كما قال سبحانَه: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً (68) )، وقال: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) )، وقال: (اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ)، وقال: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ).
فإذا تركَ العملَ بعلمه عاقَبَه الله بأن أَضلَّه عن الهدى الذي يَعرِفه، كما قال: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، وقال: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، وقال: (في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً)
وفي الحديث الذي رواه الترمذي وصححه عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "إنَّ العبدَ إذا أذنب نكِتَ في قلبه نكتة سوداءُ، فإذا تاب ونَزَعَ واستغفر صُقِلَ قلبه، فإن زادَ يَزِيدُ فيها حتى يَعْلُوَ قَلْبَه، فْذلك الرَّانُ الذي قال الله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ".
فهذه الأمور تتبيَّنُ بها أجناسُ ظلمِ العبدِ نفسَه، لكن كل إنسانٍ بحسبه وبحسبِ درجتِه، فما من صباح يُصْبِح إلاّ وللهِ على عبدِه حقوقٌ لنفسِه ولخلقِه عليه أن يفعلَها، وحدود عليه أن يحفظَها، ومحارمُ عليه أن يجتنبَها، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "إنّ الله فرضَ فرائضَ فلا تُضيعُوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدُوها، وحرَّمَ محارمَ فلا تَنتهِكُوها".
فإن أجناسَ الأعمال ثلاثةٌ : مأمور به، فالواجب منه هو الفرائض؛ ومنهيٌّ عنه وهو المحارم؛ ومباح له حدٌّ يُنتَهَي إليه، فتعدِّيه تَعدٍّ لحدود الله، بل قد يكون الزائد على بعض الواجبات والمستحبات تعدٍّ لحدود الله، وذلك هو الإسراف، كما قال المؤمنون قبلنا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا) . والذنوب تتناولُ جنسَ الذنوب، وأما الإسراف فهو تعدِّي الحدودِ، كما قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
فالإثم جنسُ المنهي عنه، والعدوانُ تعدِّي الحدِّ في المأذون فيه، والبِرُّ جنسُ المأمور به، والتقوى حفظُ الحدود، بل يُفعَل المأمورُ به ويترَكُ المنهيُّ عنه، ويُفعَل المباحُ من غير تعدِّي الحدودِ في ذلك.
إذا تبيَّن هذا الأصل فقولُ السائل: "ما مفهوم قول الصديق: "ظلمت نفسي ظلمًا كثيرا"، والدعاء بين يَدَي الله لا يحتمل المجاز، والصدِّيق من أئمة السابقين، والرسول أمرَه بذلك" يتضمن شُبهةً في هذا الدعاء، ومَثَارُ الشبهةِ أن يُقال: الصدّيقُ أجلُّ قدرًا من أن تكون له ذنوب تكون ظلمًا كثيرًا، فإنّ ذلك ينافي مرتبةَ الصدِّيقيةِ.