إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، فتقوى الله تجلب لكم الخير وتدفع عنكم الشر، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾[الطلاق:3].
أيها المؤمنون عباد الله! إن الله تعالى بعث محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، فقام -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بما أمره الله تعالى به من البلاغ المبين، وبيان ما يجب لرب العالمين، فدعا الناس إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له، وأن يقولوا لا إله إلا الله خالصة بها قلوبهم، وكان صلى الله عليه وسلم على النحو الذي ذكر الله تعالى في كتابه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبة:128]، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم في قلوب أُمَّته في أعلى درجات المحبة بعد الله تعالى، فهو أعظم المحبوبين بعد الله جل في علاه، ولذلك كان حبُّه فرضاً من فروض الإيمان، وقد قال الله في محكم البيان: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾[الأحزاب:6]، أي: أنه صلى الله عليه وسلم أولى بالمحبة، وأولى بالنصرة، وأولى بكل أمر يقدم فيه الإنسان من جنسه كلِّه، كما جاء ذلك في قوله -عز وجل-: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾[الأحزاب:6]، أي: أولى بهم من جِنْسهم، فهو أعظم محبوبٍ للمؤمن من الخلق كلهم.
وقد جاء بيان ذلك في السنة في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من وَلَده ووالِدِه والناسِ الجمعين».[صحيح البخاري:ح15]، وهذا هو أحد معنيي الآية، أي: أنه -صلى الله عليه وسلم- في الحب مقدَّم على جمع الخلق، على الوالد والولد وعلى الناس أجمعين، ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾[الأحزاب:6] أي: من جنسهم والدٍ وولدٍ، والناس أجمعين.
والأمر أكثر من هذا، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحبِّ مقدَّم على محبة النفس، فقد جاء في الصحيح من حديث عبد لله بن هشام أنه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه فقال عمر الفاروق: يا رسول الله، لَأَنت أحبُّ إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفس بيده، حتى أكونَ أحبَّ إليك من نفسك، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله لأنت أحب إلي من نفسي يا رسول الله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: الآن يا عمر»[صحيح البخاري:ح6632].
هكذا تبلغ المحبةُ ذروتَها وأعلاها، فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، أي: أن حبَّه مقدَّم على حب الإنسان نفسه، وهذا يبين عظيم قدر محبة النبي صلى الله عليه وسلم وعلوَّ منزلتها، فحبه أصل من أصول الإيمان، ولا يتم إيمان أحد إلا به، فقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[التوبة:24]. هكذا عدَّد الله المحبوبات: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا﴾[التوبة:24]، ولا يوجد شيءٌ يُحبُّ بعد هذه الثمانية، فهذه هي التي تأخذ قلوبَ الخلق، فإن كانت محبة هذه الأمور مقدمةً على محبة الله ورسوله فاسمع إلى ما ذكره الله تعالى: ﴿أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾[التوبة:24]، إن هذه الآية من آكد النصوص القرآنية التي تحثُّ المؤمنين على تقديم محبة الله ورسوله على محبة كلِّ محبوب.
إن حبَّ النبي صلى الله عليه وسلم به يكمل الإيمان، ويستقيم ويذوق به المؤمن حلاوةَ الإيمان، فقد جاء في الصحيحين من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث من كُنَّ فيه وَجَد بهنَّ حلاوة الإيمان»، ثم عدَّدها صلى الله عليه وسلم فقال: «أن يكون اللهُ ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ الرجلَ لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار»[صحيح البخاري:ح21، وصحيح مسلم:ح43/67]، فإنه صلى الله عليه وسلم أعلى المحبوبات من الخلق، كيف لا وهو النبي صلى الله عليه وسلم الذي أنقذنا الله تعالى به من النار، فإن الله أخرجنا به من الظلمات إلى النور، كما قال في محكم البيان: ﴿رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾[الطلاق:11]، هكذا يبيِّن اللهُ تعالى سبباً من أسباب محبته، وهو أنه صلى الله عليه وسلم الذي أخرج الله تعالى به قلوبنا من الظلمة إلى النور.
إن البرية يوم مبعث أحمدٍ
نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان يوم اختارمن
خير البرية نجمها وهلالها
صلى عليه وعلى آله وسلم.
إن حب النبي صلى الله عليه وسلم فرض على كل مؤمن ؛ لأنه لم يترك خيراً إلا دلك عليه، ولا شرًّا إلا حذرك منه، فما من خير إلا بيِّنه لك غاية البيان، ولا شرٍّ إلا حذَّرك منه غاية التحذير.
فيا معشر الأحباب! إن نبينا إلى فوزنا داعٍ وساعٍ... ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾[المائدة:3].
روى مسلم في صحيحه من حديث سلمان رضي الله عنه قال: «قال لنا المشركون: قد علَّمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخِراءة» يعني: حتى كيف يقضى الإنسان حاجته، «فقال سلمان: أجل، لقد نهانا أن نستقبِلَ القبلة بغائطٍ أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجيَ برجيع أو عظم»[صحيح مسلم:ح262/57]، هكذا كانت هدايته، وهكذا كانت دلالته إلى الخير شاملةً كلَّ أمر خاصٍّ أو عام.
فهو أحب شيء إلى قلوب المؤمنين، ولا عجب ولا غرابة، فهو الرحمة المهداة، أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، يقول الله -جل في علاه-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء:107]، فهو رحمة لجميع الخلق، مؤمنهم وكافرهم.
يقول ابن عباس رضي الله عنه: "من آمن بالله واليوم الآخر كُتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله، عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف.[تفسير الطبري:18/552]
فهو صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمنين وللكافرين.
إن حب النبي صلى الله عليه وسلم أعظم ما يجب حبُّه من الخلق، فلا حب مقدم على حبه من بني آدم، بل من الخلق جميعاً، فقد قال ربك في وصف خصاله: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم:4]، فجمع الله له محاسنَ الخصال وطيب الخلال.
أبى الله إلا رفعه وعلوه
وليس لما يعليه ذو العرش واضع
فقد رفعه الله فكيف يضعه غيره؟! تختصر خِلالَه وصفاتِه قبل أن يمنَّ الله عليه بالرسالة فتقول رضي الله عنها:" كلا والله، لا يخزيك الله، إنك لَتَصل الرحم، وتحمِلُ الكَلَّ، وتُكسِب المعدوم، وتُقري الضيفَ، وتعين على نوائب الدهر".[صحيح البخاري:ح3]
حاز السيادةَ والكمالَ محمدٌ***فإليه أشتاتُ المحامد تُنسَبُ
وليس فوق قول لله قول: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾[القلم:4]، كيف لا نحبُّه صلى الله عليه وسلم وهو أعبدُ الخلق لربِّه؟، فقد قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له»[صحيح مسلم:ح1108/74]، وقال صلى الله عليه وسلم في مقام آخر: «قد علمتم أني أتقاكم لله وأصدَقُكم وأبَرُّكم»[صحيح البخاري:7367]، فما حمَلَت من ناقة فوقَ ظهرها أبرَّ وأوفى ذمة من محمد صلى الله عليه سلم.
رسول الله كان يقوم حتى تتفطَّر قدماه، كما في الصحيحين من حديث عائشة: «كان يقوم من الليل حتى تتفطَّر قدماه. فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك و ما تأخَّر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أفلا أكون عبداً شكوراً».[صحيح البخاري:1130]
قال حسان في وصف رسول الله:
وفينا رسول الله يتلو كتابَه
إذا انشقَّ معروف من الفجرساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جَنبَه عن فراشه
إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
كيف لا يُحِبُّ مؤمن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أنه بقدر محبته لرسول لله يكون في معيته يوم العرض على الله عز وجل.
روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف تقول في رجلٍ أحبَّ قوماً ولم يلحق بهم؟» أي: قصرت أعماله عن أن يكون مثلهم، «فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: المرءُ مع مَن أحبَّ»[صحيح البخاري:ح6169]، فمن أحب رسول الله بقلب صادق كان معه صلى الله عليه وسلم.
وفي الصحيحين من حديث أنس أن رجلاً أعرابيًّا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، متى الساعة؟ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: ما أعددتَ لها؟»، وهذا هو السؤال الذي يجب أن يوجه: ما أعدت لها؟ أي شيء تجهَّزت به للقاء تلك اللحظة؟ «ما أعددتَ لها؟ فقال الرجل: حب الله ورسوله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أَحْبَبْتَ»[صحيح البخاري:ح3688] وهو معنى حديث عبد لله بن مسعود: «المرء مع من أحبَّ»[سبق]، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن أنساً رضي الله عنه قال معلقاً على هذا الحديث: «فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: فإنك مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو الله أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم».[سبق]
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم لم تقتصر على العقلاء، بل حتى على الجمادات فقد أحبَّتْه -صلى الله عليه وسلم-، فقد وقفَ على جبل أحد فقال: «أُحُدٌ جبل يحبُّنا ونحبه».[صحيح البخاري:ح4422]
وكان صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة إلى جذع يتكئ عليه قبل أن يُنصبَ له منبر، فلما انتقل -صلى الله عليه وسلم- إلى المنبر، يقول جابر بن عبد لله كما في صحيح البخاري: «فلما صُنع له المنبر وكان صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر، سمعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العِشار، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يَدَه عليه يُسكِّنه»[صحيح البخاري:ح3585] أي: يسكته كما يُسكت الطفل، حنَّ الجذع لرسول لله صلى الله عليه وسلم.
والجذع حنَّ حنينَ صبٍّ مغرمٍ
أضحى لِلَوعات الفِراق غريما
لما أُبعد عنه النبي صلى الله عليه وسلم كان منه ذلك، وهذا من آياته ومعجزاته.
اللهم إنا نسألك حُبَّك وحبَّ من يحبك، وحبَّ العمل الذي يقربنا إلى حبك.
ما صح إيمان خلا من حبه أبلا رِياشٍ يَسْتعد مُهنَّد!
اللهم ألهمنا رشدنا، وقنا شرَّ أنفسنا، وخذ بنواصينا إلى البرِّ والتقوى، واصرف عنا السوء والفحشاء.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمد الشاكرين، أحمده حقَّ حمده، لا أحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة وكلَّ بدعة ضلالة.
عباد الله! إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم أصل من أصول الإيمان، ولا يختلف في ذلك أهل الإسلام، وحبُّه في قلب كل مسلم قائم، وإن كان أهل الإيمان والإسلام يتفاوتون في محبة خير الأنام صلى الله عليه وسلم، لكنه في قلب كل مؤمن لابد أن يكون حب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإن قصر به عمله وضعف سيره؛ فإنه لا يخلو قلب مؤمن صادق من محبة النبي صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حماراً، وكان يُضحِك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فجيء به فجُلد في الشراب وكان قد شرِب الخمر فجُلد، فأتي به يوماً فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجُلد، فقال رجل من القوم: «اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به!» تكرر مجيئه فقال هذا الصحابي: «اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به!، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه» يقول صلى الله عليه وسلم: «فو الله» يقسم النبي صلى الله عليه وسلم، «فو الله ما عَلِمت إنه يحب الله ورسوله»[صحيح البخاري:6780] أي: ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله، مع كونه متلبساً بكبيرة من كبائر الذنوب، فحب النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه قلب مؤمن صادق وإن قصَّر به عمله، وإن تلكأ به سعيه؛ لكن المحبة درجات ومنازل، فأعلاها محبة أولئك الذين صدقوا في اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت ثمار الحبة منعكسة في أخلاقهم باتباع هديه صلى الله عليه وسلم والأخذ بعمله، ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾[الأحزاب:21].
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي القبولَ لكل ما جاء به، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[الحشر:7]، هكذا تكون المحبة قبولاً لكل أوامره، وطاعة له فيما أمر به صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾[النساء:80]، فمن طاعته أن لا يقبل حكمًا غيرَ حكمه، يقول الله تعالى: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[النساء:65].
إن من مقتضيات محبته أن يتابعه الإنسان في ظاهر أَمرِه وباطنه، في دقيق شأنه وجليه، وأن يحرص أن يكون كما كان صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشاد بمن اتبعه.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنت مع رسول لله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إني أُحبُّه فأحِبَّه، وأحبَّ من يحبه. قال أبو هريرة رضي الله عنه: فما زلتُ أحبه منذ أن سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقصد بذلك الحسن بن علي رضي الله عنه».[صحيح البخاري:ح5884].
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم تقتضي متابعتَه ومحبةَ كلِّ ما أحبه صلى الله عليه وسلم.
ومن محبته صلى الله عليه وسلم: أن يعظِّمه الإنسان، وأن يُجلِّه على الوجه الذي يرضاه صلى الله عليه وسلم دون غلوٍّ فيه، ولا خروج عن حدود الاعتدال، فمن خرج في محبَّته عن حدود الاعتدال فقد نقضَ خروجه دعواه، يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾[الأحزاب:45]، وقال -جل وعلا-: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾[الفتح:9]، فإجلاله ومحبتُّه وتعظيمه وتوقيره كل ذلك من حبه؛ لكن هذا لا يسوِّغ أن يُرفعَ عن منزلته، وأن يسوَّى بالله رب العلمين، فأولئك الذين يقولون: (ومن علومك علم اللوح والقلم) لم يصدقوه في قوله -جل وعلا-: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾[الأنعام: 59]. فمن ادَّعى أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، أو أنه يفرِّج الكربات، أو أنه يغيث الملهوفين، أو يفعل ما يقولون مما يفعله رب العالمين فإنه لم يَصدُق في محبته، بل هو في مناقضة ما جاء به شاء ذلك أم أبى.
والمدَّعون للمحبة كُثُر، وأعظم برهان أقامه الله لصدق محبته ما ذكره في كتانه: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾[آل عمران:31].
إن من محبته صلى الله عليه وسلم أن يُذبَّ عن سنته، وأن تُنصر شريعتُه، وأن يدافع عن أوليائه وأحبابه من المؤمنين، فكل ذلك من مقتضيات محبته صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك حبَّك وحبَّ من يحبك، وحبَّ العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم تبّعنا سيرةَ نبيك صلى الله عليه وسلم وسنتَه وهديه في الظاهر والباطن، اللهم ارزقنا حبه محبة ترضى بها عنا، اللهم ارزقنا حبه محبة ترضى بها عنا، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والرشاد والغنى، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.