×
العربية english francais русский Deutsch فارسى اندونيسي اردو

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأعضاء الكرام ! اكتمل اليوم نصاب استقبال الفتاوى.

وغدا إن شاء الله تعالى في تمام السادسة صباحا يتم استقبال الفتاوى الجديدة.

ويمكنكم البحث في قسم الفتوى عما تريد الجواب عنه أو الاتصال المباشر

على الشيخ أ.د خالد المصلح على هذا الرقم 00966505147004

من الساعة العاشرة صباحا إلى الواحدة ظهرا 

بارك الله فيكم

إدارة موقع أ.د خالد المصلح

مشاركة هذه الفقرة WhatsApp Messenger LinkedIn Facebook Twitter Pinterest AddThis

قوله - رحمه الله -: «وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه» هذا شروع في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في القدر, وهو أصل من أصول الإيمان , وبدأ فيه المؤلف ببيان حقيقة القدر. وقوله: «وأصل القدر» أصل الشيء قاعدته التي يبنى عليها، سواء أكان حسيا أم معنويا، والمراد بالقدر هنا التقدير، وقد عرف الإمام أحمد القدر بأنه قدرة الله، واستحسن ذلك ابن عقيل جدا، وجعله دليلا على دقة فهم الإمام أحمد ورسوخ علمه، قال ابن القيم في «نونيته» +++ («النونية» ص (36)--- : فحقيقة القدر الذي حار الورى ***في شانه هو قدرة الرحمن واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد ***لما حكاه عن الرضا الرباني قال الإمام شفا القلوب بلفظة ***ذات اختصار وهي ذات بيان فالقدر هو حكم الله الكوني، وقد عرفه بعض أهل العلم بذكر مراتبه، من ذلك قول الناظم: علم كتابة مولانا مشيئته *** وخلقه وهو إيجاد وتكوين وقوله: «سر الله تعالى في خلقه» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن حقيقة القدر، وقاعدته التي يبنى عليها أنه، مما أخفاه الله تعالى، عن خلقه واستأثر به في علم الغيب عنده فلم يظهر عليه أحدا من خلقه، كما قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} +++ (سورة الجن: 26.)--- ، وكما قال - عز وجل -: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} +++ (سورة الأنعام: 59.)--- . فإذا تبين لك ذلك, وأيقنت أن القدر سر خفي يعجز الخلق عن إدراكه وفهمه سلمت لله - سبحانه وتعالى - قضاءه وقدره، وأيقنت أن الله - جل وعلا- حكم عدل لا يظلم الناس شيئا، كما قال تعالى: {إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون} +++ (سورة يونس: 44.)--- ، {وما ربك بظلام للعبيد} +++ (سورة فصلت: 46.)--- . وبهذا يقر قلب المؤمن ويطمئن بقدر الله وقضائه، ويزول ما فيه من الشوائب والكدر، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود، عن عبدالله بن فيروز الديلمي، قال: «أتيت أبي بن كعب، فقلت له: وقع فى نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي. فقال: لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه، عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا فى سبيل الله ما قبله الله منك، حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار. قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك - قال - ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل، ذلك - قال - ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبى - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك» +++ ("مسند أحمد" (21653)، "سنن أبي داود" (4701)، "صحيح ابن حبان" (727)--- . فواجب على كل مؤمن أن يؤمن بالقدر وأنه لن يتمكن من إدراك كنهه وفهم حكمه وغاياته وأسراره. وقوله: «أصل القدر سر الله في خلقه» وصف القدر بأنه سر الله، نقل عن عيسى ابن مريم - عليه السلام -، فعن ابن عباس أن عيسى ابن مريم قال: «القدر سر الله فلا تكلفوه» +++ (أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (10/ 261) ح/ (10604)، من طريق عبد الله بن رجاء، عن سوار بن مصعب، عن أبي يحيى القتات، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس. وسوار بن مصعب كان عبد الله بن رجاء يقلب اسمه إلى مصعب بن سوار، هكذا قال الدارقطني في «السنن» (1/ 128)، وقال عنه البخاري في «التاريخ الكبير» «منكر الحديث». وفيه أبو يحيى القتات، قال عنه ابن معين: «في حديثه ضعف»، وقال النسائي: «ليس بالقوي».)--- ، وقد نقل عن ابن عمر مثله +++ (أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (6/ 182)، وابن عدي في «الكامل» (7/ 190) كلاهما من طريق الهيثم بن جماز، عن عمران القصير، عن نافع، عن ابن عمر. وهو ضعيف لأجل الهيثم فقد ضعفه أحمد وابن معين والنسائي وغيرهم.)--- ، وسئل علي - رضي الله عنه - عن القدر فقال: «طريق مظلم فلا تسلكه» وقال مرة في جوابه: «بحر عميق فلا تلجه» وقال مرة: «سر الله فلا تكلفه» +++ (أخرج هذا الأثر الآجري في «الشريعة» (2/ 952)، من طريق إسماعيل بن عمرو البجلي قال: حدثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جده، عن علي به. وهو ضعيف لأجل إسماعيل البجلي فهو ضعيف وعبدالملك بن هارون متروك.)--- ، وجاء رجل إلى أبي حنيفة يجادله في القدر، فقال له: «أما علمت أن الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس، كلما ازداد نظرا ازداد تحيرا؟!» ووصف القدر بأنه سر يفيد عدة فوائد: منها: قطع النظر والتعمق في باب القدر؛ لأن ذلك لا يوصل إلى علم وبصيرة؛ فالقدر سر خفي، لا سبيل إلى تحصيله وكشفه. ومنها: التسليم لله - عز وجل - فيما أخبر به مما بتعلق بقضائه وقدره؛ لأنه سر لا يمكن إدراكه بالعقل، فلا يمكن الاطلاع عليه. ومنها: إبطال الاحتجاج بالقدر في معارضة الشرع ورده؛ لأن القدر غيب خفي، وسر لا يعلم، وما كان كذلك لا يصلح الاحتجاج به في رد الأمر ونهيه. قوله - رحمه الله -: «لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل» أي: إن أصل القدر الذي هو سر خفي لم يكشفه الله تعالى لأحد من الخلق، مهما علا مقامه وسما مكانه، فالله لم يكشف سر قدره لصفوة خلقه من الملائكة والرسل، فلم يطلع على ذلك السر ملك مقرب ولا نبي مرسل، فهو من مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو، كما قال - سبحانه وتعالى -: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} +++ (سورة الأنعام: 59.)--- . وهذا لا ينفي أن يطلع الله تعالى بعض عباده على بعض ما قضاه وقدره - سبحانه وتعالى - كما قال - عز وجل -: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا +++ (26)---  إلا من ارتضى من رسول} +++ (سورة الجن: 26 - 27.)--- . قوله - رحمه الله -: «والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن طلب كشف سر القدر وعلمه وتكلف ذلك فكرا وبحثا، وسؤالا وجدلا يفضي ويؤدي إلى الخذلان، وهو أن يخلي الله بين العبد وبين نفسه فلا يعينه ولا ينصره ولا يهديه سبيلا. قوله - رحمه الله -: «وسلم الحرمان» أي: إن التعمق في القدر وطلب كشف سره وسيلة توصل إلى الحرمان، والحرمان أصله المنع، وهو هنا منع من كل خير، ورأس ذلك منع طمأنينة القلب، وانشراحه ويقينه، فإن من شك في هاذا الأمر وعمق النظر فيه ألقى الشيطان في قلبه الوساوس التي تورثه حرمان لذة الإيمان. قوله - رحمه الله -: «ودرجة الطغيان» الدرجة: هي الرفعة في الشيء والمضي فيه، والمراد أن التعمق في القدر والنظر فيه، تجاوز للحد في العصيان، وترق فيه؛ ذلك أن أصل القدر سر أخفاه الله على خلقه، لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، فطلبه عصيان وطغيان. قوله - رحمه الله -: «فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة» أي: إذا تبين لك ما تقدم من شؤم التعمق في القدر والنظر فيه وما يفضي إليه من خذلان وحرمان وطغيان، فالزم الحذر والتحرز والتيقظ التام الذي لا غفلة معه، من التعمق في القدر، والنظر فيه، سواء أكان تفكرا أم تأملا أم بحثا أم استسلاما لما يقذفه الشيطان من إيرادات على القلب، تشوش عليه قلبه وتفسده. قوله - رحمه الله -: «فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه» هذا بيان علة ما تقدم من تحذير، وذكر فيه وجهين؛ الأول: أن الله تعالى أخفى أصل القدر وحقيقته عن خلقه، والثاني: أنه تعالى نهى العباد عن طلب الوصول إلى حقيقة القدر، فقد جاء عند الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي  صلى الله عليه وسلم  خرج عليهم, وهم يتنازعون في القدر، فغضب حتى احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال: «أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم؟! إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا فى هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه» +++(أخرجه الترمذي (2133)، وقال: «حديث غريب».)--- ، والتنازع فيه يستلزم التعمق في القدر والنظر فيه، وقد جاءت أحاديث كثيرة، في ذم الخائضين في القدر لا تخلو من مقال، إلا أن مجموعها قد يفيد ثبوت الذم، منها قوله  صلى الله عليه وسلم : «القدرية مجوس هذه الأمة» +++ (أخرجه أبو داود (4691)، والحاكم (1/ 159) ح (286)، والبيهقي (10/ 203) ح (20658)، من طريق موسى بن إسماعيل، ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال حدثني بمنى عن أبيه، عن ابن عمر، مرفوعا. قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين». قال المنذري في «مختصره» (7/ 58): هذا منقطع؛ أبو حازم سملة بن دينار لم يسمع من ابن عمر، وقد روي هذا الحديث من طرق عن ابن عمر ليس فيها شيء يثبت». وما أخرجه مسلم (8) من حديث يحيى بن يعمر في قصة سؤاله ابن عمر فقال: إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، قال: «فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني».---  ذلك أنهم ممن تعمق في القدر ونظر فيه على غير هدى من الله فعارضوا به الشرع فضلوا بذلك. قوله - رحمه الله -: «كما قال الله تعالى في كتابه: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}» هذا مما استدل به المؤلف على ما تقدم من وجوب ترك التعمق والنظر في القدر، فإنه إذا كان لا يسأل عما يفعل وجب التسليم له، ومن لازم التسليم ترك التعمق في القدر والنظر فيه، فمن عارض الله في قدره فقد نازع الله - عز وجل - في حكمه. قوله - رحمه الله -: «فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب» هذا بيان وجه الدلالة في الآية, وهو أن من قال في أقدار الله تعالى وأقضيته: لماذا فعل الله كذا؟ تعمقا ونظرا ومعارضة، فإنه قد وقع في رد ما قضى الله تعالى به في كتابه، من كونه جل وعلا: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}. قوله - رحمه الله -: «ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين» أي: إن من لم يسلم لحكم القرآن ورده فإنه يكون بذلك من الكافرين؛ لأن السؤال عن أفعال الله - عز وجل - على وجه الاعتراض، منازعة لله تعالى في حكمه، ومعارضة له في قضائه، وهذا ينافي ما يجب لله تعالى من التسليم ويناقض الإيمان؛ فإن بناء الإيمان على الاستسلام لله. قوله - رحمه الله -: «فهاذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى» المشار إليه ما تقدم تقريره من سبق علم الله - جل وعلا - للأشياء، وأن القدر سر الله في خلقه، وأن التعمق والنظر فيه من أسباب الخذلان والحرمان والطغيان. فالعلم بمجموع ما تقدم بيانه هو القدر الذي يكتفي به من نور الله قلبه بأنوار الرسالة وهداياتها، كما قال الله - جل وعلا-: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات} +++ (سورة الأنعام: 122.)--- ، فالقرآن نور وهدى، فكلما عظم في قلب العبد نور القرآن، تبددت الشبهات، وانقشعت الظلمات، وزالت كل المكدرات. وكلما خفي هاذا النور، التبس الأمر على الإنسان، وضل وأصيب بالحيرة والتيه والاضطراب والتناقض، كما قال الله - جل وعلا -: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج} +++ (سورة ق: 5.)--- . والله - سبحانه وتعالى - بعث محمدا  صلى الله عليه وسلم  بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والنور الذي أخرجهم إليه هو نور النبوة والقرآن. ومنور القلب هو الذي لم يجاوز ما جاء في الكتاب والسنة، ولم يدخل في هاذا الأمر بعقله ولا بفاسد رأيه. وقوله: «من أولياء الله تعالى» "من" هنا بيانية، والمعنى أن أولياء الله وهم أهل محبته وتقواه والإيمان به، يكتفون في هذا الباب بما جاءت به الأخبار دون زيادة. والأولياء جمع ولي, والولي من كان لله تقيا كما قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون" فطريق حصول الولاية تحقيق التقوى والإيمان}. قوله - رحمه الله -: «وهي درجة الراسخين في العلم» أي: إن إدراك جملة ما ذكر في شأن القدر، يبلغ بها المرء درجة الراسخين في العلم بالله وأسمائه وصفاته، والرسوخ في العلم هو الثبات فيه والتمكن منه، والنفوذ إلى أسراره وغاياته، فالرسوخ في العلم لا يدرك بالتعمق فيما لا طائل وراءه، ولا في الخوض فيما حظر عليه علمه، ولا في تكلف طلب ما لا سبيل إلى معرفته، مما تقصر عنه الأفهام ولا تستقل بإدراكه الأذهان، بل هو مزلة ومضلة: مزلة عن الطريق المستقيم، ومضلة يضل بها عن سبيل الله القويم. قوله - رحمه الله-: «لأن العلم علمان» أي: إن علة كون إدراك جملة ما تقدم، يوصل إلى درجة الراسخين في العلم، هي أن العلم ينقسم إلى قسمين بالنظر إلى إمكانية الإدراك والتحصيل, وسيأتيان في كلام المصنف. قوله - رحمه الله -: «علم في الخلق موجود» هذا هو العلم الأول، وهو علم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم  في القرآن والسنة، من الأخبار والأحكام. قوله - رحمه الله -: «وعلم في الخلق مفقود» هذا هو العلم الثاني، وهو ما استأثر الله تعالى به من الغيب الذي من جملته أسرار أقداره التي لم يطلع عليها أحدا من خلقه، كما قال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا  (26) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} +++(سورة الجن: 26 - 27)---. قوله - رحمه الله -: «فإنكار العلم الموجود كفر» أي: إن عدم قبول القلب لما جاء به القرآن والسنة، ورد ذلك كفر بالله العظيم. قوله - رحمه الله -: «وادعاء العلم المفقود كفر» أي إن دعوى الإنسان علم الغيب، الذي لا سبيل إلى إدراكه، كفر بالله، قال الله تعالى: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون} +++ (سورة النمل:65.)---  , وقال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}. فمن ادعى علم الغيب كذب القرآن، وتكذيب القرآن كفر بالله العظيم. قوله - رحمه الله -: «ولا يصح الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود» أي: إن أهل السنة والجماعة، يعتقدون أنه لا يقبل الإيمان ولا يعتبر ولا يعتد به، إلا بأمرين: الأمر الأول: قبول العلم الموجود، وهو ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق، كما قال الله - جل وعلا-: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} +++ (سورة النساء: 65.)--- ، أي: يقبلوه قبولا لا منازعة فيه ولا تردد، بل قبول إذعان وانقياد. الأمر الثاني: الإعراض عن طلب العلم المفقود، وهو ما استأثر الله بعلمه، فلم يظهر عليه أحدا من خلقه، ومنه علم كيفيات ما أخبر الله به عن نفسه، من أسمائه وصفاته، كما قال تعالى: {وما يعلم تاويله إلا الله} +++ (سورة آل عمران: 7)--- ، ومنه علم سر القدر، وما سبق به من تقدير الله تعالى قبل وقوعه، فإنه لا سبيل إلى علم ذلك إلا بطلبه من عالمه، وقد حظره الله تعالى وأخفاه، إلا على من شاء من عباده، كما قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول} +++ (سورة الجن.)--- . قوله - رحمه الله -: «ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم» أي: إن أهل السنة والجماعة، يقرون جازمين بما جاءت به الأدلة في الكتاب والسنة في شأن اللوح والقلم، وبجميع ما فيه رقم. و «اللوح» في اللغة كل صحيفة عريضة، خشبا أو عظما، والمراد به هنا اللوح المحفوظ، وهو ما كتب الله فيه مقادير كل شيء، فهو مستودع مشيئات الله تعالى وأقداره، وهو اللوح المحفوظ المذكور في قوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد (21) في لوح محفوظ} +++ (سورة البروج: 21 - 22.)--- ، وهو أم الكتاب المذكور في قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} +++ (سورة الرعد: 39)--- ، وهو الكتاب المبين المذكور في قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} +++ (سورة الأنعام: 59)---  , وهو الإمام المبين المذكور في قوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} +++ (سورة يس: 12.)--- ، وهو الكتاب المكنون المذكور في قوله تعالى: {إنه لقرآن كريم (77) في كتاب مكنون} سورة الواقعة , وهو الذكر، كما في قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} +++ (سورة الأنبياء: 105.)--- ، وقد قال النبي  صلى الله عليه وسلم  في جواب من سأله عن أول هاذا الأمر: «وكتب في الذكر كل شيء» +++ (خرجه البخاري (3191)، (7418)--- . وقوله: «والقلم» أي: نؤمن بالقلم، وهو في اللغة الآلة التي يكتب بها، والمراد به هنا القلم الأعظم الذي أقسم الله تعالى به في قوله: {ن والقلم وما يسطرون} +++ (سورة القلم:1.)--- ، وقد أمر الله تعالى القلم أن يكتب مقادير كل شيء، فجرى القلم بأمر الله بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة، كما جاء فيما رواه أصحاب «السنن» من حديث عبادة بن الصامت أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «إن أول ما خلق الله القلم, فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة». هذا لفظ أبي داود +++ (سنن أبي داود (4700)--- . وفي رواية الترمذي: «اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد» +++ (سنن الترمذي (2155)، وقال: «غريب من هذا الوجه».)--- . وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على سبق الكتابة للمقادير، وأنه لا يقع شيء في الكون إلا وقد تقدمت كتابته في اللوح المحفوظ, ومن ذلك قول الله تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} +++ (سورة الحديد: 22.)--- ، ومنه أيضا قوله تعالى: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} +++ (سورة التوبة: 51.)--- ، وقوله: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} +++ (الأنفال: 68.)--- ، وغيرها كثير. ومن السنة ما في «الصحيح» من حديث عبد الله بن عمرو، قال النبي  صلى الله عليه وسلم : «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة -قال- وعرشه على الماء» +++ (أخرجه مسلم (2653) --- ، وهذه الكتابة هي الكتابة العامة الشاملة، ثم تلاها كتابات دون هذه الكتابة في المنزلة والمكانة والعظم، وهي متنوعة، ولها أقلام، كل كتابة لها قلم، وقد قال النبي  صلى الله عليه وسلم  فيما أخبر به مما جرى ليلة المعراج: +++ ((ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام))---  +++ (صحيح البخاري (349)، وصحيح مسلم (163)--- ، وصريف الأقلام صوت جريها وكتابتها، وهذه الأقلام هي التي تكتب قدر الله اليومي، كما قال الله جل وعلا: {كل يوم هو في شان} +++ (سورة الرحمان: 29.)--- . يعز من يشاء ويذل من يشاء، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، يرفع من يشاء ويضع من يشاء، يحيي ويميت، يدبر أمر مملكته جل وعلا لا إله إلا هو. قوله - رحمه الله -: «وبجميع ما فيه قد رقم» أي: نؤمن بأن ما حواه الكتاب المكنون واللوح المحفوظ، هو قضاء الله تعالى وقدره الذي لا يخرج عنه شيء من حوادث الكون، وهذا الإيمان من مقتضيات الإيمان بالقدر ولوازمه، فلا يتم إيمان أحد إلا به. قوله - رحمه الله -: «فلو اجتمع الخلق كلهم ... » أي، إنه لو اتفق كل الخلق، من أولهم إلى آخرهم حيث كانوا في السماوات أو في الأرض، على أن يغيروا شيئا مما قضاه الله وقدره، إيجادا أو إعداما، فإنهم عاجزون عن ذلك كله. فإنه لا تبديل لخلق الله ولا راد لأمره ولا معقب لحكمه - سبحانه وتعالى -، وقد جاء ذلك في وصية النبي  صلى الله عليه وسلم  لابن عباس حيث قال: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» +++ (أخرجه الترمذي (2516) وقال: «حسن صحيح»، وأحمد (1/ 293)--- . قوله - رحمه الله -: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» أي، إن القلم قد انقطعت كتابته وفرغ منها, فهو من باب إطلاق اللازم على الملزوم؛ لأن الفراغ من الكتابة يستلزم جفاف القلم وثبات المكتوب في اللوح من مقادير كل شيء إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين. وقد ورد ذلك في قول النبي  صلى الله عليه وسلم  لأبي هريرة - رضي الله عنه -: «جف القلم بما أنت لاق» رواه البخاري +++ (برقم (5076)---  "وكتاب الله ولوحه وقلمه من غيبه ومن علمه الذي يلزمنا الإيمان, ولا يلزمنا معرفة صفته" +++ ("فتح الباري"لابن حجر (11/ 491)--- . قوله - رحمه الله -: «وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه» أي: إن ما تجاوز الإنسان وتعداه من المقادير، فإنه لا يمكن أن ينزل به ويناله من خير أو شر، وما قدر الله أنه نازل به فإنه لن يتجاوزه، ودليل ذلك: ما جاء مرفوعا في بعض روايات حديث وصية النبي  صلى الله عليه وسلم  لابن عباس ولفظه: «واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك» +++ (أخرجه عبد بن حميد (636)---  , وقد جاء عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا لمن سألهم عن القدر: لو أنفقت مثل جبل أحد ذهبا في سبيل الله لم يتقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك +++ (أخرجه أبو داود (4699)،و ابن ماجه (77)، وأحمد (5/ 182)،وابن حبان (2/ 505)، وهو مروي عن أبي بن كعب، وحذيفة، وابن مسعود، وزيد بن ثابت)--- ، وفي هذا عظم منزلة القدر، وأنه كما قال ابن عباس: القدر نظام التوحيد +++ (تقدم تخريجه.)--- ، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده. قوله - رحمه الله -: «وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه» أي، إنه يجب على كل أحد: أن يعتقد أن الله تعالى علم الحوادث والوقائع والأشياء على التفصيل قبل وقوعها، وقد سبق تقرير هاذا بأدلته مفصلا. قوله - رحمه الله -: «وقدر بمشيئته ذلك تقديرا محكما» أي: إن الله قضى ما سبق به علمه في كل كائن من خلقه، قضاء متقنا صادرا عن مشيئته وإرادته له فيه الحكمة البالغة، قال الله جل وعلا: {إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم} +++ (سورة يوسف:100.)--- ، أي: المحكم المتقن أي المحكم لما شاءه وقدره فله جل وعلا الحكم والحكمة والإحكام، فالله - جل وعلا - أتقن القدر إتقانا يدل على عظيم قدره وقدرته؛ ولذلك لما سئل الإمام أحمد - رحمه الله - عن تعريف القدر قال: «القدر قدرة الله» +++ (ينظر:"منهاج السنة" (3/ 151)--- ؛ لأن من كذب بالقدر فقد كذب بقدرة الله جل وعلا. قوله - رحمه الله -: «مبرما ليس له ناقض» أي: إن قضاء الله وقدره لا يتطرق إليه نكث يزيل الحكم بالكلية، قبل وقوعه. فلا أحد يقدر أن يرد قدر الله جل وعلا، بل قدر الله نافذ؛ لنفوذ قدرته ومشيئته - سبحانه وتعالى -، فهو ذو القدرة البالغة، والمشيئة النافذة، سبحانه وبحمده لا إله إلا هو. قوله - رحمه الله -: «ولا معقب» أي: لا مؤخر، لقدر الله، كما قال تعالى: {والله يحكم لا معقب لحكمه} +++ (سورة الرعد: 41.)--- ، أي: لا يقدر أحد أن يرد حكم الله أو يراجعه فيه أو يؤخره. قوله - رحمه الله -: «لا مزيل» أي: إنه لا رافع لقضاء الله وقدره، بعد وقوعه، قال الله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير} +++ (سورة الأنعام:17.)--- ، وقال تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} +++ (سورة يونس:107.)--- . قوله - رحمه الله -: «ولا مغير» أي: إنه لا مبدل لقضاء الله وقدره، والتبديل يشمل جميع ما تقدم من النقض والتعقيب والإزالة فكلها تغيير. قوله - رحمه الله -: «ولا محول» أي: لا صارف لقضاء الله وقدره ولا ناقل له عما أراده الله تعالى، زمانا ولا مكانا ولا حالا ولا عينا ولا وصفا، كما قال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} +++ (سورة الإسراء:56.)--- . قوله - رحمه الله -: «ولا ناقص ولا زائد» أي إنه لا ينقص ما قدره الله تعالى وقضاه، ولا يزيد عليه أحد، بل كل الحوادث تقع مطابقة لما سبق به تقدير الله وقضاؤه من غير زيادة ولا نقص عما سبق به تقدير الله تعالى، كما قال الله - سبحانه وتعالى -: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} +++ (سورة فاطر: 11.)--- ، فكل زيادة في الأعمار أو نقص فيها، سواء في أعمار الأجناس أو الأفراد فقد فرغ منها في كتاب، أي في مكتوب قبل خلقه وإيجاده, فلا زيادة عليها ولا نقصان فيها، وهكذا سائر ما قضاه الله تعالى وقدره. قوله - رحمه الله -: «وذلك من عقد الإيمان، وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته» أي إن العلم بما تقدم بيانه من مسائل القدر، فالعلم به مما ينعقد به الإيمان، فهو من شعبه وخصاله الكبرى التي لا يثبت الإيمان إلا بها، وهو مما تبنى عليه المعارف والمدارك, وهو مما يتحقق به إفراد الله تعالى بما يستحقه في ألوهيته وربوبيته, فمن ضل في مسألة القدر فإنه لم يكمل ما يجب لله تعالى من التوحيد في إلهيته وربوبيته؛ لأن من توحيد الربوبية الإيمان بأن الله خالق كل شيء، ولا بد في الخلق من قدرة ومشيئة وعلم، لذلك قال ابن عباس: القدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده. قوله - رحمه الله -: «كما قال الله - عز وجل - في كتابه: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا}». هذا استدلال لما تقدم من مسائل القدر، فقوله جل وعلا: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا}، يدل على جميع ما سبق من مسائل القدر، إما دلالة مطابقة وإما دلالة لزوم وإما دلالة تضمن. ومما يدل له أيضا قول الله تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم}. فمذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى. قوله - رحمه الله -: «قال - سبحانه وتعالى -: {وكان أمر الله قدرا مقدورا}» هذا دليل آخر على ما تقدم من أن ما قضاه الله تعالى وقدره، واقع كما قضى دون تعد ولا نقص ولا تغيير ولا تبديل. وقوله تعالى: {أمر الله}، أي: ما أمر به من خلقه، فالأمر هنا بمعنى المأمور وهو من باب إضافة المصدر الذي بمعنى اسم المفعول إلى فاعله، وهو نظير قوله - عز وجل -: {هذا خلق الله} +++ (سورة لقمان: 11.)--- ، أي: مخلوقه، فأطلق المصدر وأراد به المفعول، وهذا كثير في لغة العرب، ومنه قول الله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} +++ (سورة النحل: 1.)--- . فالذي أتى هو مأمور الله، أي: مخلوقه الذي قضاه - سبحانه وتعالى -. وبهاذا ينتهي ما ذكره المؤلف - رحمه الله - في هاذا المقطع من كون الإيمان بالقدر من لوازم الإيمان وأصول المعرفة، ومن لوازم الاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته. قوله - رحمه الله -: «فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما» أي إن من خاصم الله تعالى في قضائه وقدره ونصب نفسه معارضا منازعا لقدر الله فله الويل. والويل: كلمة وعيد ووبال وشدة عذاب +++ (ينظر: «النهاية في غريب الحديث والأثر» لابن الأثير (5/ 532)---  أو دعاء بذلك، ولا مانع من أن تحمل الكلمة على كلا المعنيين الخبر والإنشاء. وقوله: «خصيما» فعيل بمعنى فاعل، أي مخاصما منازعا، وهذا وصف لكل منازع في القدر غير مسلم لله تعالى في قضائه وقدره. وإمام المخاصمين لله في القدر إبليس الشيطان الرجيم عليه لعائن الله، حيث قال: {رب بما أغويتني} +++ (سورة الحجر: 39.)--- ، فخاصم الله جل وعلا في قدره، واحتج لتبرير ضلاله واستكباره وإبائه بالقدر، ولم يعترف ويقر بالذنب والخطأ. وفي الجملة يمكن القول بأن خصماء الله في القدر أصناف: الصنف الأول: القدرية والنفاة، وهم الذين قالوا: «إن الله لم يقدر شيئا، وإن الأمر أنف».وهذه البدعة ظهرت أواخر زمن الصحابة - رضي الله عنهم -، وقد ردها ابن عمر وغيره من صحابة رسول الله  صلى الله عليه وسلم . وقد خاصم المشركون رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، في القدر كما جاء في «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة +++ (" صحيح مسلم" (2656))---  أن المشركين جاؤوا يخاصمون النبي  صلى الله عليه وسلم  في القدر، فأنزل الله قوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} +++ (سورة القمر: 49.)--- . لعلهم أنكروا أن الله قدر المقادير، فالآية تثبت تقدير الله تعالى للأشياء قبل وقوعها، وعلمه بها قبل وجودها، فهي رد على كل من خاصم في القدر، وقد جاء ذلك عن ابن عباس. وجاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية ثم قال:"نزلت في أناس من أمتي يكونون آخر الزمان يكذبون بالقدر" +++ (المعجم الكبير (5/ 276)--- . الصنف الثاني: الجبرية، وهم الذين عارضوا الشرع بالقدر، فعطلوا الأمر والنهي، وسلبوا العبد الإرادة والاختيار، فعلى قولهم لا يلام العاصي على معصيته، كما لا يشكر المحسن على إحسانه؛ لأن إحسان المحسن بقدر الله الذي لا اختيار له فيه ولا فعل، وكذا معصية العاصي! فجعلوا القدر حجة على تعطيل الشرع. وهذه الضلالة هي ما احتج به المشركون على النبي  صلى الله عليه وسلم  في تسويغ شركهم وكفرهم، كما قال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا باسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} +++ (سورة الأنعام: 148.)--- .وكما قال تعالى: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه} +++ (سورة النحل: 35.)--- . وقوله تعالى: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم} +++ (سورة الزخرف: 20.)--- . وقد كذبهم الله وأبطل شبهتهم وطالبهم إقامة البرهان على قولهم فقال: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا باسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} +++ (سورة الأنعام: 148.)---  كما رد الله تعالى عليهم في الاحتجاج بالقدر على ترك الطاعة في قوله تعالى: {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين} +++ (سورة يس: 47.)--- . فذكر الله احتجاجهم بالقدر على ترك التوحيد والطاعة، وردت عليهم وكذبتهم وبينت جهلهم وتخرصهم وضلالهم. وقال في آية النحل: {كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} +++ (سورة النحل: 35.)---  وقال في آية الزخرف بعد مقالتهم: {ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} +++ (سورة الزخرف: 20)--- ، وقال في آية يس: {قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه}، فوصف المحتجين بالقدر على تعطيل الشرع بالكفر حيث قال: {قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} +++ (سورة يس: 47.)--- . فلا يصح الاحتجاج بالقدر على ترك التوحيد والطاعة، ولا على فعل المعصية، بل لله الحجة البالغة على كل أحد +++ (قال تعالى: {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} قال الزجاج: «حجته البالغة: تبيينه أنه الواحد، وإرساله الأنبياء بالحجج المعجزة» زاد المسير (2/ 432).)--- ، فإنه ما من أحد إلا وله اختيار ومشيئة إلا أن مشيئته لا تخرج عن مشيئة الله - عز وجل - كما سيأتي. وقد رد الله على إبليس احتجاجه بالقدر على المعصية حين قال: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} +++ (سورة الأعراف: 16.)--- ، فقطع الله حجته وتوعده على كفره وعناده فقال: {قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين}. والمراد أن كلام المؤلف - رحمه الله - فيه الرد على القدرية الذين عارضوا القدر بالشرع فنفوه، وفيه الرد على الجبرية الذين عارضوا الشرع بالقدر فعطلوا الأوامر والنواهي وسلبواالعبد الإرادة والاختيار. قوله - رحمه الله -: «وأحضر للنظر فيه قلبا سقيما» أي: وويل لمن نظر في القدر ومسائله بقلب مريض عليل. فإن القلب المريض محجوب عن رؤية الحق وإبصار الهدى، ويورط صاحبه في الضلالة، ويورده الردى، وإنما خص القلب بالذكر لأنه به تدرك المعارف, وهو آلة النظر في المعاني والعلوم، فإذا كان سقيما مريضا لم يبصر الهدى, ولم ينج من الهوى. قوله - رحمه الله -: «لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما» أي: أن من نظر في القدر بقلب سقيم مريض فإنه قد طلب بخياله الفاسد وظنه الكاذب كشف الغيب والوصول إلى ما أخفي عنه من شأن القدر إخفاء تاما فالكتيم بمعنى المكتوم الذي لم يظهر عليه أحد, فالقدر سر الله في خلقه, كما قال - سبحانه وتعالى -: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} +++ (سورة الجن: 26.)--- . وقد تقدم تقرير ذلك. قوله - رحمه الله -: «وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما» أي: إن من نظر في القدر بقلب عليل سقيم فمآل نظره أن يرجع فيما توصل إليه مخالفا للواقع. واقعا بالإثم.

المشاهدات:4434
قوله - رحمه الله -: «وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه» هذا شروع في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في القدر, وهو أصل من أصول الإيمان , وبدأ فيه المؤلف ببيان حقيقة القدر.
وقوله: «وأصل القدر» أصل الشيء قاعدته التي يبنى عليها، سواء أكان حسيا أم معنويا، والمراد بالقدر هنا التقدير، وقد عرف الإمام أحمد القدر بأنه قدرة الله، واستحسن ذلك ابن عقيل جدا، وجعله دليلا على دقة فهم الإمام أحمد ورسوخ علمه، قال ابن القيم في «نونيته» («النونية» ص (36) :
فحقيقة القدر الذي حار الورى ***في شانه هو قدرة الرحمن
واستحسن ابن عقيل ذا من أحمد ***لما حكاه عن الرضا الرباني
قال الإمام شفا القلوب بلفظة ***ذات اختصار وهي ذات بيان
فالقدر هو حكم الله الكوني، وقد عرفه بعض أهل العلم بذكر مراتبه، من ذلك قول الناظم:
علم كتابة مولانا مشيئته *** وخلقه وهو إيجاد وتكوين
وقوله: «سر الله تعالى في خلقه» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن حقيقة القدر، وقاعدته التي يبنى عليها أنه، مما أخفاه الله تعالى، عن خلقه واستأثر به في علم الغيب عنده فلم يظهر عليه أحدا من خلقه، كما قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} (سورة الجن: 26.) ، وكما قال - عز وجل -: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} (سورة الأنعام: 59.) . فإذا تبين لك ذلك, وأيقنت أن القدر سر خفي يعجز الخلق عن إدراكه وفهمه سلمت لله - سبحانه وتعالى - قضاءه وقدره، وأيقنت أن الله - جل وعلا- حكم عدل لا يظلم الناس شيئا، كما قال تعالى: {إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون} (سورة يونس: 44.) ، {وما ربك بظلام للعبيد} (سورة فصلت: 46.) . وبهذا يقر قلب المؤمن ويطمئن بقدر الله وقضائه، ويزول ما فيه من الشوائب والكدر، فقد روى الإمام أحمد وأبو داود، عن عبدالله بن فيروز الديلمي، قال: «أتيت أبي بن كعب، فقلت له: وقع فى نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي. فقال: لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه، عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا فى سبيل الله ما قبله الله منك، حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار.
قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك - قال - ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل، ذلك - قال - ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبى - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك» ("مسند أحمد" (21653)، "سنن أبي داود" (4701)، "صحيح ابن حبان" (727) . فواجب على كل مؤمن أن يؤمن بالقدر وأنه لن يتمكن من إدراك كنهه وفهم حكمه وغاياته وأسراره. وقوله: «أصل القدر سر الله في خلقه» وصف القدر بأنه سر الله، نقل عن عيسى ابن مريم - عليه السلام -، فعن ابن عباس أن عيسى ابن مريم قال: «القدر سر الله فلا تكلفوه» (أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (10/ 261) ح/ (10604)، من طريق عبد الله بن رجاء، عن سوار بن مصعب، عن أبي يحيى القتات، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس.
وسوار بن مصعب كان عبد الله بن رجاء يقلب اسمه إلى مصعب بن سوار، هكذا قال الدارقطني في «السنن» (1/ 128)، وقال عنه البخاري في «التاريخ الكبير» «منكر الحديث». وفيه أبو يحيى القتات، قال عنه ابن معين: «في حديثه ضعف»، وقال النسائي: «ليس بالقوي».) ، وقد نقل عن ابن عمر مثله (أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (6/ 182)، وابن عدي في «الكامل» (7/ 190) كلاهما من طريق الهيثم بن جماز، عن عمران القصير، عن نافع، عن ابن عمر. وهو ضعيف لأجل الهيثم فقد ضعفه أحمد وابن معين والنسائي وغيرهم.) ، وسئل علي - رضي الله عنه - عن القدر فقال: «طريق مظلم فلا تسلكه» وقال مرة في جوابه: «بحر عميق فلا تلجه» وقال مرة: «سر الله فلا تكلفه» (أخرج هذا الأثر الآجري في «الشريعة» (2/ 952)، من طريق إسماعيل بن عمرو البجلي قال: حدثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جده، عن علي به. وهو ضعيف لأجل إسماعيل البجلي فهو ضعيف وعبدالملك بن هارون متروك.) ، وجاء رجل إلى أبي حنيفة يجادله في القدر، فقال له: «أما علمت أن الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس، كلما ازداد نظرا ازداد تحيرا؟!» ووصف القدر بأنه سر يفيد عدة فوائد:
منها: قطع النظر والتعمق في باب القدر؛ لأن ذلك لا يوصل إلى علم وبصيرة؛ فالقدر سر خفي، لا سبيل إلى تحصيله وكشفه.
ومنها: التسليم لله - عز وجل - فيما أخبر به مما بتعلق بقضائه وقدره؛ لأنه سر لا يمكن إدراكه بالعقل، فلا يمكن الاطلاع عليه.
ومنها: إبطال الاحتجاج بالقدر في معارضة الشرع ورده؛ لأن القدر غيب خفي، وسر لا يعلم، وما كان كذلك لا يصلح الاحتجاج به في رد الأمر ونهيه.
قوله - رحمه الله -: «لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل» أي: إن أصل القدر الذي هو سر خفي لم يكشفه الله تعالى لأحد من الخلق، مهما علا مقامه وسما مكانه، فالله لم يكشف سر قدره لصفوة خلقه من الملائكة والرسل، فلم يطلع على ذلك السر ملك مقرب ولا نبي مرسل، فهو من مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو، كما قال - سبحانه وتعالى -: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو} (سورة الأنعام: 59.) . وهذا لا ينفي أن يطلع الله تعالى بعض عباده على بعض ما قضاه وقدره - سبحانه وتعالى - كما قال - عز وجل -: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26)  إلا من ارتضى من رسول} (سورة الجن: 26 - 27.) .
قوله - رحمه الله -: «والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان» أي: إن أهل السنة والجماعة يعتقدون أن طلب كشف سر القدر وعلمه وتكلف ذلك فكرا وبحثا، وسؤالا وجدلا يفضي ويؤدي إلى الخذلان، وهو أن يخلي الله بين العبد وبين نفسه فلا يعينه ولا ينصره ولا يهديه سبيلا.
قوله - رحمه الله -: «وسلم الحرمان» أي: إن التعمق في القدر وطلب كشف سره وسيلة توصل إلى الحرمان، والحرمان أصله المنع، وهو هنا منع من كل خير، ورأس ذلك منع طمأنينة القلب، وانشراحه ويقينه، فإن من شك في هاذا الأمر وعمق النظر فيه ألقى الشيطان في قلبه الوساوس التي تورثه حرمان لذة الإيمان.
قوله - رحمه الله -: «ودرجة الطغيان» الدرجة: هي الرفعة في الشيء والمضي فيه، والمراد أن التعمق في القدر والنظر فيه، تجاوز للحد في العصيان، وترق فيه؛ ذلك أن أصل القدر سر أخفاه الله على خلقه، لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا، فطلبه عصيان وطغيان.
قوله - رحمه الله -: «فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة» أي: إذا تبين لك ما تقدم من شؤم التعمق في القدر والنظر فيه وما يفضي إليه من خذلان وحرمان وطغيان، فالزم الحذر والتحرز والتيقظ التام الذي لا غفلة معه، من التعمق في القدر، والنظر فيه، سواء أكان تفكرا أم تأملا أم بحثا أم استسلاما لما يقذفه الشيطان من إيرادات على القلب، تشوش عليه قلبه وتفسده.
قوله - رحمه الله -: «فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه» هذا بيان علة ما تقدم من تحذير، وذكر فيه وجهين؛ الأول: أن الله تعالى أخفى أصل القدر وحقيقته عن خلقه، والثاني: أنه تعالى نهى العباد عن طلب الوصول إلى حقيقة القدر، فقد جاء عند الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي  صلى الله عليه وسلم  خرج عليهم, وهم يتنازعون في القدر، فغضب حتى احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال: «أبهذا أمرتم أم بهذا أرسلت إليكم؟! إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا فى هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تتنازعوا فيه» (أخرجه الترمذي (2133)، وقال: «حديث غريب».) ، والتنازع فيه يستلزم التعمق في القدر والنظر فيه، وقد جاءت أحاديث كثيرة، في ذم الخائضين في القدر لا تخلو من مقال، إلا أن مجموعها قد يفيد ثبوت الذم، منها قوله  صلى الله عليه وسلم : «القدرية مجوس هذه الأمة» (أخرجه أبو داود (4691)، والحاكم (1/ 159) ح (286)، والبيهقي (10/ 203) ح (20658)، من طريق موسى بن إسماعيل، ثنا عبد العزيز بن أبي حازم، قال حدثني بمنى عن أبيه، عن ابن عمر، مرفوعا. قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين». قال المنذري في «مختصره» (7/ 58): هذا منقطع؛ أبو حازم سملة بن دينار لم يسمع من ابن عمر، وقد روي هذا الحديث من طرق عن ابن عمر ليس فيها شيء يثبت». وما أخرجه مسلم (8) من حديث يحيى بن يعمر في قصة سؤاله ابن عمر فقال: إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن، ويتقفرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف، قال: «فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني».  ذلك أنهم ممن تعمق في القدر ونظر فيه على غير هدى من الله فعارضوا به الشرع فضلوا بذلك.
قوله - رحمه الله -: «كما قال الله تعالى في كتابه: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}» هذا مما استدل به المؤلف على ما تقدم من وجوب ترك التعمق والنظر في القدر، فإنه إذا كان لا يسأل عما يفعل وجب التسليم له، ومن لازم التسليم ترك التعمق في القدر
والنظر فيه، فمن عارض الله في قدره فقد نازع الله - عز وجل - في حكمه.
قوله - رحمه الله -: «فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب» هذا بيان وجه الدلالة في الآية, وهو أن من قال في أقدار الله تعالى وأقضيته: لماذا فعل الله كذا؟ تعمقا ونظرا ومعارضة، فإنه قد وقع في رد ما قضى الله تعالى به في كتابه، من كونه جل وعلا: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون}.
قوله - رحمه الله -: «ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين» أي: إن من لم يسلم لحكم القرآن ورده فإنه يكون بذلك من الكافرين؛ لأن السؤال عن أفعال الله - عز وجل - على وجه الاعتراض، منازعة لله تعالى في حكمه، ومعارضة له في قضائه، وهذا ينافي ما يجب لله تعالى من التسليم ويناقض الإيمان؛ فإن بناء الإيمان على الاستسلام لله.
قوله - رحمه الله -: «فهاذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى» المشار إليه ما تقدم تقريره من سبق علم الله - جل وعلا - للأشياء، وأن القدر سر الله في خلقه، وأن التعمق والنظر فيه من أسباب الخذلان والحرمان والطغيان. فالعلم بمجموع ما تقدم بيانه هو القدر الذي يكتفي به من نور الله قلبه بأنوار الرسالة وهداياتها، كما قال الله - جل وعلا-: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات} (سورة الأنعام: 122.) ، فالقرآن نور وهدى، فكلما عظم في قلب العبد نور القرآن، تبددت الشبهات، وانقشعت الظلمات، وزالت كل المكدرات. وكلما خفي هاذا النور، التبس الأمر على الإنسان، وضل وأصيب بالحيرة والتيه والاضطراب والتناقض، كما قال الله - جل وعلا -: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج} (سورة ق: 5.) . والله - سبحانه وتعالى - بعث محمدا  صلى الله عليه وسلم  بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والنور الذي أخرجهم إليه هو نور النبوة والقرآن. ومنور القلب هو الذي لم يجاوز ما جاء في الكتاب والسنة، ولم يدخل في هاذا الأمر بعقله ولا بفاسد رأيه.
وقوله: «من أولياء الله تعالى» "من" هنا بيانية، والمعنى أن أولياء الله وهم أهل محبته وتقواه والإيمان به، يكتفون في هذا الباب بما جاءت به الأخبار دون زيادة. والأولياء جمع ولي, والولي من كان لله تقيا كما قال تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون" فطريق حصول الولاية تحقيق التقوى والإيمان}.
قوله - رحمه الله -: «وهي درجة الراسخين في العلم» أي: إن إدراك جملة ما ذكر في شأن القدر، يبلغ بها المرء درجة الراسخين في العلم بالله وأسمائه وصفاته، والرسوخ في العلم هو الثبات فيه والتمكن منه، والنفوذ إلى أسراره وغاياته، فالرسوخ في العلم لا يدرك بالتعمق فيما لا طائل وراءه، ولا في الخوض فيما حظر عليه علمه، ولا في تكلف طلب ما لا سبيل إلى معرفته، مما تقصر عنه الأفهام ولا تستقل بإدراكه الأذهان، بل هو مزلة ومضلة: مزلة عن الطريق المستقيم، ومضلة يضل بها عن سبيل الله القويم.
قوله - رحمه الله-: «لأن العلم علمان» أي: إن علة كون إدراك جملة ما تقدم، يوصل إلى درجة الراسخين في العلم، هي أن العلم ينقسم إلى قسمين بالنظر إلى إمكانية الإدراك والتحصيل, وسيأتيان في كلام المصنف.
قوله - رحمه الله -: «علم في الخلق موجود» هذا هو العلم الأول، وهو علم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم  في القرآن والسنة، من الأخبار والأحكام.
قوله - رحمه الله -: «وعلم في الخلق مفقود» هذا هو العلم الثاني، وهو ما استأثر الله تعالى به من الغيب الذي من جملته أسرار أقداره التي لم يطلع عليها أحدا من خلقه، كما قال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا  (26) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} (سورة الجن: 26 - 27).
قوله - رحمه الله -: «فإنكار العلم الموجود كفر» أي: إن عدم قبول القلب لما جاء به القرآن والسنة، ورد ذلك كفر بالله العظيم.
قوله - رحمه الله -: «وادعاء العلم المفقود كفر» أي إن دعوى الإنسان علم الغيب، الذي لا سبيل إلى إدراكه، كفر بالله، قال الله تعالى: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون} (سورة النمل:65.)  , وقال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو}. فمن ادعى علم الغيب كذب القرآن، وتكذيب القرآن كفر بالله العظيم.
قوله - رحمه الله -: «ولا يصح الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود» أي: إن أهل السنة والجماعة، يعتقدون أنه لا يقبل الإيمان ولا يعتبر ولا يعتد به، إلا بأمرين:
الأمر الأول: قبول العلم الموجود، وهو ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الهدى ودين الحق، كما قال الله - جل وعلا-: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (سورة النساء: 65.) ، أي: يقبلوه قبولا لا منازعة فيه ولا تردد، بل قبول إذعان وانقياد.
الأمر الثاني: الإعراض عن طلب العلم المفقود، وهو ما استأثر الله بعلمه، فلم يظهر عليه أحدا من خلقه، ومنه علم كيفيات ما أخبر الله به عن نفسه، من أسمائه وصفاته، كما قال تعالى: {وما يعلم تاويله إلا الله} (سورة آل عمران: 7) ، ومنه علم سر القدر، وما سبق به من تقدير الله تعالى قبل وقوعه، فإنه لا سبيل إلى علم ذلك إلا بطلبه من عالمه، وقد حظره الله تعالى وأخفاه، إلا على من شاء من عباده، كما قال تعالى: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول} (سورة الجن.) .
قوله - رحمه الله -: «ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم» أي: إن أهل السنة والجماعة، يقرون جازمين بما جاءت به الأدلة في الكتاب والسنة في شأن اللوح والقلم، وبجميع ما فيه رقم. و «اللوح» في اللغة كل صحيفة عريضة، خشبا أو عظما، والمراد به هنا اللوح المحفوظ، وهو ما كتب الله فيه مقادير كل شيء، فهو مستودع مشيئات الله تعالى وأقداره، وهو اللوح المحفوظ المذكور في قوله تعالى: {بل هو قرآن مجيد (21) في لوح محفوظ} (سورة البروج: 21 - 22.) ، وهو أم الكتاب المذكور في قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} (سورة الرعد: 39) ، وهو الكتاب المبين المذكور في قوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين} (سورة الأنعام: 59)  , وهو الإمام المبين المذكور في قوله تعالى: {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} (سورة يس: 12.) ، وهو الكتاب المكنون المذكور في قوله تعالى: {إنه لقرآن كريم (77) في كتاب مكنون} سورة الواقعة , وهو الذكر، كما في قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} (سورة الأنبياء: 105.) ، وقد قال النبي  صلى الله عليه وسلم  في جواب من سأله عن أول هاذا الأمر: «وكتب في الذكر كل شيء» (خرجه البخاري (3191)، (7418) .
وقوله: «والقلم» أي: نؤمن بالقلم، وهو في اللغة الآلة التي يكتب بها، والمراد به هنا القلم الأعظم الذي أقسم الله تعالى به في قوله: {ن والقلم وما يسطرون} (سورة القلم:1.) ، وقد أمر الله تعالى القلم أن يكتب مقادير كل شيء، فجرى القلم بأمر الله بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة، كما جاء فيما رواه أصحاب «السنن» من حديث عبادة بن الصامت أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال: «إن أول ما خلق الله القلم, فقال له: اكتب، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة». هذا لفظ أبي داود (سنن أبي داود (4700) . وفي رواية الترمذي: «اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد» (سنن الترمذي (2155)، وقال: «غريب من هذا الوجه».) . وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على سبق الكتابة للمقادير، وأنه لا يقع شيء في الكون إلا وقد تقدمت كتابته في اللوح المحفوظ, ومن ذلك قول الله تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها} (سورة الحديد: 22.) ، ومنه أيضا قوله تعالى: {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا} (سورة التوبة: 51.) ، وقوله: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} (الأنفال: 68.) ، وغيرها كثير. ومن السنة ما في «الصحيح» من حديث عبد الله بن عمرو، قال النبي  صلى الله عليه وسلم : «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة -قال- وعرشه على الماء» (أخرجه مسلم (2653)
، وهذه الكتابة هي الكتابة العامة الشاملة، ثم تلاها كتابات دون هذه الكتابة في المنزلة والمكانة والعظم، وهي متنوعة، ولها أقلام، كل كتابة لها قلم، وقد قال النبي  صلى الله عليه وسلم  فيما أخبر به مما جرى ليلة المعراج: ((ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام))  (صحيح البخاري (349)، وصحيح مسلم (163) ، وصريف الأقلام صوت جريها وكتابتها، وهذه الأقلام هي التي تكتب قدر الله اليومي، كما قال الله جل وعلا: {كل يوم هو في شان} (سورة الرحمان: 29.) . يعز من يشاء ويذل من يشاء، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، يرفع من يشاء ويضع من يشاء، يحيي ويميت، يدبر أمر مملكته جل وعلا لا إله إلا هو.
قوله - رحمه الله -: «وبجميع ما فيه قد رقم» أي: نؤمن بأن ما حواه الكتاب المكنون واللوح المحفوظ، هو قضاء الله تعالى وقدره الذي لا يخرج عنه شيء من حوادث الكون، وهذا الإيمان من مقتضيات الإيمان بالقدر ولوازمه، فلا يتم إيمان أحد إلا به.
قوله - رحمه الله -: «فلو اجتمع الخلق كلهم ... » أي، إنه لو اتفق كل الخلق، من أولهم إلى آخرهم حيث كانوا في السماوات أو في الأرض، على أن يغيروا شيئا مما قضاه الله وقدره، إيجادا أو إعداما، فإنهم عاجزون عن ذلك كله. فإنه لا تبديل لخلق الله ولا راد لأمره ولا معقب لحكمه - سبحانه وتعالى -، وقد جاء ذلك في وصية النبي  صلى الله عليه وسلم  لابن عباس حيث قال: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (أخرجه الترمذي (2516) وقال: «حسن صحيح»، وأحمد (1/ 293) .
قوله - رحمه الله -: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» أي، إن القلم قد انقطعت كتابته وفرغ منها, فهو من باب إطلاق اللازم على الملزوم؛ لأن الفراغ من الكتابة يستلزم جفاف القلم وثبات المكتوب في اللوح من مقادير كل شيء إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين. وقد ورد ذلك في قول النبي  صلى الله عليه وسلم  لأبي هريرة - رضي الله عنه -: «جف القلم بما أنت لاق» رواه البخاري (برقم (5076)  "وكتاب الله ولوحه وقلمه من غيبه ومن علمه
الذي يلزمنا الإيمان, ولا يلزمنا معرفة صفته" ("فتح الباري"لابن حجر (11/ 491) .
قوله - رحمه الله -: «وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه» أي: إن ما تجاوز الإنسان وتعداه من المقادير، فإنه لا يمكن أن ينزل به ويناله من خير أو شر، وما قدر الله أنه نازل به فإنه لن يتجاوزه، ودليل ذلك: ما جاء مرفوعا في بعض روايات حديث وصية النبي  صلى الله عليه وسلم  لابن عباس ولفظه: «واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك» (أخرجه عبد بن حميد (636)  , وقد جاء عن جماعة من الصحابة أنهم قالوا لمن سألهم عن القدر: لو أنفقت مثل جبل أحد ذهبا في سبيل الله لم يتقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك (أخرجه أبو داود (4699)،و ابن ماجه (77)، وأحمد (5/ 182)،وابن حبان (2/ 505)، وهو مروي عن أبي بن كعب، وحذيفة، وابن مسعود، وزيد بن ثابت) ، وفي هذا عظم منزلة القدر، وأنه كما قال ابن عباس: القدر نظام التوحيد (تقدم تخريجه.) ، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده.
قوله - رحمه الله -: «وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه» أي، إنه يجب على كل أحد: أن يعتقد أن الله تعالى علم الحوادث والوقائع والأشياء على التفصيل قبل وقوعها، وقد سبق تقرير هاذا بأدلته مفصلا.
قوله - رحمه الله -: «وقدر بمشيئته ذلك تقديرا محكما» أي: إن الله قضى ما سبق به علمه في كل كائن من خلقه، قضاء متقنا صادرا عن مشيئته وإرادته له فيه الحكمة البالغة، قال الله جل وعلا: {إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم} (سورة يوسف:100.) ، أي: المحكم المتقن أي المحكم لما شاءه وقدره فله جل وعلا الحكم والحكمة والإحكام، فالله - جل وعلا - أتقن القدر إتقانا يدل على عظيم قدره وقدرته؛ ولذلك لما سئل الإمام أحمد - رحمه الله - عن تعريف القدر قال: «القدر قدرة الله» (ينظر:"منهاج السنة" (3/ 151) ؛ لأن من كذب بالقدر فقد كذب بقدرة الله جل وعلا.
قوله - رحمه الله -: «مبرما ليس له ناقض» أي: إن قضاء الله وقدره لا يتطرق إليه نكث يزيل الحكم بالكلية، قبل وقوعه. فلا أحد يقدر أن يرد قدر الله جل وعلا، بل قدر الله نافذ؛ لنفوذ قدرته ومشيئته - سبحانه وتعالى -، فهو ذو القدرة البالغة، والمشيئة النافذة، سبحانه وبحمده لا إله إلا هو.
قوله - رحمه الله -: «ولا معقب» أي: لا مؤخر، لقدر الله، كما قال تعالى: {والله يحكم لا معقب لحكمه} (سورة الرعد: 41.) ، أي: لا يقدر أحد أن يرد حكم الله أو يراجعه فيه أو يؤخره.
قوله - رحمه الله -: «لا مزيل» أي: إنه لا رافع لقضاء الله وقدره، بعد وقوعه، قال الله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير} (سورة الأنعام:17.) ، وقال تعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} (سورة يونس:107.) .
قوله - رحمه الله -: «ولا مغير» أي: إنه لا مبدل لقضاء الله وقدره، والتبديل يشمل جميع ما تقدم من النقض والتعقيب والإزالة فكلها تغيير.
قوله - رحمه الله -: «ولا محول» أي: لا صارف لقضاء الله وقدره ولا ناقل له عما أراده الله تعالى، زمانا ولا مكانا ولا حالا ولا عينا ولا وصفا، كما قال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا} (سورة الإسراء:56.) .
قوله - رحمه الله -: «ولا ناقص ولا زائد» أي إنه لا ينقص ما قدره الله تعالى وقضاه، ولا يزيد عليه أحد، بل كل الحوادث تقع مطابقة لما سبق به تقدير الله وقضاؤه من غير زيادة ولا نقص عما سبق به تقدير الله تعالى، كما قال الله - سبحانه وتعالى -: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} (سورة فاطر: 11.) ، فكل زيادة في الأعمار أو نقص فيها، سواء في أعمار الأجناس أو الأفراد فقد فرغ منها في كتاب، أي في مكتوب قبل خلقه وإيجاده, فلا زيادة عليها ولا نقصان فيها، وهكذا سائر ما قضاه الله تعالى وقدره.
قوله - رحمه الله -: «وذلك من عقد الإيمان، وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته» أي إن العلم بما تقدم بيانه من مسائل القدر، فالعلم به مما ينعقد به الإيمان، فهو من شعبه وخصاله الكبرى التي لا يثبت الإيمان إلا بها، وهو مما تبنى عليه المعارف والمدارك, وهو مما يتحقق به إفراد الله تعالى بما يستحقه في ألوهيته وربوبيته, فمن ضل في مسألة القدر فإنه لم يكمل ما يجب لله تعالى من التوحيد في إلهيته وربوبيته؛ لأن من توحيد الربوبية الإيمان بأن الله خالق كل شيء، ولا بد في الخلق من قدرة ومشيئة وعلم، لذلك قال ابن عباس: القدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده.
قوله - رحمه الله -: «كما قال الله - عز وجل - في كتابه: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا}».
هذا استدلال لما تقدم من مسائل القدر، فقوله جل وعلا: {وخلق كل شيء فقدره تقديرا}، يدل على جميع ما سبق من مسائل القدر، إما دلالة مطابقة وإما دلالة لزوم وإما
دلالة تضمن. ومما يدل له أيضا قول الله تعالى: {وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم}. فمذهب السلف قاطبة أن الأمور كلها بتقدير الله تعالى.
قوله - رحمه الله -: «قال - سبحانه وتعالى -: {وكان أمر الله قدرا مقدورا}» هذا دليل آخر على ما تقدم من أن ما قضاه الله تعالى وقدره، واقع كما قضى دون تعد ولا نقص ولا تغيير ولا تبديل.
وقوله تعالى: {أمر الله}، أي: ما أمر به من خلقه، فالأمر هنا بمعنى المأمور وهو من باب إضافة المصدر الذي بمعنى اسم المفعول إلى فاعله، وهو نظير قوله - عز وجل -: {هذا خلق الله} (سورة لقمان: 11.) ، أي: مخلوقه، فأطلق المصدر وأراد به المفعول، وهذا كثير في لغة العرب، ومنه قول الله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه} (سورة النحل: 1.) . فالذي أتى هو مأمور الله، أي: مخلوقه الذي قضاه - سبحانه وتعالى -.
وبهاذا ينتهي ما ذكره المؤلف - رحمه الله - في هاذا المقطع من كون الإيمان بالقدر من لوازم الإيمان وأصول المعرفة، ومن لوازم الاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته.
قوله - رحمه الله -: «فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما» أي إن من خاصم الله تعالى في قضائه وقدره ونصب نفسه معارضا منازعا لقدر الله فله الويل. والويل: كلمة وعيد ووبال وشدة عذاب (ينظر: «النهاية في غريب الحديث والأثر» لابن الأثير (5/ 532)  أو دعاء بذلك، ولا مانع من أن تحمل الكلمة على كلا المعنيين الخبر والإنشاء.
وقوله: «خصيما» فعيل بمعنى فاعل، أي مخاصما منازعا، وهذا وصف لكل منازع في القدر غير مسلم لله تعالى في قضائه وقدره. وإمام المخاصمين لله في القدر إبليس الشيطان الرجيم عليه لعائن الله، حيث قال: {رب بما أغويتني} (سورة الحجر: 39.) ، فخاصم الله جل وعلا في قدره، واحتج لتبرير ضلاله واستكباره وإبائه بالقدر، ولم يعترف ويقر بالذنب والخطأ. وفي الجملة يمكن القول بأن خصماء الله في القدر أصناف:
الصنف الأول: القدرية والنفاة، وهم الذين قالوا: «إن الله لم يقدر شيئا، وإن الأمر أنف».وهذه البدعة ظهرت أواخر زمن الصحابة - رضي الله عنهم -، وقد ردها ابن عمر وغيره من صحابة رسول الله  صلى الله عليه وسلم . وقد خاصم المشركون رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، في القدر كما جاء في «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرة (" صحيح مسلم" (2656))  أن المشركين جاؤوا يخاصمون النبي  صلى الله عليه وسلم  في القدر، فأنزل الله قوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (سورة القمر: 49.) . لعلهم أنكروا أن الله قدر المقادير، فالآية تثبت تقدير الله تعالى للأشياء قبل وقوعها، وعلمه بها قبل وجودها، فهي رد على كل من خاصم في القدر، وقد جاء ذلك عن ابن عباس. وجاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية ثم قال:"نزلت في أناس من أمتي يكونون آخر الزمان يكذبون بالقدر" (المعجم الكبير (5/ 276) .
الصنف الثاني: الجبرية، وهم الذين عارضوا الشرع بالقدر، فعطلوا الأمر والنهي، وسلبوا العبد الإرادة والاختيار، فعلى قولهم لا يلام العاصي على معصيته، كما لا يشكر المحسن على إحسانه؛ لأن إحسان المحسن بقدر الله الذي لا اختيار له فيه ولا فعل، وكذا معصية العاصي! فجعلوا القدر حجة على تعطيل الشرع. وهذه الضلالة هي ما احتج به المشركون على النبي  صلى الله عليه وسلم  في تسويغ شركهم وكفرهم، كما قال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا باسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} (سورة الأنعام: 148.) .وكما قال تعالى: {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه} (سورة النحل: 35.) . وقوله تعالى: {وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم} (سورة الزخرف: 20.) . وقد كذبهم الله وأبطل شبهتهم وطالبهم إقامة البرهان على قولهم فقال: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا باسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون} (سورة الأنعام: 148.)  كما رد الله تعالى عليهم في الاحتجاج بالقدر على ترك الطاعة في قوله تعالى: {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين} (سورة يس: 47.) .
فذكر الله احتجاجهم بالقدر على ترك التوحيد والطاعة، وردت عليهم وكذبتهم وبينت جهلهم وتخرصهم وضلالهم.
وقال في آية النحل: {كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} (سورة النحل: 35.)  وقال في آية الزخرف بعد مقالتهم: {ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون} (سورة الزخرف: 20) ، وقال في آية يس: {قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه}، فوصف المحتجين بالقدر على تعطيل الشرع بالكفر حيث قال: {قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه} (سورة يس: 47.) . فلا يصح الاحتجاج بالقدر على ترك التوحيد والطاعة، ولا على فعل المعصية، بل لله الحجة البالغة على كل أحد (قال تعالى: {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} قال الزجاج: «حجته البالغة: تبيينه أنه الواحد، وإرساله الأنبياء بالحجج المعجزة» زاد المسير (2/ 432).) ، فإنه ما من أحد إلا وله اختيار ومشيئة إلا أن مشيئته لا تخرج عن مشيئة الله - عز وجل - كما سيأتي.
وقد رد الله على إبليس احتجاجه بالقدر على المعصية حين قال: {قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم} (سورة الأعراف: 16.) ، فقطع الله حجته وتوعده على كفره وعناده فقال: {قال اخرج منها مذءوما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين}. والمراد أن كلام المؤلف - رحمه الله - فيه الرد على القدرية الذين عارضوا القدر بالشرع فنفوه، وفيه الرد على الجبرية الذين عارضوا الشرع بالقدر فعطلوا الأوامر والنواهي وسلبواالعبد الإرادة والاختيار.
قوله - رحمه الله -: «وأحضر للنظر فيه قلبا سقيما» أي: وويل لمن نظر في القدر ومسائله بقلب مريض عليل. فإن القلب المريض محجوب عن رؤية الحق وإبصار الهدى، ويورط صاحبه في الضلالة، ويورده الردى، وإنما خص القلب بالذكر لأنه به تدرك المعارف, وهو آلة النظر في المعاني والعلوم، فإذا كان سقيما مريضا لم يبصر الهدى, ولم ينج من الهوى.
قوله - رحمه الله -: «لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما» أي: أن من نظر في القدر بقلب سقيم مريض فإنه قد طلب بخياله الفاسد وظنه الكاذب كشف الغيب والوصول إلى ما أخفي عنه من شأن القدر إخفاء تاما فالكتيم بمعنى المكتوم الذي لم يظهر عليه أحد, فالقدر سر الله في خلقه, كما قال - سبحانه وتعالى -: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا} (سورة الجن: 26.) . وقد تقدم تقرير ذلك.
قوله - رحمه الله -: «وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما» أي: إن من نظر في القدر بقلب عليل سقيم فمآل نظره أن يرجع فيما توصل إليه مخالفا للواقع. واقعا بالإثم.
المادة السابقة
المادة التالية

الاكثر مشاهدة

3. لبس الحذاء أثناء العمرة ( عدد المشاهدات90644 )
6. كيف تعرف نتيجة الاستخارة؟ ( عدد المشاهدات87045 )

مواد تم زيارتها

التعليقات


×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف