الوجه الثالث: أن الخضرَ إن كان نبيًا فليس لغير الأنبياء أن يتشبَّه إليه، وإنْ لم يكن نبيًا - وهو قول الجمهور - فأبو بكر وعمرُ أفضلُ منه، فإنّ هذه الأمة خير أمةٍ أخرجتْ للناس، وخيارُ هذه الأمةِ القرنُ الأول من المهاجرين والأنصار، وخيرُ القرنِ الأول السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وخيرُهم أبو بكر وعمر.
فإذا كان أبو بكر وعمر أفضلَ من الخضر، وحالُهما مع رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هذه الحالُ، ونحن مأمورون أن نقتديَ بهما، لا بأن نَقتديَ بالخضر، كان من ترَكَ الاقتداءَ بهما في حالِهما مع محمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واقتدَى بالخضرِ في حالِه مع موسى= من أضلِّ الناسِ وأجهلِهم. بل من اعتقدَ أنه يجوز له أن يَخْرُجَ عن طاعةِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتصديقِه في شيء من أمورِه الباطنة أو الظاهرةِ فإنه يجب أن يُستتابَ، فإن تابَ وإلاّ قُتِل كائنًا من كان.
وإذا عُرِفَ أنّ التوبة تَرفعُ منزلةَ صاحبِها وإن كان فيه قبلَ ذلك ما كان، لم يكن لأحدٍ أن ينظر إلى صدّيقٍ ولا غيرِه باعتبار مَا وقعَ منه قبلَ التوبةِ والاستغفار، ومن فعلَ ذلك كان جاهلاً أو ظالما مهما أمكن أن يقعَ، إلاّ إذا كانت التوبة قد وُجِدتْ منه، فقد زال أمرُه وارتفعت بالتوبة درجتُه. فلا يُستكبَر بعد هذا أن يقع من صديق قدر ماذا عسى أن يقع، وإن كان صديقُ هذه الأمة كان من أبعد الناس عن الذنوب قبل الإسلام وبعده، حتى إنّه لم يشرب الخمر في الجاهلية ولا الإسلام، وكان معروفًا عندهم بالصدق والأمانة ومكارم الأخلاق، لكن المقصود أن يُحسَم مادةُ مثلِ هذا السؤال، لكن مع كونه من أبعد الناس عن الذنوب فكل بني آدم يحتاجُ أن يتوبَ ويعترفَ بظلم نفسه، كما اعترف بذلك من هو أفضل من أبي بكر.
وتمام ذلك بالوجه الثاني، وهو أن ظلم النفس أنواعٌ مختلفة ودرجات متفاوتة كما تقدم التنبيهُ عليه، وكل أحدٍ ظلم نفسه على قدر درجته ومنزلته، وما يمكننا أن نحصر ما فعله كل شخص من أشخاص الصديقين، فإن أحوال العباد مع الله أسرار فيما بينهم وبين الله، وإنما يمكن أن يُعرَف أنواع ذلك كما دل عليه الكتاب والسنة، ولا حاجةَ بنا إلى معرفة تفصيل ذلك، فإن هذا ليس مما يُقتدَى فيه بأحدٍ، فإن الاقتداء إنما يكون في الحسنات لا في السيئات التي يثاب فيها. والإنسان لا يَقْنَطُ من رحمة الله ولو عملَ من الذنوب ما عسى أن يعمل، كما قال تعالى: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً).
ونحن نعلم أن التوكلَ على الله فرض، والإخلاص له فرض، ومحبة الله ورسوله فرض، والصبر على فعل ما أمر الله وعما نهى الله عنه وعلى المصائب التي تُصِيبُه فرض، وخشية الله وحدَه دون خشيةِ الناس فرض، والرجاء لله وحدَه فرض، وأمثال ذلك من الأعمال الباطنة والظاهرة والتي يَحصُل التقصيرُ في كثيرٍ منها لعامةِ الخلقِ.
وأيُّ نوع من هذه الأنواع إذا تدبَّر بعضُ الصديقين فيه حالَهُ يَجدُه قد ظلم نفسَه فيه ظلمًا كثيرًا، دَعْ ما سوى ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وكالقيام بحقوق الأهل والجيران والمؤمنين، وإكمال كلّ واجبٍ كما أمر به، وأمثال ذلك مما لا يُحصَى.
وقد ذكر البخاري عن ابن أبي مُليكةَ قال: أدركتُ ثلاثين من أصحاب محمد كلُّهم يخاف النفاقَ على نفسِه. وفي الصحيح أن حنظلةَ الكتاب لما قال: نافق حنظلة، قال أبو بكر: إنّا لَنَجد ذلك.
فهؤلاء كانوا يخافون على أنفسهم النفاقَ لكمالِ علمهم وَإيمانهم، وِلهذا كان عبد الله بن مسعود وغيره من السلف يستثنون الإيمان فيَقُول أحدُهم: أنا مؤمنٌ إن شاء الله. وقد تقدم التنبيهُ على مجامع الظلم. والله سبحانَه أعلم.