قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ). قال بعض السلف: أَمنَعُ قلوبَهم فهمَ القرآن. وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "إذا أذنبَ العبدُ نكتَ في قلبه نكتةٌ سوداءُ، فإن تابَ ونزعَ واستغفر صُقِلَ قلبُه، فإن زادَ زِيدَ فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الرانُ الذي قال الله تعالى فيه: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) ).
فالذنوب تَرِيْنُ على القلوب حتى تَمنعها فهمَ القرآن، وإذا كان هذا المعنى صحيحًا فقياسُ طهارةِ القلب على طهارة البدن فيما يُشتَرط له الطهارةُ من مسِّ القرآن إشارةٌ حَسَنَة، فأما أن يُفسَّر المرادُ للفظ بغير المراد وبما لا يدلُّ عليه اللفظ فهذا خطأ.
وقد قال زكريا: (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) )، ولم تكن الذرية الطيبة مختصة به ولا بالأنبياء، بل الله يُخرِج الأنبياء من أصلاب الكفار إذا شاء، ولكن بمشيئته - والله أعلم - أنه إذا قال: "من عندك" و"من لدنك"، كان مطلوبًا فعلُ العبد، فإن ما يُعطيه الله للعبد على وجهين:
منه ما يكون بسبب فعلِه، كالرزق الذي يَرزقه بكسبه، والسيئات التي تُغفَر له بالحسنات الماحية لها، والولد الذي يرزقه بالنكاح المعتاد، والعلم الذي يناله بالتعلم المعهود، والرحمة التي تصيبها بالأسباب التي يفعلها.
ومنه ما يُعطيه للعبد ولا يُحوِجه إلى السبب الذي ينال به في غالب الأمر، كما أعطى زكريا الولدَ مع أن امرأته كانت عاقرًا، وكان قد بلغ من الكبر عِتِيًّا، فهذا الولد وهبه الله من لدنه لم يَهَبْه بالأسباب المعتادة، فإن العادة لا تحصل بهذا الولد، وكذلك العلم الذي علَّمه الخَضِرَ من لدنه لم يكن بالتعلم المعهود، وكذلك الرحمة الموهوبة، ولهذا قال: (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) ).
وقوله: "مغفرة من عندك"، لم يقل فيه "من لدنك مغفرة" بل "من عندك"، ومن الناس من يُفرِّقُ بين "لدنك" و"عندك"، وهكذا قد يُفرَّق بين التقديم والتأخير، فإن لم يكن بينهما فرقٌ فقد يكون المراد: اغفر لي مغفرةً من عندك لا تَصِلُها بأسبابٍ، لا من عزائم المغفرةِ التي تغفر لصاحبها، كالحج والجهاد ونحوهما ما يُوجب المغفرةَ لصاحبه، بل اغفر لي مغفرة تَهَبُها لي وتَجُودُ بها عليَّ بلا عمل يقتضي تلك المغفرة.
ومن المعلوم أن الله تعالى قد يَغفر الذنوبَ بالتوبة، وقد يغفرها بالحسنات الماحية، وقد يغفرها بالمصائب المكفرة، وقد يغفرها بمجرد استغفار العبد وسؤاله أن يغفر له، فهذه مغفرة من عنده. فهذا الوجه إذا فُسِّر به قوله: "من عندك" كان أحسنَ وأشبهَ مما ذكر من الاختصاص.
وأما قوله: "والأشياء كلُّها من عندهِ"، فيقال: إن للأشياء وجهين: منها ما جُعِل سببًا من العبد يوفيه عليه، ومنها ما يفعله بدون ذلك السبب، بل إجابةً لسؤالِه وإحسانًا إليه. واستعمال لفظ "من عندك" في هذا المعنى هو المناسب، دون تخصيص بعض الناس دون بعض، فإن قوله "من عندك" دلالته على الأول أبين، ولهذا يقول الرجل لما يطلبه: "أعطنى من عندك" لما يطلبه منه بغير سبب، بخلاف ما يطلبه من الحقوق التي عليه كالدَّين والنفقة، فإنه لا يقال فيه "من عندك".
والله تعالى وإن كان الخلقُ لا يُوجبون عليه شيئًا فهو قد كتبَ على نفسِه الرحمةَ، وحرَّم الظلمَ علىَ نفسه، وأوجبَ بوعدِه ما يجب لمن وعدَه إيَّاه، فهذا قد يَصير واجبًا بحكم إيجابِه ووعدِه، بخلاف ما لم يكن كذلك. فاستعمالُ لفظ "من عندك" في هذا هو شبيهٌ باستعماله فيما يَطلب من الناس من الإحسان ذو المعاوضات.
وأيضًا فقوله "من عندك" يُراد به أن يكون مغفرةً تجود بها أنت عليَّ لا تُحوِجُني فيها إلى خلقِك، ولا يُحتاج إلى أحدٍ يَشْفَع فيَّ أو يَستغفر لي، واستعمال لفظة "من عندك" في مثل هذا معروف، كما في حديث توبة كعب بن مالك لما جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال له: "أَبْشِرْ بخيرِ يوم مرَّ عليكَ منذ وَلدتْك أمُّك"، فقلتُ: يا رسولَ الله!
أمن عند الله أو من عندك؟ فقال: "بل من عند الله"، فأخبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله تابَ عليه من عنده.
وكلا الوجهين قول مريم عليها السلام (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) ) ، فلما كان الرزق لم يأتِ به بشرٌ ولم يُسْعَ فيه السعيُ المعتاد قالت: "هو من عند الله". فهذه المعاني وما يناسبها هي التي يشهد لها استعمال هذا اللفظ. وإن قال قائل: كذلك كلامُ الحكيم الترمذي على مثل هذا، وإنه أراد بالتخصيص ما يناسب هذا، كان قولاً محتملاً، وقد قال عمرُ: احمِلْ كلامَ أخيك على أحسنِه حتى يأتيكَ ما يَغْلِبُك منه، والله أعلم.