنة، والثاني: الأمان الناشئ عن المنصب الذي سيحميه، لكنَّهُ امتنع من ذلك، لا لخوفِ أمرٍ حاضر، إنما خافَ الله، فقال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 28] هذا الخوف كفَّهُ، ومنعه من معصية الله ـ عز وجل ـ فبلَّغهُ هذه المنزلة أنهُ من السبعة الذين يُظلُّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، أرأيتم ذلكَ الرجل الذي انقطعَ عنهُ نظُرُ الناس، فلا يخشى إلا الله، ولا يرقب من الناس مدحًا، ولا ثناءً، قامَ يرجو ما عندَ الله بذكره، وشكره، وتحقيق الطاعةِ له، هذا بلغَ منزلة عالية، فقد خشيَ الله بالغيب، وامتثل أمره في حال خلوة، فبلَّغهُ اللهُ منزلة ذكرها في السبعة الذين يُظلُّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا» ليسَ عندهُ أحد، ولا عندهُ أحدٌ يُتابعه، ولا فيه أحد يُشاهِد ما يكون من انفعالاته واستجابته لعظمة الله بتلك الدموع، التي تقاطرت على خديه: «ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» صحيح البخاري(1423)، ومسلم (1031) ذكرَ عظمته، ذكرَ جلاله، ذكرَ مُلكَه، ذكرَ عظيمَ صُنعه، ذكرَ إحسانهُ وفضله، ذكرَ ما منَّ بهِ عليه من هدايةِ قلبه؛ «ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا» ليسَ عندهُ أحد، لكنَّهُ لن يطمع بذلك إلا رضاه: «فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» فبلَّغهُ الله منزلة عالية، إنهُ الإيمان بالغيب، إنهُ الإيمان بالله في الخلوات.
إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيْبُ
في الطاعة وفي المعصية؛ ففي الطاعة تبلُغ المنزلة العالية، وفي المعصية إذا تركتها تبلُغ المنزلة العالية الرفيعة، بأن تكونَ من أولئك الذين قال اللهُ ـ تعالى ـ فيهم: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49]، وقد ابتلى اللهُ تعالى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بتيسُّر شيء من المعاصي، المخالفات لهم؛ ليختبِرهم فيما يتعلَّق بإيمانهم، قال اللهُ ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} [المائدة: 94] سهَّل أن تنالوه، وهو صيد محرَّم، حرَّمهُ اللهُ ـ تعالى ـ على أهل الإيمان: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] ليس فيهِ عناء، ولا مشقة، لا فيهِ ركضٌ، وملاحَق، وما إلى ذلكَ مما يكون في سبيل المحافظة، أو القبض على هذا الصيد، {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} [المائدة: 94] بالمس، بيدِكَ تُمسِكهُ، {وَرِمَاحُكُمْ} الرمح مداهُ قصير، ليس كالسهم، أو غير ذلكَ من وسائل الصيد، {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94]، إنَّ الخوفَ بالغيبِ يفتحُ أبواب البر والطاعة والإحسان، إنَّ الخوفَ بالغيبِ يحملُ على الانتفاعِ بالقرآن؛ لذلكَ يقولُ اللهُ ـ تعالى ـ: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11]، وإذا حقق المؤمن ذلك فاز بالأجرِ العظيم؛ ولذلك يقول: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [يس: 11]، ما ثمرة هذه الخشية؟ ما ثمرة هذا الإتباع؟ {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11]، إنهُ عطاءٌ جزيل من الله ـ عز وجل ـ على عمل يسير؛ لذلكَ لنُفعِّل هذا المعنى في نفوسنا، وهو خشيةُ الله بالغيب، ليس فقط في ترك المعاصي والمنكرات، بل حتى في فعل الطاعات، فإنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبرَ عن قومٍ يجتمعون لطاعة الله ـ عز وجل ـ يذكرون الله، فتحُفُّهم الملائكة، يُسبحونه ويُكبِّرونه ويحمدونه ويُمجِّدونه، فإذا ذهبوا إلى الله عز وجل أخبروه بما كان منهم، فيقول: «هَلْ رَأَوْنِي؟» فيقولون: لا، فيقول: «فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟» لكانوا أشدَّ تسبيحًا وأعظمَ تكبيرًا وتحميدًا وتمجيدًا له سبحانهُ وبحمده، ما جزاؤهم؟ يقولُ النبيُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يخبرُ عن قول الله ـ عز وجل ـ للملائكة، فيقول: «أُشْهِدُهُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهَمْ» صحيح البخاري(6408) الإيمان بالغيب سبب للمغفرة، كما أخبرَ الله عز وجل في قوله ـ تعالى ـ: {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} [يس: 11] تحطُّ الخطايا والسيئات، {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس: 11] يبلغ السمو والعلو والمنازل الرفيعة في الجنة، حققوا يا إخواني ويا أخواتي الإيمان بالغيب، ولا تجعلوا الله عز وجل أهون الناظرين إليكم في ترك الطاعات، أو في ارتكاب المحرمات، بل حتى لو أنَّ الإنسان تورَّط في معصية، ليستحضر عظمة الله وجلالهُ وأنهُ لو شاء لقبضهُ على هذه الحال الرديئة، فتجدُهُ حتى في المعصية في قلبه خوف ووجل من ربه، ويسألُهُ العفو والعافية، وأن يتجاوزَ عنه، وأن يَصْرِفَ عنه، هذا من ثمارِ خشية الله ـ تعالى ـ بالغيب، وهو من خصال المؤمنين عباد الرحمن، عباد الله، جعلني الله وإياكم منهم.
نسألك يا الله خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضبِ والرضا، والقصدَ في الفقرِ والغنى، وارزقنا لذة النظر إلى وجهك والشوقَ إلى لقائك في غيرِ ضراء مُضرَّة، ولا فتنةٍ مُضلة. اللهم زيِّنا بزينة الإيمان واجعلنا هداةً مهتدين يا ربَّ العالمين.
إلى أن نلقاكم في حلقة قادمة من برنامجكم: "عباد الرحمن" أستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.